اقتضت الحكمة الإلهية «ولله الحكمة البالغة» ان يكون القرآن الكريم هو المعجز المعنون والذي عليه المدار في الحجة لرسالة خاتم النبيين وصفوة المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. فانه يكون حجة على العرب باعجازه ببلاغته وبعجزهم عن الإتيان بمثله او بسورة من مثله. وبخضوعهم لإعجازه وهم الخبراء...
المعجز هو الذي يأتي به مدّعي النبوّة بعناية الله الخاصة خارقا للعادة وخارجا عن حدود القدرة البشرية وقوانين العلم والتعلم ليكون بذلك دليلا على صدق النبي وحجته في دعواه النبوة ودعوته.
وجه شهادة المعجز
ودلالته على صدق النبيّ في دعواه ودعوته ليس إلّا انّ مدّعي النبوّة إذا كان ظاهر الصلاح موصوفا بالأمانة معروفا بصدق اللهجة والاستقامة لا يخالف العقل في دعوته وأساسيّاتها لم يجز عقلا اظهار المعجز على يده إلّا إذا كان صادقا في دعوى النبوة ودعوتها. الا ترى انه لو كان مع صفاته المذكورة كاذبا في دعواه لكان اظهار المعجز على يده وتخصيص الله له بالعناية إغراء للناس بالجهل وتوريطا لهم في متاهات الضلال. وهذا قبيح ممتنع على جلال الله وقدسه.
توضيح ذلك
هو أنّ الناس بحسب فطرتهم التي لا تدنسها رذائل الأهواء والعصبية إذا ظهر لهم صلاح الشخص وصدقه وأمانته واستقامته فيما يعرفونه من أحواله وأطواره توسموا بباطنه الخير وانّ باطنه موافق لظاهره في الصلاح. وكلما زادت خبرتهم بصلاح ظاهره زاد وثوقهم بصلاح باطنه. إلا انه مهما يكن من ذلك فإنه لا يبلغ بهم مرتبة العلم وثبات الاطمئنان بعصمته عن الكذب في دعواه وتبليغات دعوته فلا ينتظم تصديقهم له ولا يدوم انقيادهم إلى تبليغاته في دعوته. بل لا يزال اختلاج الشكوك يميل بهم يمينا وشمالا. لكن إذا خصته العناية الإلهية بكرامة المعجز وخارق العادة حصل العلم الثابت واطمأنت النفوس السليمة بصدقه وعصمته في دعواه وما يأتي به في دعوته.
ويثبت اليقين وينتظم امره بالنظر إلى أنه يمتنع على جلال الله وقدسه في مثل هذه المزلقة ان يظهر المعجز وعنايته الخاصة على يد الكاذب المدلس بصلاح ظاهره. فإن اظهار المعجز حينئذ يكون مساعدة للمدلس على تدليسه ومشاركة له في اغوائه وإغراء للناس في الجهل الضار المهلك. وذلك لما ذكرناه من مقتضى فطرة الناس السليمة. فالمعجز الشاهد بصدق النبي في دعواه ودعوته هو ما يقوم بما ذكرنا من الفائدة في مثل ما ذكرناه من المقام والوجه.
حكمة تنوع المعجز
ولا يخفى أنّ حصول الفائدة المذكورة من تنوّع المعجز المذكور يختلف كثيرا بسبب اختلاف الناس في أطوارهم ومعارفهم ومألوفاتهم. فربّ خارق للعادة يعرف بعض الشعوب انه خارق للعادة لا يكون إلا بإرادة إلهية خاصة ويكون في بعض الشعوب معرضا للشك او الجحود لإعجازه وخرقه للعادة، كان في عصر موسى النبي (ع) من الرائج بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عادية يجري عليها التعليم والتعلم. فكانوا يعرفون ما هو جار على نواميس هذه الصناعة وما هو خارج عنها وعن حدود القدرة البشرية. ولأجل ذلك اقتضت الحكمة ان يحتج عليهم بمعجزة العصا التي ألقاها موسى (ع) أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون ويسحرون به الناس من الحبال والعصي ثم رجعت بعد ذلك عصا كحالها الأول ولم يبق لحبالهم وعصيهم عين ولا اثر، فإنهم بسبب معرفتهم لحدود السحر عرفوا أن امر العصا خارج عن صناعة السحر وعن حدود القدرة البشرية ولذا آمن السحرة بأن أمرها من الله تعالى.
وكانت فلسطين وسوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان وفيها منهم نزلاء كثيرون. فكان للطبّ فيها رواج ظاهر وكان في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة تعليم طويل في تطهير القرع والبرص والقوبا بنحو يختص بروحانية الكهنوت ويوهم انه من بركات الكهنة والآثار الرّوحية وإن كان من نحو الحجر الصحي فلأجل ذلك كانت معجزات المسيح بشفاء الأبرص والأعمى والأكمه مما يعرفون انه خارج عن حدود الطب ومزاعم الكهنة وقدرة البشر ومن خارق العادة التي لا يكون إلا بقدرة الله تعالى.
حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن
وأما العرب الذين ابتدأت بهم دعوة الإسلام في حكمة سيرها في الإصلاح فقد كانت معارفهم نوعا منحصرة بالأدب العربي وكانوا خالين من سائر العلوم والصنائع الخاضعة للعلم والتعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العادية بحسب موازين العلم والتعلم وأسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها للباحث والممارس والمتعلم والمجرّب والمكتشف والداخلة تحت سيطرة العلم والتعلم. فلا يعرفون من الأعمال ما هو خارج عن هذه الحدود وخارق للعادة ولا يكون إلا بإعجاز إلهيّ.
فكل عمل معجز من غير الأدب العربي بمجرد مشاهدتهم له او سماعهم به يسبق الى أذهانهم ويستحكم في حسبانهم انه من السحر او من مهارة اهل البلاد الأجنبية في الصنائع وتقدّمهم في العلوم واسرار الطبيعيات وقوانينها. ولا يذعنون بأنه معجز إلهي بل يسوقهم شك الجهل الى الجحود خصوصا إذا كان ذلك يحتج به النبي على دعوى ودعوة ثقيلتين على ضلالتهم باهظتين لعاداتهم الوحشية وأهواء الجهل.
نعم برعوا بالأدب العربي وبلاغة الكلام التي تقدّموا فيها تقدّما باهرا حتى قد زهى في عصر الدعوة روضه الخميل وأينعت حدائقه وفاق مجده وقرّروا له المواسم وعقدوا المحافل للمفاخرة بالرقيّ فيه. فرقت بينهم صناعته إلى أوج مجدها وزهرت بأجمل مظاهرها وأحاطوا بأطرافها وحدّدوا مقدورها. فعاد المرء منهم جدّ خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشرية وما هو خارج عنها ولا يصدر على لسان بشر ابتداء إلا بعناية إلهية خاصة خارقة للعادة البشرية لحكمة إلهية شريفة.
ولذا اقتضت الحكمة الإلهية «ولله الحكمة البالغة» ان يكون القرآن الكريم هو المعجز المعنون والذي عليه المدار في الحجة لرسالة خاتم النبيين وصفوة المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. فانه يكون حجة على العرب باعجازه ببلاغته وبعجزهم عن الإتيان بمثله او بسورة من مثله. وبخضوعهم لإعجازه وهم الخبراء في ذلك يكون ايضا حجة على غيرهم في ذلك. وانه هو الذي يدخل في حكمة المعجز والاعجاز في شمول الدّعوة للعرب وابتدائها بهم بحسب سيرها الطبيعي على الحكمة وبه تتمّ فائدة المعجز على وجهها.
اضف تعليق