لسنا أمام طقوس دينية بحتة، او فلكلور مشفوع بمؤثرات بصرية مثل "الفوانيس"، او الإضاءات الملونة، وحتى الحديث المبالغ فيه حول الأطعمة و"المطبخ الرمضاني"، بقدر ما هي فرصة ذهبية لاستثمار هذه الحالة النفسية الاستثنائية لبناء معرفي وثقافي في الأمة وإجراء نوع من التحديث في السلوك والتفكير والقناعات...

سؤالاً أراه جديراً في الأيام الأخيرة من شهر رمضان المباركة، عن حجم الأموال المنفقة في موائد الإفطار الجماعية، والبرامج الثقافية والإعلامية؟  

الظاهر من هذه المساعي إن المقصود استثمار أيام وليالي هذا الشهر الفضيل لأهداف كبيرة تتوزع حسب التوجهات الموجودة في الساحة، بين كسب الأجر والثواب، وبين تعبئة الجمهور لغايات معينة، وحتى توزيع المساعدات العينية على الفقراء، علماً أن الناس لا ترى بأساً في دخول الأثاث المنزلي الحديث في بيوت طينية مقدمة من متبرعين من ذوي الأيدي البيضاء، الى جانب وجبات الإفطار الجاهزة، وايضاً الجلوس على موائد الافطار الممتدة لمسافات بعيدة في لحظات مفعمة بالمشاعر الإيجابية عند مغيب الشمس، والحضور في الأماسي والتجمعات الرمضانية ليلاً، لسماع المفيد والجديد. 

كل هذا حسنٌ في وقته، ونحن نطوي الأيام الأخيرة من هذا الشهر الفضيل، ومع نهايته نكون قد طوينا طقساً دينياً بمظاهر خاصة بشهر رمضان لا نجدها –على الأغلب- في سائر أيام السنة، في وقت نحن بحاجة لتغيير مستدام وبناء للشخصية يفيد الحاضر والمستقبل، لاسيما لشريحة الشباب ذات النسبة العالية بين تعداد نفوس الشعب العراقي. 

فاذا عرفنا ما لشهر رمضان من دور مباشر في تليين القلوب وتطييب النفوس من خلال فريصة الصيام، وإضفاء أجواء روحانية على الحياة العامة، فهذا يعني أننا لسنا أمام طقوس دينية بحتة، او فلكلور مشفوع بمؤثرات بصرية مثل "الفوانيس"، او الإضاءات الملونة، وحتى الحديث المبالغ فيه حول الأطعمة و"المطبخ الرمضاني"، بقدر ما هي فرصة ذهبية لاستثمار هذه الحالة النفسية الاستثنائية لبناء معرفي وثقافي في الأمة، وإجراء نوع من التحديث –إن صحّ التعبير- في السلوك والتفكير والقناعات، فالمؤسسات الثقافية والدينية تنفق الكثير من الأموال والطاقات لتمهيد الأرضية النفسية للتثقيف طيلة أيام السنة من خلال وسائل الإعلام، او المحافل الثقافية والتجمعات الشبابية، بينما ثلاثون يوماً فقط من شهر رمضان من شأنها القيام بالكثير من المنجزات الكبيرة بكلفة أقل، من خلال الدعوة للتفكّر والتأمّل وإعادة الحسابات بين الانسان ونفسه، وبين الانسان ومحيطه الاجتماعي. 

إننا بحاجة الى معرفة فلسفة الصيام قبل الجلوس على مائدة الإفطار، وطرح السؤال المباشر دون مجاملة: لماذا نصوم؟ ولماذا أمسكنا عن المفطرات طيلة الساعات الماضية؟ ثم ما الذي جنيناه من كل هذا الجوع والعطش والنحول؟

وعندما نحضر التجمعات والأمسيات، بل وحتى الحضور في الزيارات عند المراقد المقدسة، نسأل انفسنا: هل تركت هذه الأجواء المفعمة بالايمان والولاء والودّ لأهل بيت رسول الله، اثراً في سلوكنا وتصرفاتنا مع افراد الأسرة، ومع الأصدقاء، ومع عامة أفراد المجتمع؟

وعندما نتلو القرآن الكريم بشكل منتظم يومياً على شكل أجزاء موزعة على أيام الشهر لتحيق الختمة القرآنية، هل ارتقينا الى بعض مراقي الفهم والإدراك لمعاني ما نقرأه من الآيات الكريمة التي ربما تدين بعض تصرفاتنا وافكارنا دون ان نشعر بها! او إنها تقدم لنا مفاتيح وحلول لأزمات مستعصية نبحث عنها في كل مكان؟ 

واعتقد أن أروع ما في هذا الشهر الفضيل أنه أشبه بقاموس ثقافي متكامل يتضمن الأخلاق الفردية والاجتماعية، ومواد البناء الروحي والمعنوي مثل؛ التقوى، والورع، وتعزيز العلاقة مع الله –تعالى-، وايضاً ما يتعلق بمواد البناء الاجتماعي، وحتى البناء السياسي في علاقة الحاكم بالمحكوم خلال مرورنا بذكرى استشهاد أمير المؤمنين، عليه السلام، ولعل مراجعة سريعة لخطبة النبي الأكرم في استقبال شهر رمضان، تؤكد لنا هوية هذا الشهر الفضيل وآثاره على حياتنا، وكيف بدأ بما يجنيه الصائم من فوائد معنوية، ومن تعزيز علاقته بالله –تعالى- ثم تعزيز علاقته بأفراد مجتمعه، ثم تبيينه مراحل بناء الشخصية السوّية والمعطاءة، ومن ثم إشارته لتنكّر الأمة لدعوات العدل والحرية والمساواة والكرامة بانتهاك حرمة هذا الشهر الفضيل باغتيال أمير المؤمنين في محراب صلاته، فيما كان يدعو لخير الناس ورقيهم في الحياة من خلال التصدّي للبغي والظلم والانحراف.

هذه الرحلة المعرفية لا اعتقد أنها تكلّف مبالغ طائلة كالتي أنفقت على عديد البرامج والأعمال التي تنحصر آثارها بوقتها المحدود فقط، وإن كانت ثمة آثار مفترضة، فان الأجدر بتلك الأموال والجهود ان تبذل لمرحلة لاحقة من هذه الرحلة، فالشباب الواعي والمثقف بحاجة اليوم الى فرص عمل، والى زواج، وسكن، كما أن الأسرة بحاجة الى توفير أقصى درجات الأمن والاستقرار من خلال تأمين الصحة والتعليم، لنتخلص من دوامة العمل، والعمل المُضني لساعات طوال لتأمين مستلزمات الحياة. 

وبالمحصلة؛ فاننا أن نستشعر آثار شهر رمضان المبارك في حياتنا على مدى الأشهر القادمة، والى شهر رمضان القادم، في تحقيق العيش الكريم البعيد عن الأزمات والهموم كما أراده لنا رسول الله، وأهل بيته، المعصومين، عليهم السلام، وكما أراده لنا الله –تعالى-. 

اضف تعليق