تعزيز الصحة النفسية للأطفال يحظى بتقديرٍ أقل بين الناس. فغايات الصحة النفسية أو أهدافها لا تُناقَش بالدرجة التي تُناقَش بها متطلبات الصحة البدنية داخل الأسر. وبينما قد يعلم معظم الآباء والأمهات أن الأطفال الصغار بحاجة إلى ما يقدِّمونه لهم من رعاية بدنية، فإن العلاقات والروابط العاطفية بين الآباء والأطفال...
بقلم: شارون كيه هول
إن تنشئة أطفال أصحَّاء هي غايتنا، ولكنَّ هناك نوعين من الصحة ينبغي لنا الاهتمام بهما؛ ألا وهما: الصحة البدنية والصحة النفسية. العديد من الآباء والأمهات يدركون أهمية أن يتمتع الطفل بصحة بدنية جيدة. فنحن نعلم، على سبيل المثال، أن الحَمْل يقتضي أن تعتني السيدات بأجسادهن لكي يتمتع الطفل بصحة جيدة. وبعد الولادة، نراقب نمو الطفل عن كثب لرصد سلوكيات مثل خطواتهم الأولى وكلماتهم الأولى. ويُذكِّرنا الأطباء ومقدِّمو الرعاية الصحية الآخرون بأهمية التطعيمات والفحوصات الطبية السنوية. يهتم الكثير من الناس بصحة الأطفال. فنحن نرى فيهم مستقبلنا.
غير أن تعزيز الصحة «النفسية» للأطفال يحظى بتقديرٍ أقل بين الناس. فغايات الصحة النفسية أو أهدافها لا تُناقَش بالدرجة التي تُناقَش بها متطلبات الصحة البدنية داخل الأسر. وبينما قد يعلم معظم الآباء والأمهات أن الأطفال الصغار بحاجة إلى ما يقدِّمونه لهم من رعاية بدنية، فإن العلاقات والروابط العاطفية بين الآباء والأطفال تمثل القاعدة التي تُقام عليها الصحة النفسية للأطفال. وتعني لَبِنات البناء الأساسية هذه أن البالغين يساعدون الأطفال في التطور حتى يصيروا آباءً وأمهاتٍ ومعلِّمين وقادةً للمجتمع في المستقبل؛ فالصحة النفسية تسهم في تشكيل مستقبلهم ومستقبل عالمنا. والمجتمعات القوية تعوِّل على أفراد يتميزون بالفاعلية والانتماء والالتزام، ويدركون أن العلاقات هي سبيل التقدم، وأن مسئولية المستقبل تبدأ بالفرد.
ما تصوراتك حول ما تبدو عليه الصحة النفسية لدى الأطفال؟
ربما يمكنك أن تفكِّر في هدفين أو ثلاثة أهداف جيدة؛ فأنت تعرف على الأرجح أننا يمكن أن نتوقَّع أن ينسجم الأطفال جيدًا مع الآخرين، وأن يتمكَّنوا من الذهاب إلى المدرسة دون الشعور بكثير من الأسى، وأنهم في نهاية الأمر سيتحمَّلون قدْرًا من المسئولية عن أفعالهم. تجسِّد كل هذه الأمور أهدافًا رائعة يدركها الكثير من الأطفال، ولكن هل تعرف كيفية تعزيز هذه الأهداف؟
إن تعزيزَ هذا النوع من الصحة النفسية ممكنٌ ويحتاج مناقشةً بحيث يكون البالغون على دراية كاملة بالتحديات القادمة وعلى استعداد لها. هل هناك أهداف أخرى لبناء المهارات العاطفية والاجتماعية التي ترتبط بالصحة النفسية؟ نعم، فالأشخاص البالغون، مثل الآباء والأمهات والمعلِّمين، يبيِّنون للأطفال كيفية المضيِّ قُدُمًا في بيئاتهم بمهارة ورغبة في التواصل مع الآخرين يوميًّا. يُطلِق علماء النفس على هذه المهارة أيضًا «الكفاءة الاجتماعية»، وتشير ببساطة إلى مجموعة من السلوكيات الاجتماعية الإيجابية، التي أتقنها الطفل، مع إمكانية استخدام الطفل هذه المهارةَ في المستقبل أيضًا. ومثلما تجسِّد الخطواتُ الأولى للطفل في أرجاء الغرفة دلالاتٍ على الصحة البدنية للطفل، فإن الخطواتِ الصغيرةَ صَوْب اكتساب «الكفاءة الاجتماعية» في إطارٍ من التشجيع والدفء شديدةُ الأهمية لدعم الصحة النفسية للطفل.
ان إقامة علاقات صحية مع الأطفال الموجودين في حياتنا تساعدهم على أن يصيروا أناسًا أصحَّاء نفسيًّا. يُطلَق أيضًا على عمليةِ تيسيرِ التنميةِ الصحيةِ هذه «توفيرُ الدعائم»، وهو المصطلح الذي استخدمه عالم النفس الروسي ليف فيجوتسكي (١٩٦٢) لوصف دعم تعلُّم الأطفال. تخيَّلْ مبنًى قَيْد الإنشاء، ولاحِظْ دور الدعائم المُستخدمة في تيسير عملية البناء في ذلك الموقع. يلعب البالغون الدور نفسه أيضًا؛ حيث يقومون بدور الدعائم التي تسانِد تطوُّر الأطفال من خلال توفير إطار يمكن أن يَستخدمه الأطفال للنمو في البيئات التي يعيشون بها؛ فالتطور إلى أفرادٍ أصحاءَ سعداءَ يمكنهم إجادة التواصل مع الآخرين وفَهْم وجهات نظرهم بتسامحٍ والاهتمام بعالمهم؛ أمرٌ ممكن مع الأساس الصحيح، ويمكن أن يساعدنا علم النفس في إنجاز هذا العمل المهم.
