ملازمة القرآن الكريم انطلاقاً من شهر رمضان والى سائر أيام السنة، ليس المطلوب التلاوة فقط حرصاً على إكمال الاجزاء الثلاثين في فترة معينة بنيّة الختم في فترة قياسية وحسب، إنما التلاوة التدبرية القادرة؛ أولاً: على ايجاد مصاديق عملية من واقعنا فيما نقرأه من الآيات الكريمة...
من المؤكد زمنياً ينتهي شهر رمضان، وتنقضي أيامه ليأتي من بعده، ثم بعده أشهر أخرى وأيام جديدة مثل النهر كل لحظة فيه ماء جديد، ولكنه لا ينتهي اذا اغترفنا منه أكبر قدر ممكن من العبِر والأحكام والآداب بما تفيدنا لبناء شخصيتنا وتحقيق الأفضل لحياتنا الى شهر رمضان المقبل.
المائدة الرمضانية وفق الصورة الذهنية التي رسمها لنا رسول الله في خطبته المعروفة لاستقبال الشهر الكريم، ماتزال ممتدة أمام الجميع، وبإمكاننا الاستفادة منها حتى اليوم الأخير، بل ربما حتى الساعات الاخيرة، إنما يحتاج الأمر الى إرادة للتغيير الحقيقي، وإيمان بقدرة هذه المائدة في التأثير على الواقع الذي نعيشه على الصعيد الفردي والاجتماعي.
بناء الشخصية بكلفة أقلّ
نحتاج الى دورات تنموية نتعلم فيها مهارات المطالعة، واستثمار الوقت، واكتشاف الذات، وآليات صقل المواهب، وهي تستلزم مصادر فكرية و مدربين تنمية بشرية، وتكاليف جانبية هنا وهناك حتى نفهم شيئاً جديداً لحياتنا، بينما في شهر رمضان نحن في مدرسة تنموية لخصال وصفات ذاتية لا تكلفنا الكثير مادياً، إنما نحتاج بعض الإرادة والعزيمة والإصرار لممارسة تمارين -إن جاز التعبير- تفيدنا لبناء الشخصية كأفراد حتى حلول شهر رمضان للسنة القادمة، وربما تمتد الفائدة طول العمر، اذا كانت النتائج ذات وزن ثقيل، وذلك من خلال مسارات ثلاثة –من جملة مسارات-:
1- الورع عن محارم الله الموصى بها على لسان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في إجابته على سؤال أمير المؤمنين عن أفضل أعمال هذا الشهر فقال: "الورع عن محارم الله"، لكن ما هي محارم الله؟
كل ما حرّمه الله –تعالى- على الجوارح ارتكابه سماعاً، و رؤية، وقولاً، بل وكل ما يكنّه القلب من مشاعر سيئة إزاء الآخرين مثل؛ الحسد، والضغينة، والتشكيك، وبما أن المعروف سهولة انتهاك هذه الحرمات بدوافع غريزية ونفسية، فإن الحاجة لبذل الجهد الذاتي للجم أي حركة تشذّ عن الطريق القويم، هي المهمة الصعبة والممكنة في آن.
أبسط مثال ربما يعيشه معظم الرجال والشباب وهو النظر الى كل ما يثير الشهوة الجنسية من صور او ذوات على الأرض، فان النظر، بل والتمعّن في النظر يستسهله البعض في الشارع وفي الغرف المغلقة، حتى اصبح امراً بديهياً من الصعب فعل ما يعارضه، ومن اجل التهرّب من الحرج وتأنيب الضمير، فيما يسوق البعض له مبررات عدّة.
ولو يراجع هذا البعض مآلات من سبقه في هذا الانتهاك، وما الذي جناه في حياته من، اختلال في السلوك، وعقد نفسية بسبب تراكم عناصر جذب متنافرة يجد نفسه ممزق الأوصال بين هذه العناصر دون كرامة تحفظ شخصيته، ولعل هذه من فلسفة غضّ البصر التي يدعو اليها الإسلام في نظامه الاجتماعي، حتى لا ينقاد الانسان الى ما يفقده كرامته وشخصيته، بل ويلحق به الاضرار البالغة.
