قد يستغرب كثيرون، لاسيما الأمم الأخرى، كيف استطاع رجل ظهر من وسط اجتماعي متأخر، كما في المجتمع الجاهلي بالجزيرة العربية، ليجعل ذلك الوسط المتأخر في غضون عقدين من الزمن مجتمعا متحضرا في دولة جديدة، تمكنت من أن تضاهي الدول العظمى القائمة آنذاك وتتفوق عليها، علْماً وأعمالاً وفكراً وقوةً، بل في الحقيقة إنهم كانوا ولا زالوا يستغربون ما حدث، وأي نوع من الفكر والقيم المضيئة، تلك التي استطاعت أنت تغيّر الناس وتقنعهم بتغيير أفكارهم ومبادئهم وحتى دينهم الذي كانوا يعتقدون به قبل الاسلام.
ولعلنا لا نأتي بجديد عندما نقول بأن أصعب حالات التغيير هي تلك التي تتعلق بالأفكار، والقيم والعادات التي تربّى عليها الناس، فكيف يمكن أن تنتزع عادات وقيم نشأ في ظلها الناس أطفالا وشبابا وكهولا، حيث غرسها آباؤهم في نفوسهم فشربوها مع الحليب الذي رضعوه صغارا، ثم شبوا كبارا على المبادئ والأفكار والنواميس ذاتها، إن الأمر حقا في غاية الصعوبة إن لم يكن محالا، لكن العقل المتفرد والقلب العظيم والنفس الكبيرة لقائد المسلمين النبي محمد (ص)، كان قادرة على أن تحدث هذا التغيير المجتمعي الأخلاقي السياسي الهائل من خلال التبليغ الصحيح، حيث يقتنع الناس بالفكر الجديد والقيم المحدث التي جاءت لصالحهم.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي، في احدى كلماته التوجيهية حول التبليغ: (لقد امتلأ تاريخ الإسلام بالجوانب المشرقة من الأخلاق العظيمة للنبيّ صلى الله عليه وآله وقصصه الراقية والعجيبة، في تحمّله صلى الله عليه وآله للأذى والمشاق التي كانت تعترضه صلى الله عليه وآله في سبيل تبليغ ونشر الدين الإلهي وكان يشتريها بكل وجوده).
ويؤكد سماحته في المجال نفسه، على حتمية الاقتداء بالأسلوب النبوي وأخلاقه العظيمة في التبليغ، وإقناع الناس بمبادئ الإسلام كي يتم غرس هذه القيم الجديدة في أعماقهم، فتصبح أفعالهم وسلوكهم وعاداتهم وأخلاقهم محكومة بهذا الفكر الخلاق، ويقتنعوا به قناعة تامة، والابتعاد عن الغضب أثناء القيام بهذه المهمة الكبرى.
من هنا يطالب سماحة المرجع الشيرازي بالتزام الأسلوب القويم قائلا: (علينا أن نقتدي بالأخلاق النبويّة في ممارسة التبليغ. فإذا أهانكم أحد أو اتهمكم وأنتم في حال التبليغ، فحافظوا على أنفسكم بأن لا تغضبوا سريعاً ولا تواجهونه بالمثل).
التعامل الأحسن يتقدم على سواه
ولابد أننا قرأنا أو سمعنا بالكيفية التي تعامل بها المبلّغون الأوائل مقتدين بالأسلوب النبوي في غرس القيم والعادات النبيلة في نفوس الناس، فكانوا أولئك الرجال من النوع الذي لا يرد حتى على من يعتدي عليه، وإن أجاز له الإسلام في النص القرآني على رد الأذى بالمثل، ولكن النبي (ص) فضّل اعتماد نصا قرآنيا أكثر ليناً في التعامل مع الآخر المضاد أو الند أو الذي لم يقتنع بالأفكار الجديدة التي تطرأ على حياته ومجتمعه، فكان أسلوب النبي (ص) هو (ادفع بالتي هي أحسن)، أي عدم مواجهة الطرف الآخر بالمثل، فماذا كانت النتيجة؟؟. لقد كسب قائد المسلمين الأعلى، حتى قلوب أعدائه بهذا الأسلوب الخلاق من التعامل.
كما ورد ذلك في الكلمة السابقة لسماحة المرجع الشيرازي قائلا: (بلى إن القرآن الكريم قد أعطى الحقّ في الردّ على المعتدي بقوله عزّ من قائل: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ». ولكن هذه الآية هي رخصة وليست إلزاماً، لأنه قال سبحانه وتعالى في جانب آخر: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ». فكل شخص له الحقّ في أن يردّ بالمثل على من اتهمه أو آذاه أو تعامل بالسوء معه، ولكن الله تعالى أوصى في الآية الأخيرة بالتعامل الأحسن).
