صدقَةُ السِّر وصدَقةُ العلانِية، وهذا يجري على كُلِّ أَنواعِ الصَّدَقاتِ بالمعنى الأَشملِ كدفعِ المالِ للفقيرِ أَو تنبيهِ صديقٍ لخطأ إِرتكبهُ أَو مشوَرَةٍ تُقدِّمها لسائلٍ، وكِلاهُما محمُودٌ إِلَّا أَنَّ صدَقَة السِّر أَفضل مِن أُختِها رُبما لسببٍ مُهمٍّ جدّاً وهو أَنَّها تقطع طريقِ تزكِيَةِ الذَّات على صاحبِها، وهي واحدةٌ...
{لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
لا تنشغِل بالكَلامِ وانتبِه إِلى العمَل، وعندما تُرِيدُ أَن تُقيِّم أَحداً فلا تنخدِع بكلامهِ وشِعاراتهِ وخِطاباتهِ بل أُنظُر إِلى ما أَنجزهُ وما قدَّمهُ للمُجتمعِ وإِلى البصمةِ التي يتركَها مِن حولهِ.
إِنَّ أَغلب الصَّدمات التي نُعاني منها ونمرُّ بها في حياتِنا إِنَّما سببَها الإِنبهار بالبِدايات ولذلكَ لا ينبغي أَن تنبهِرَ حتَّى تثِق، ولا تثِقُ حتَّى تُجرِّب، والتَّجربة تكُونُ بالإِنجازِ وليسَ بالخِطابِ.
تذكَّر دائِماً بأَن لا تنشغِلَ بالآراء فحسْب وإِنَّما اهتَم بالحَقائقِ وما تُنجِز وبالوَقائعِ وما تُثمِر، فالنَّاجِحُونَ هُم الذين ينشغلُونَ بالمُقدِّمات التي تُثمِرُ إِنجازاتٍ أَكانت رأياً أَو فِكرةً أَو خِطاباً أَو أَيِّ شيءٍ آخر، ولا ينشغلُونَ بالقيلِ والقالِ وبكلامِ السَّفسطةِ الذي لا يُنتِجُ إِلَّا المزيدِ من مَضيعةِ الوقتِ وتبديدِ الطَّاقاتِ وتضييعِ الفُرصِ.
تأسيساً على ذلكَ فإِنَّ عليكَ أَن تنشغِلَ على الأَقل بواحِدَةٍ من ثلاث إِذا أَردتَ أَن تكُونَ حاضِراً بفاعليَّة وتترُك بصمةً في الحياةِ وفي المُجتمَعِ؛
- صدَقةٌ.
- معرُوفٌ.
- إِصلاحٌ.
وهذه الثَّلاثة تصبُّ في مصبٍّ واحدٍ لتحقيقِ هدفٍ واحدٍ أَلا وهوَ [التَّكافُل الإِجتماعي] الذي يُحقِّق وحدَة المُجتمع وانسجامهِ ويُساهمُ في تكريسِ حالة التَّعايُش من خلالِ ردمِ الطبقيَّة في المُجتمع وعلى مُختلفِ المُستوياتِ والتي تُنتِجُ، إِذا ما ظلَّت تتَّسِع، مَشاكِلَ كثيرةٍ على رأسِها وأَوَّلِها الجريمة المُنظَّمة.
أ/ فأَمَّا الصَّدقة فهي كُلُّ ما يعني العَطاء سواءً أَكانَ ماديّاً أَو معنويّاً شريطةَ أَن لا يتبعَها مَنٌّ أَو أَذى أَو حديثٌ عن مكرُمةٍ، فكُلُّ هذا ليسَ مِن الصَّدقة في شيءٍ وهوَ يُفسِدُها.
يقولُ تعالى {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} وقولهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
ولِعظَمةِ كرم الله تعالى ورحمتهِ بعبادهِ اعتبرَ الصَّدقة قرضاً يُقدِّمهُ العبد لخالقهِ يوفِّيه أَضعافاً مرَّتَينِ مرَّةً في الدُّنيا ومرَّةً في الآخِرة.
