q
هل نتخلى عن الحياة وننهزم أمام الفكر المتعصب والقيم القميئة؟، بالطبع سيأتي الجواب بـ كلا، فالعراقيون وإن اختلطت الأوراق عليهم، لكنهم لا زالوا قادرين على الفرز بين الصالح والطالح، ويعلمون أن مسؤولية الحفاظ على السلم الأهلي يقع عليهم بالدرجة الأولى (النخب والقواعد)، لذلك بدأت بوادر نبذ التعصب الفكري تتضافر فيما بينها، وتقف مع بعضها كالبنيان المرصوص لمواجهة المحاولات البائسة للنيل من السلم الأهلي...

إذا تخلخل الفكر وفقد سمة الاعتدال والتوازن، لا يعبث بالبنية الفكرية وحدها، فسوف ينسحب ذلك على البنيات الأخرى، ويصيبها التخلخل بدرجات متفاوتة، وأكثرها تأثّرا بتخلخل الفكر البنية الاجتماعية، والتي ستنعكس بدرجة كبيرة على بنية أخرى محايثة لها هي البنية السياسية، بالأخص إذا عرفنا أن التعصب هو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جانب معين، والتعصب ظاهرة قديمة حديثة ترتبط بها العديد من المفاهيم كالتمييز العنصري والديني والطائفي والجنسي والطبقي، ويمكن أن نستنتج من دراستنا للحروب والصراعات التاريخية أن كثيرا منها كان سببه التعصب للدين أو العرق أو اللون، وما زالت هذه الظاهرة تتجدد باستمرار في عصرنا الحالي وتشكل آفة تدمر الشعوب بعد أن تشعل فيها فتيل الحروب الأهلية بفعل التعصب.

وقد سعى المجتمع الدولي عبر منظماته لمحاصرة هذا النوع من الفكر الذي يقوم على التمايز بين الأفراد أو بين الجماعات، داخل المجتمع الواحد، أو بين أكثر من دولة ومجتمع، وقد صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني عام 1981م إعلان خاص بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقدات، وتعني أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس الدين أو المعتقد، ويكون غرضه أو أثره تعطيل أو إنقاص الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على أساس من المساواة، وينتعش التعصب لأسباب منها تفاقم قيم دخيلة على القيم الأصيلة، وضعف القانون تشريعا وتطبيقا وفحوى، بالإضافة إلى تخلل الفكر والسياسة والاجتماع، فما هو حظ العراق من هذه الظاهرة، وهل يوجد بالفعل تعصّب يدفع باتجاه تحطيم الركائز التي يقوم عليها السلم الأهلي؟.

يشتهر المجتمع العراقي بالتنوع منذ أزمنة موغلة بالقِدم، ولا يقتصر ذلك على الإثنيات أو التنوع الذاتي، فثمة العديد من الأعراق، وتتداخل الأديان في بينها، وثمة الطوائف والمذاهب، ويُضاف إلى كل هذا تعدد القبائل وتنوعها وامتدادها على طول الأرض العراقية في الجهات الأربع، وهكذا يكون الباحث والمهتم والدارس أما توّع كبير، وهويات فرعية كثيرة، حتى العامل الجغرافي أو ما يسمى بالمناطقية يدخل في قضية التنوع البشري في العراق، ومنذ مطالع 2003 وإلى اللحظة الراهنة تضخّمت مشكلة التنوع المجتمعي، وأدّى التعصب لدى معظّم المكونات إلى الانحياز الذي بعيدا عن معايير العدل، وأدى ذلك بالمجمل إلى تخلخل فكري قاد بدوره إلى إحداث تخلخل أخطر اشتدّ تأثيره (في سنوات معروفة، سمّيت بـ سنوات الفتنة الطائفية)، وأدى بالنتيجة إلى تهشيم ركائز السلم الأهلي.

وفي سنوات معينة في الفترة الممتدة بين 2003 إلى 2008، شابت البنية الاجتماعية أمراض خطيرة، فارتفع منسوب التمييز على أسس العرق والدين والطائفة والعشيرة وحتى المنطقة أو المدينة، وصار القتل مباح على الهوية وحتى على الاسم أيضا أو اللغة، وتحول العراق إلى غابة يأكل فيه القوي الضعيف ويظلم فيه كل ذي قوة أو جاه أو سلطة من أي نوع كان، حتى لكأن العدل صار في خبر كان، وما زاد الطين بلّة أن هناك محركات عملاقة تديم هذا التمايز وتصب الزيت على النار، وتدفع باتجاه إضعاف الدولة والحكومة والقانون، لتتشكل بنية مجتمعية علاقاتية يسودها منطق الغاب، ويشعلها التعصب الفكري في أية لحظة.