2- الدعاء الى الله –تعالى- بما ورد على لسان المعصومين من ذوي النفوس السامية ممن بلغوا درجات الكمال والقرب من الله –تعالى- فعندما نقرأ الأدعية المأثورة في الكتب المعروفة، نستنتج بالدرجة الاولى البعد المعرفي للإمام زين العابدين –مثلاً- وهو يملي على صاحبه المقرّب؛ ابوحمزة الثمالي ذلك الدعاء المشهور الذي نقرأه في أسحار شهر رمضان، والمدى البعيد لمعرفة الإمام ربه، فهو يعلمنا من خلال هذا الدعاء كيفية التعرّف على الله –تعالى- حتى نعرف فيما بعد كيف نطيعه ونتعامل مع أحكامه وتعاليمه.
ولسنا بوارد الخوض في أمر الدعاء وفوائده الجمّة، فقد كتب العلماء وبحثوا وتحدثوا مسهباً حول الموضوع، إنما المهم لدينا في هذا الحيّز معرفة دور الدعاء في تنمية شخصيتنا وذواتنا انطلاقاً من ايام شهر رمضان، ومن ثمّ الاستمرار عليه في سائر أيام السنة، ولعل أجمل تعبير يصف فيه الدعاء أنه "مخّ العبادة"، أيّ يشكل مركز تحكم وتنظيم العبادة التي تُعد اساساً علّة وجود الانسان في الحياة، فتجعل الصلاة والصيام وسائر الاعمال العبادية ذات معنى على أرض الواقع.
3- ملازمة القرآن الكريم انطلاقاً من شهر رمضان والى سائر أيام السنة، ليس المطلوب التلاوة فقط حرصاً على إكمال الاجزاء الثلاثين في فترة معينة بنيّة الختم في فترة قياسية وحسب، إنما التلاوة التدبرية القادرة؛ أولاً: على ايجاد مصاديق عملية من واقعنا فيما نقرأه من الآيات الكريمة، لاسيما ما يتعلق بالأخلاق والآداب والعقيدة، ليكون القرآن الكريم المرآة الشفافة لواقعنا، وثانياً؛ صياغة حلول او بدائل لما نعيشه من واقع سيئ، أو ربما نهتدي الى الخيارات الحسنة في قضايا مصيرية مثل طلب العلم والزواج، والهجرة.
بصمات رمضانية على العلاقات الاجتماعية
في الشقّ الثاني من النفحات الرمضانية على حياتنا، من السهل ملاحظة توثيق العلاقات بين الجيران والأقارب من خلال التزاور وتبادل أطباق الافطار، وبين الاثرياء كأفراد وشريحة الفقراء ممن يستفيدون من حملات التبرع وتوزيع السلات الرمضانية المعروفة.
ومن هذا المنطلق نتمكن توثيق العلاقات الاجتماعية على نطاق أوسع، ربما يفوق الجانب المادي، الى حيث التوعية والتعليم ونشر الثقافة الصحيحة، لاسيما في أوساط الشباب من خلال الندوات والمحاضرات التي تتناول مسائل العقيدة والأخلاق والفكر، وهي مسؤولية المثقفين والعلماء والخطباء من اصحاب الغِنى المعرفي والعلمي.
ومن البصمات المؤثرة على الواقع الاجتماعي، تنمية الشعور بالمسؤولية الجماعية من خلال الالتزام بالإمساك عن المفطرات في نهار الشهر الفضيل في الاماكن العامة بمبرر المرض او السفر، او الالتزام بسائر الآداب الاجتماعية المتعلقة بشهر الصيام، مثل رفع اصوات الموسيقى والاغاني في الاماكن العامة، او الظهور المتبرّج لجذب الانظار، وبقدر استفادتنا من هذه البصمات في قادم الأيام، نكون قد وفرنا على انفسنا فتح الكثير من ابواب المشاكل الاجتماعية، بل نحصل على أجواء سليمة تمكننا من التطلع الى واقع اجتماعي افضل يسوده الاحترام المتبادل، والتكافل والتعاون.
اضف تعليق