يقولُ تعالى {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وقولهُ {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
تعالُوا نقرأ سويَّةً هذا الوصف الرَّائع لأَميرِ المُؤمنينَ (ع) للصَّدقةِ المُسمَّاة قرضاً، يقُولُ (ع) {وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) وَقَالَ تَعَالَى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللَّهِ فِي دَارِهِ رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ وَأَزَارَهُمْ مَلَائِكَتَهُ وَأَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً وَصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَنَصَباً ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
يعتقدُ البعضُ خطأً أَنَّهُ لو لم يتمكَّن من دفعِ مالٍ للفقيرِ والمُحتاجِ فإِنَّ الصَّدقة تسقطُ عنهُ، وهذا دليلٌ على الفهمِ القاصِر لجَوهر مفهُومِ الصَّدقة، فمَن قالَ أَنَّ الصَّدقة تعني دفعُ المالِ فقط؟!.
لنمُرَّ على هذهِ الرِّوايات والأَقوال المأثورة عن أَهلِ البَيت (ع)؛
- قالَ رسولُ الله (ص) {إِن على كُلِّ مُسلِمٍ في كُلِّ يَومٍ صَدَقَةٌ، قيلَ؛ مَن يُطِيقُ ذلكَ؟ قال (ص)؛ إِماطتُكَ الأَذى عنِ الطَّريقِ صَدَقَة وإِرشادُكَ الرَّجُل إِلى الطَّريقِ صدَقَة وعيادتُكَ المريضِ صدَقَة وأَمرُكَ بالمعرُوفِ صدَقَة ونهيُكَ عنِ المُنكَرِ صدَقَة وردُّكَ السَّلام صدَقَة} وقولهُ (ص) {تصدَّقُوا على أَخيكُم بعِلمٍ يرشدُهُ ورأيٍ يُسدِّدُهُ} وقولهُ {تبسُّمكَ في وجهِ أَخيكَ صدَقَة وأَمرُك بالمعرُوفِ صدَقَة ونهيُكَ عن المُنكرِ صدَقَة وإِرشادُك الرَّجل في أَرضِ الضَّلالِ لكَ صدَقَة وإِماطتُكَ الحجَر والشُّوك والعَظم عن الطَّريقِ لكَ صدَقَة وإِفراغُكَ مِن دلوِكَ في دَلوِ أَخيكَ صدَقَة} وقولُ الصَّادق (ع) من أَهلِ بَيتِ النبوَّة والإِمامَة {صدَقةٌ يُحِبُّها الله؛ إِصلاحٌ بينَ النَّاسِ إِذا تفاسَدُوا وتقارُبٌ بينهُم إِذا تباعدُوا}.
ولعلَّ مِن أَروعِ أَنواعِ الصَّدقة التي يدفعُها المرءُ عن نفسهِ قَولُ رسُولُ الله (ص) {كُفَّ شرَّكَ عنِ النَّاسِ فإِنَّها صدَقَةٌ مِنكَ على نفسِكَ} وقولهُ {أَمسِك لسانَكَ فإِنَّها صدَقةٌ تُصدِّق بها على نفسِكَ}.
والصَّدقَةُ على نَوعَينِ كما نعرِف؛ صدقَةُ السِّر وصدَقةُ العلانِية، وهذا يجري على كُلِّ أَنواعِ الصَّدَقاتِ بالمعنى الأَشملِ كدفعِ المالِ للفقيرِ أَو تنبيهِ صديقٍ لخطأ إِرتكبهُ أَو مشوَرَةٍ تُقدِّمها لسائلٍ، وكِلاهُما محمُودٌ إِلَّا أَنَّ صدَقَة السِّر أَفضل مِن أُختِها رُبما لسببٍ مُهمٍّ جدّاً وهو أَنَّها تقطع طريقِ تزكِيَةِ الذَّات على صاحبِها، وهي واحدةٌ من أَخطرِ السلوكيَّاتِ التي يُبتلى بها المرءُ في كُلِّ عملٍ يقدِمُ عليهِ كما يقُولُ تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ولذلكَ قال الصَّادق (ع) {لا تتصدَّق على أَعيُنِ النَّاسِ ليُزكُّوكَ فإِنَّكَ إِن فعلتَ ذلكَ فقَد استَوفَيتَ أَجرَكَ ولكن إِذا أَعطيتَ بيَمينِكَ فلا تُطلِع علَيها شمالِكَ فإِنَّ الذي تتصدَّق لهُ سرّاً يُجزِيكَ علانِيَةً}.
يتبع...
اضف تعليق