وظهرت معادلة التعصب الخطيرة إلى العلن، بعد أن كانت تتخفى وراء أستار مختلفة، هذه المعادلة يشكل طرفيها الفكر المتعصب من ناحية، وضرب ركائز السلم الأهلي من ناحية أخرى، وبقيت هذه الظاهرة في ديمومة وانتعاش، وهناك من يديمها ويزيد من أوارها، قد اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد العراقيون على يقين أو معرفة بمن يديم نيران الفتن، ويضرب الدعامات التي يقف عليها السلم الأمني، هذه الصورة كانت تشكل مشهدا سوداويا في الأعوام التي سميت بأعوان الفتنة، أما الآن فقد قلَّ تأثيرها لكنها لم تنتهِ كليّا، أي أن هناك من يسعى بين حين وآخر لضعضعة السلم الأهلي، ويخيف الناس، حتى يكون قادرا على الوصول لمآربه من دون معارضة وبالسهولة التي لا تكلفه جهودا كبيرة أو خسائر مادية أو حتى معنوية.

ولكن تبقى ديمومة التعصب الفكري معرّضة للإضعاف والتقويض وقد تصل حتى درجة المحو والإزالة على نحو كلّي، خصوصا أنها تعتمد خلخلة البنية الفكرية أولا، وتمضي باتجاه تدمير القيم الوضاءة، وتُنعش آمالها بين حين وحين بإثارة الفتن هنا وهناك، ولدينا أمثلة على هذا النوع من التردّي المجتمعي الأمني المزدوج، منها على سبيل المثال وليس الحصر، ما حدث من قتال ومواجهات دامية بين ثلاث عشائر على عائدية متنزّه يقع في منطقة الحبيبية في بغداد، أو تلك الأروح التي أزهقت في قتال حدث نتيجة الاختلاف على عائدية (ديك)، كما جرى ذلك في إحدى محافظات الوسط، إن مثل هذه الأسباب التي نربأ بأنفسنا عن ذكرها بالتفاصيل لشعورنا بالخجل، تحدث بسبب التعصب الفكري الجاهل، وكما قلنا هناك من يتبنّاها ويدعمها وينمّيها لأن مصالحه ذات الصبغة المادية والسياسية قائمة على ديمومة التعصب في الفكر والقيم وما إلى ذلك.

بعد هذا الاستعراض لنتائج التعصب، وما أنتجه من كوارث خلخلت البنيات المترابطة، هل يمضي الحال على هذا المنوال؟، وهل نتخلى عن الحياة وننهزم أمام الفكر المتعصب والقيم القميئة؟، بالطبع سيأتي الجواب بـ كلا، فالعراقيون وإن اختلطت الأوراق عليهم، لكنهم لا زالوا قادرين على الفرز بين الصالح والطالح، ويعلمون أن مسؤولية الحفاظ على السلم الأهلي يقع عليهم بالدرجة الأولى (النخب والقواعد)، لذلك بدأت بوادر نبذ التعصب الفكري تتضافر فيما بينها، وتقف مع بعضها كالبنيان المرصوص لمواجهة المحاولات البائسة للنيل من السلم الأهلي، وهذا هو المتوقّع من العراقيين بتأريخهم المشرّف وأرضهم المعطاء، وعلمهم وثقافتهم، وإذا تكالبت عليهم قوى من الخارج والداخل لتمزيق صفهم وبلدهم، فإن النظر إلى أمام والاصطفاف مع بعض بقوة، والتفاؤل بمتقبل أكثر إشراقا، بالتخطيط والتطبيق، سوف يطفئ جذوة التعصب الفكري، ويحفظ هيكلية السلم الأهلي ويزيدها رصانة واكتمالا، وهذا ما يخطط له مفكرون ورجال دين وناشطون مدنيون ومثقفون يمتلكون رؤية الإنقاذ التي تضع حدا لتنمّر واستئساد المتعصبين وكنس فكرهم المريض بعيدا عن اللحمة الاجتماعية الآخذة بالتماسك والثبات.

اضف تعليق