إنك إذا قمت بالرد بالمثل، فأنت لا تختلف عن ذلك الذي بادرك بالسوء والاعتداء، ولكن إذا غضضت الطرف، وبادرته بالسماح والعفو وإبداء الرغبة في التعامل الجيد، فإنك بهذا الأسلوب، سوف تتفوق عليه، ليس هذا فحسب، بل أنك كمن يقوم برمي الماء على نار العدوان فتطفئها ليحل محلها السلام والتقارب الإنساني في أغلب الحالات، نعم ثمة حالات عدائية لا يجدي معها هذا السلوك، ولكنها هي الأقل، ثم لا يجب أن تثني العقول الكبيرة عن المضي الى الأمام في ترسيخ مبادئ التعامل القويم بين البشر، وهذا هو أسلوب الرسل العظماء في نشر السلام والمحبة وقيم الجمال والعدل بين البشرية.
حول هذا الموضوع يقول سماحة المرجع الشيرازي: إن (الردّ بالمثل ليس من الأخلاق الحسنة. وكان أساس تعامل النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم هو التعامل مع المسيء والرد عليه بالأحسن).
علينا أن نتجنب الفعل القبيح
وأوضح سماحة المرجع الشيرازي أن المشركين أنفسهم كانوا يبعدون أنفسهم عن الفعل القبيح، ولكن هنالك ممن جاءوا في العصور اللاحقة، فجعلوا الشروع بالفعل القبيح مقبولا، فساد الغدر بين أمة المسلمين بعد أن كان من الأفعال التي يترفع عنها حتى المشركون، ولابد من رفع اللثام عن التاريخ الأسود لبني أمية وبني عباس وغيرهم ممن جعلوا من الغدر فعلا شائعا بين أمة المسلمين، حيث استخدم الأمويون والعباسيون أرذل الأساليب في التعامل مع من يخالفهم في الرأي أو الفكر، ولم يتورعوا عن الخداع والأساليب الخسيسة التي كان يترفع عليها المسلمون حتى في أشد تحدياتهم وحروبهم مع أعدائهم.
ولطالما أساء أسلوب الغدر والخداع للإسلام والمسلمين، بعد أن صار لصيقا بهم بسبب ما اقترفه الحكام الأمويين والعباسيين من أفعال دنيئة يترفع عليها حتى أكثر الناس بؤسا.
فقد قال سماحة المرجع الشيرازي في هذا الجانب: (بلى حتى المشركون كانوا يتجنّبون هذا الفعل القبيح، ولكن بني أمية وبني العباس كانوا هم من سّن هذا الفعل الشنيع. فالغدر قد ترسّخ بين المسلمين وشوّه سمعتهم بمجيء الأمويين والعباسيين على الحكم).
ومما تذكره التدوينات السابقة، أن النبي (ص) حتى في أوج مرحلة نشر الرسالة الإسلامية، كان الأسلوب الأمثل والأفضل والأحسن طريقه الأسرع والأقصر في الوصول الى قلوب الجميع، بمن فيهم أعداء المسلمين، ولم تكن هذه الأخلاق النبوية نتيجة ضعف جسدي أو ما شابه، فقد عُرف الرسول(ص) بقوته البدنية الهائلة، وقوته الروحية المتفردة، ومع ذلك لم يكن العنف والإجبار طريقا له في تبليغ تعاليم ومبادئ الرسالة.
وكان النبي (ص)، يغض الطرف عمّن يؤذيه بالقول أو الفعل حتى لو كان من ألد أعدائه، فعندما كانت الرسالة النبوية تواجه أعداءً شرسين معروفين، ومنهم على سبيل المثال أبي لهب الذي لم يتورع من رمي النبي (ص) بحجارة قاتلة، لكن الرسول القوي الكريم لم يبادره بشيء حتى ولو بكلمة، بل لم ينظر إليه حتى، فأي عظمة هذه وأية أخلاق وسمو روحي أسهم في نشر تعاليم الإسلام بأسلوب فريد من نوعه.
وكما نقرأ في كلمة سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: لقد(ذكرت الروايات أن أبا لهب قد رمى النبيّ صلى الله عليه وآله بحجارة أصابت عرقوبه الشريف. وذكروا في أحوال النبيّ صلى الله عليه وآله أنه كان قوي البنيّة، بحيث كانت قوّته تعادل قوّة أربعين رجلاً. ولو لا هذه القوّة لأصبح صلى الله عليه وآله مقعداً. وتجاه هذا التعامل المشين من أبي لهب، لم يصدر من النبيّ صلى الله عليه وآله أيّة ردّة فعل أو اعتراض بل حتى لم يرمي صلى الله عليه وآله بطرفه إلى أبي لهب).
اضف تعليق