فريضة الصيام تمثل فرصة للعودة الى الذات وإجراء جرد عبادي لما مضى من الأشهر الماضية للتحقق من نسبة القبول، وكم كانت موجهة لأنظار الناس؟ أو كانت لوجه الله تعالى؟ فقبل التفكير بالحصول على امتيازات اجتماعية، يكون في فترة الإمساك والعبادة الصامتة مدعواً لمعرفة حجم الفوائد التي جناها من أعماله العبادية...

"من صام صامت جوارحه".

حديث مأثور

مما يميّز عبادة الصيام عن سائر العبادات، خفاءها في شخصية الصائم، وعدم ظهورها في عمل او سلوك معين كما الحال في فرائض الصلاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والتولّي والتبرّي، فالصائم يسير في الشارع الى جانب المُفطر، وربما حتى غير المتديّن والمنكر لوجود الله –تعالى- ليس ثمة ما يميزه عن الآخرين من حيث الظاهر، مما يمنحه هامشاً من الحرية في تقييم مستوى الأداء بعيداً عن الأنظار.

صحيح أن شهر رمضان المبارك يطبع جميع افراد المجتمع –ما خلا المعذورين- بالتزام فريضة الصيام والإمساك عن المفطرات، يبقى هذا العمل العبادي في ذاته يتميز بالخفاء والسرية، سواءً كان خلال شهر رمضان، او كان من المستحبات الموصى بها في سائر ايام السنة.

التدريب على مكافحة الرياء 

هي آفة نفسية تقتحم المنظومة الاخلاقية مستهدفة نفس الانسان لتغير اتجاه بوصلته من الإخلاص الى الرياء بدعوى العُجب بالذات، ولجذب انتباه الآخرين، وربما لجني مكاسب معينة في علاقاته الاجتماعية او المهنية. 

فأن يكون الإنسان معروفاً بين الناس بالمواظبة على زيارة المراقد المشرفة، و أداء الاعمال العبادية المستحبة مثل الصلوات والاعتكاف وقراءة الأدعية المأثورة، الى جانب المبرّات للأيتام والعوائل الفقيرة والتبرع للمشاريع الخيرية والثقافية، كل هذا يعد من الامور الحسنة التي تصبغ صاحبها بصبغة ايجابية، وربما مقدسة تجعله موضع ثقة واحترام المحيطين به، وعلى الأغلب لا يشعر بشيء غير طبيعي إزاء هذا الشعور.

فريضة الصيام تمثل فرصة للعودة الى الذات وإجراء جرد عبادي لما مضى من الأشهر الماضية للتحقق من نسبة القبول، وكم كانت موجهة لأنظار الناس؟ أو كانت لوجه الله –تعالى-؟

فقبل التفكير بالحصول على امتيازات اجتماعية، يكون في فترة الإمساك والعبادة الصامتة مدعواً لمعرفة حجم الفوائد التي جناها من أعماله العبادية، من ارتقاء روحي، ونقاء قلبي، وبلوغ مراتب في مدارج التقوى والإخلاص والإيمان وسائر المكارم والفضائل، ولعل إحدى فوائد الصيام المستحب في مناسبات عدّة طوال ايام السنة، توفر فرصة ليخلو الانسان مع نفسه ويجدد العهد بالعبودية المطلقة لله –تعالى- متجرداً من كل الروابط التي تخلق نوعاً من التواكل، او ما يسمى اليوم بـ "التخادم"، والمبدأ المعتمد لدى البعض بأن "فيد واستفيد"، بينما الصحيح أن تكون كل حركات وسكنات الانسان في حياته اليومية وضمن علاقاته الاجتماعية مرتبطة بالله –تعالى- بالدرجة الاولى، او وفق الاصطلاح الديني؛ "في سبيل الله".

كيف تصوم الجوارح؟

بحثت في الحديث المأثور المتصدر المقال: "من صام صامت جوارحه"، لم أجد له سنداً بهذا اللفظ، إنما الحديث المروي عن الإمام الصادق، عليه السلام: "اذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، وشعرك، وجِلدك"، وربما يكون اللسان ضمن الجوارح المعنية بالإمساك في هذا الشهر الفضيل، فالابتعاد عن المفطرات الظاهرية ينبغي ان يكون مقدمة للابتعاد عن المفطرات المعنوية غير المذكورة في أحكام الصيام بالكتب الفقهية لدينا، بيد أن الرسول الأكرم في بدايات تأسيسه المجتمع الاسلامي أكد لنا محورية صوم الجوارح الى جانب صوم الطعام والشراب، فالإمساك عن تجريح الآخرين وظلمهم بأي شكل من الاشكال، هو مكمّلٌ للإمساك عن الطعام والشراب.

ذات مرة، وهو يمر في الطريق أيام شهر رمضان المبارك، واذا به يسمع امرأة تسبّ جارية لها فدعاها النبي الى الطعام، فاستغربت الأمر، فردّ عليها النبي باستغرابه هو من كيفية بقائها على صيامها وقد سبّت جاريتها، علماً أن الجارية، هي الأمة المملوكة، وليست الحرة، وهي تباع وتشترى في تلك الأيام، لنعرف البعد الانساني العظيم للعبادة، وأنها مشروع بناء انساني قائم على الاحترام المتبادل، وليس التطاول والتنافس المحموم على المصالح.

إن أجواء الصيام والإمساك عن المفطرات، ليس في شهر رمضان، بل وفي سائر الأيام المؤكدة فيها الصيام قربة لله –تعالى- توفر فرصة لكبح جماح النفس الميّالة دائماً الى فعل كل ما ترغب وتحب، حتى وإن كلف الآخرين ظلماً وتجاوزاً، لذا جاء السمع والبصر من أوائل الجوارح المدفوعة نفسياً للتطاول وإشباع غريزة الفضول، وهي الجارحتين الواردتين ايضاً في القرآن الكريم لتذكير الانسان بمسؤوليته إزاءهما؛ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، فهو مسؤول أمام الله في عبادة الإمساك عن المفطرات في شهر رمضان المبارك، كما انه مسؤول ايضاً عما تقع عليه عينه في الشارع او في الجامعة والسوق، وخلال متابعته الانترنت والقنوات الفضائية، او ما يسمعه من الحرام سماعه، وربما في المقدمة؛ مجالس التهمة والافتراء والغيبة والنميمة، فان مجرد حضوره ساكتاً يعني قبوله بما يقال، وإن كان معارضاً، لأن المطلوب؛ الموقف الحازم والصريح ضد هذا التصرف والعمل الخاطئ، عندها تكون معارضته حقيقية وعملية نابعة من عبادة عملية و حقيقية ايضاً. 

اضف تعليق