ملفات - شهر رمضان

أَينَ مَوقِعِنا من التطوُّر الفكري؟

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة (١٠)

لماذا نصِفُ الإِنسانَ بالعوَقِ البدني إِذا لم يكبُر [بيولوجيّاً] ولا نصفهُ بالعَوقِ الذِّهني إِذا ظلَّ مُستوى تكفيرهِ واحدٌ لم يتغيَّر، إِنَّ الذينَ يستغربُونَ من التَّغييرِ في الفكرِ والعقليَّةِ والفهمِ هُم المتحجِّرونَ الذينَ يرفضُونَ التطوُّر الفكري والثَّقافي إِنَّهُم المُتخلِّفُونَ عن ركبِ الفكرِ والحضارةِ، الرَّكبُ الذي يعتمِدُ التطوُّر في الفهمِ...

 (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا).

 أَوَّلًا يلزم أَن نُنبِّهَ إِلى أَنَّ كلِمةَ [أَطواراً] [مُفردها طَور] تشمِل مُختلف المُستويات والحالات وليسَ فقط الجانِب البيولُوجي، فهي تعني ضُروباً وأَحوالاً في أَخلاقِكم وأَلوانِكم ولُغاتِكم، أَو مُدرَّجاً لكم في حالاتٍ مُختلفةٍ، والطَّور هو الحال أَو التَّارة والمَرَّة وهي كذلكَ تعني صِبياناً ثُمَّ شَباباً ثُمَّ شيُوخاً وضِعافاً ثُمَّ أَقوياء وكذلكَ بالأَخلاقِ والأَفعالِ.

 وهذهِ المعاني نقرأَها في عديدِ الآياتِ التي تتحدَّث عن [الأَطوار] وعلى مُختلفِ المُستوياتِ وبكُلِّ المعاني.

 لكنَّ السُّؤَال؛ لماذا نستوعِب أَطوار الإِنسان البيولوجيَّة ولا نستوعِب أَطوارهُ الفكريَّة والعقليَّة وإِدراكاتهِ الذِّهنيَّة وفهمهِ للأَشياءِ والحياةِ؟!.

 فنستوعبُ قولَ الله تعالى (وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ* ثُمَّ جَعَلۡنَٰهُ نُطۡفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ* ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ تُبۡعَثُونَ) ولا نستوعب مرُورهُ بالأَطوارِ العقليَّةِ فمِن (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) إِلى مُتعلِّمٍ فمُدركٍ فواعٍ ففاهِمٍ وهكذا (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وبما يلي من الأَدواتِ (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ).

 لماذا لا نستوعِب أَن يتغيَّر فِهم الإِنسان للأَشياء ويُغيِّر قناعاتهِ بالحياةِ بمرُورِ الوقتِ وكُلَّما اكتسبَ من العلمِ والتَّجرِبةِ والخِبرةِ التي تُزيدُ إِدراكهُ؟! فترانا بمُجرَّد أَن نسمعَ منهُ رأياً يختلِفُ معَ قناعاتِنا أَو نقرأَ لهُ رأياً اليَوم يختلِفُ عن رأيهِ بالأَمس نهجمُ عليهِ هجمةَ رجُلٍ واحدٍ فنُشبعهُ سبّاً وشتماً وتُهماً وقد نُخرِجهُ من الملَّة أَو ننعتهُ بالإِنحرافِ والإِلحادِ قائلينَ لهُ؛ لقد تغيَّرت! وكأَنَّنا مُستغربينَ من تطوُّرهِ العقلي والذِّهني والفكري! أَو كأَنَّنا لا ننتظِر منهُ أَيَّ تتغيرٍ في قناعاتهِ بمرورِ الأَيَّامِ والسِّنين فننتظرَ أَنَّهُ يُفكِّر اليَوم كما كانَ يُفكِّر قبل [١٠] سنَوات وأَنَّهُ غداً كما هوَ اليَوم!.

 لماذا نصِفُ الإِنسانَ بالعوَقِ البدني إِذا لم يكبُر [بيولوجيّاً] ولا نصفهُ بالعَوقِ الذِّهني إِذا ظلَّ مُستوى تكفيرهِ واحدٌ لم يتغيَّر؟!.

 قد يقولُ قائِلٌ بأَنَّ مرورَ الإِنسان بالأَطوارِ البيولوجيَّة هي (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ) ولذلكَ لا يُمكنُنا إِلَّا أَن نُسلِّم بهذهِ الحقيقةِ! وأَقولُ؛ كذلكَ فإِنَّ مرُور الإِنسان بأَطوارهِ الفكريَّة والثَّقافيَّة والعقليَّة والإِدراكيَّة والأَخلاقيَّة والسُّلوكيَّة هي الأُخرى فِطرةٌ، وإِذا لم تكُن كذلكَ فلماذا خلقَ الله تعالى العَقل وهوَ أَعظمُ خلقهِ كما في قولهِ تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)؟!. أَوليسَ من أَجلِ أَن يتعلَّمَ يوميّاً وبِلا توقُّفٍ؟! وأَنَّ التعلُّمَ المُستمر أَلا يُنتج مرُوراً طبيعيّاً في كُلِّ أَطوارِ الفهمِ وطريقةِ التَّفكيرِ؟!.

 أَولَم يقُل ربُّ العزَّةِ (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) ثمَّ قالَ تعالى (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وهذهِ الآلات والأَدوات والوسائِل خلقَها لهُ ليبدأَ بها رِحلةَ التطوُّر العقلي والفِكري والذِّهني وعلى مُستوى الأَخلاق والسُّلوك، وهي رحلةٌ لن تتوقَّف أَبداً بدليلِ منطُوقِ الآيةِ الكريمةِ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) وقَولُ رسولُ الله (ص) (أُطلبُوا العِلمَ من المهدِ إِلى اللَّحدِ).

لقد وصفَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) البعثةَ النَّبويَّةَ الشَّريفةَ بقَولهِ (وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه أَرْسَلَه بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ والْعَلَمِ الْمَأْثُورِ والْكِتَابِ الْمَسْطُورِ والنُّورِ السَّاطِعِ والضِّيَاءِ اللَّامِعِ والأَمْرِ الصَّادِعِ، إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ واحْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ وتَحْذِيراً بِالآيَاتِ وتَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ).

 وحثُّهُ على طلبِ العلمِ بقَولهِ (فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِه ومِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ).

 ويكتبُ للأَشترِ النَّخعي لمَّا ولَّاهُ مِصرَ يوصيهُ (وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ومُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْه أَمْرُ بِلَادِكَ وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِه النَّاسُ قَبْلَكَ). 

 إِنَّ الذينَ يستغربُونَ من التَّغييرِ في الفكرِ والعقليَّةِ والفهمِ هُم المتحجِّرونَ الذينَ يرفضُونَ التطوُّر الفكري والثَّقافي وهؤُلاء كالأَنعامِ.

 إِنَّهُم المُتخلِّفُونَ عن ركبِ الفكرِ والحضارةِ، الرَّكبُ الذي يعتمِدُ التطوُّر في الفهمِ البشري للحياةِ كُلَّما دخلت فيها أَدواتٌ معرفيَّةٌ جديدةٌ كما نراهُ اليَوم في عصرِ التَّكنلوجيا وتحديداً تكنلوجيا [الذَّكاء الإِصطناعي] الذي سيُغيِّر وجهَ العالَم على كُلِّ المُستوياتِ، ومنها الفِهم البشري لكثيرٍ من المُسلَّماتِ.

 فقد ذكرَ تقريرٌ صادرٌ عن بنكِ الإِستثمار [غولدْمان ساكْس] أَنَّ الذَّكاء الإِصطناعي يُمكِنُ أَن يحلَّ محل ما يُعادل [٣٠٠] مليُون وظِيفة بدوامٍ كاملٍ خلالَ الفترةِ المُقبلةِ حيثُ يتمُّ أَتمتةِ بعضِ المهامِّ والوظائفِ في جميعِ أَنحاءِ العالَم.

وبحسبِ التَّقريرِ فإِنَّ تقنِيات الذَّكاء الإِصطناعي ستقومُ بمهامِّ رُبع الوظائِف في الولاياتِ المُتَّحدةِ وأُورُوبا.

 السُّؤال؛ أَينَ مَوقِعِنا من هذا التطوُّر العظيم؟!.

اضف تعليق