ستتردَّد عبارة «الصحة النفسية الجيدة»، والمراد بها ذلك التوازنُ الخاص ببناء علاقات تقترن بمسئولية شخصية، شأنها شأن ذلك التوازن بين الأحماض والقلويات في العالم المادي. وهذا يذكِّرنا بأن الصحة النفسية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بصحتنا البدنية. يشير مفهوم «الصحة النفسية الجيدة» ببساطةٍ إلى أن يرعى البالغون الأطفالَ بصفة يومية، ويشمل ذلك تلقين الأطفالِ ضرورةَ تحمُّل مسئولية أفعالهم، وأن هذه الأفعال لها عواقب، وأننا نتوقَّع منهم أن يتطوروا في حدود هذا الإطار لمساعدتهم في أن يصيروا أطفالًا أصحَّاءَ نفسيًّا.
اللَّبنات الأساسية للصحة النفسية
رَكَّزَ علماء النفس في الماضي عند دراسة السنوات الأولى مِن تطور الطفل على مفهومَين جديرَين بالمناقشة هنا؛ فقد اكتُشف أن كلًّا من «الحالة المزاجية» و«الانضباط الذاتي» مؤشران جيدان يتكهَّنان بالنتائج اللاحقة التي يحقِّقها الأطفال. ونحن نشير إلى مصطلح «الحالة المزاجية» في علم النفس باعتباره مفهومًا يضم السمات المُمَيِّزة للأطفال عندما يستجيبون مع البيئة المحيطة. وتشتمل السمات التي كثيرًا ما تخضع للدراسة لدى الرُّضَّع على سرعة الانفعال ومستوى النشاط والاستجابة الاجتماعية والدافعية. ويعتقد العديد من علماء النفس أن الأطفال يُولَدون بمَيْل إما نحو الهدوء أو سرعة الانفعال والاهتمام ببيئاتهم. ونحن نضع تقديرات حول حالتهم المزاجية من خلال ملاحظة مستويات النشاط البدني والرغبة في ملازمة الآخرين. وعلى مُقدِّمي الرعاية البالغين الأصحاء الاستجابة لكلٍّ من «الأطفال الهادئين» و«الأطفال سريعي الانفعال» واضعين في اعتبارهم أهدافَ تنشئةِ أطفالٍ أصحاء في النهاية. ويمثِّل مفهومًا آخر يرتبط بالحالة المزاجية الحدُّ الذي يصل إليه الأطفال صغيرو السن للغاية في تعلُّم تنظيم استجاباتهم البدنية والعاطفية والاجتماعية مع بيئاتهم. يعني مصطلح «الانضباط الذاتي» أن الأطفال لديهم مجموعة من المهارات مثل التحكُّمِ في درجة تركيزهم أو انتباههم، والقدرةِ على تهدئة أنفسهم عند رعاية البالغين لهم، ولاحقًا التحكمِ في سلوكياتهم.
وبينما قد يبدو أن هذه المناقشة حول الحالة المزاجية والانضباط الذاتي تضع الطفل في بؤرة الاهتمام، فإن العلاقات الصحية مع مقدِّمي الرعاية البالغين تمثِّل دليل الأطفال للسيطرة على بيئاتهم. تبدأ هذه التفاعلات من خلال مفهومٍ يُطلِق عليه علماءُ النفس «جودة التوافق»؛ ويعني هذا المفهوم أن التفاعلات بين الآباء والأطفال يبدو أنها تَحدث تلقائيًّا نوعًا ما. وعندما يكون البالغون مقدِّمي رعايةٍ أَكْفاءَ وقادرين على أداء وظائفهم، يمكنهم حينئذٍ الاستجابةُ بالصورة المناسبة للأطفال «الهادئين» أو الأطفال «سريعي الانفعال»، ومساعدةُ الأطفال في تطورهم.
على سبيل المثال، قد تلاحظ إحدى الأمهات ممن يتَّسِمْن بالنشاط والحيوية عادةً أنه يجب أن تُخفض من صوتها أثناء تقديمها للرعاية لطفلتها الرضيعة التي تَتَّسم بسرعة الانفعال والنشاط البدني بهدف المساعدة في تهدئة الطفلة. وعلى النقيض، فقد تُدْرك الأم الهادئة للغاية أنها يجب أن ترفع من مستوى نشاطها البدني مع طفلتها التي تتسم بالاسترخاء والهدوء الشديدين؛ وذلك لتحفيز اهتمام الطفلة بالبيئة. يثبت مفهوم جودة التوافق في كلتا الحالتين أنه رغم تَناقُض سمات والدتَي الطفلتين مع احتياجات الرضيعتين بشكل تلقائي، فإنهما على استعداد للتغير لمساعدة طفلتيهما على التطور. وتعتمد الصحة النفسية الجيدة للأطفال على التحفيز الحثيث من ناحية البالغين الذين يهتمون بالطفل منذ الولادة وما بعدها.
ستجدون أدناه القوائمَ الخاصةَ باللَّبِنات الأساسية للصحة النفسية الجيدة. يَعْلم علماء النفس أن تطوُّر بناء المهارات يَحدث عادة على مدار سنوات العمر، وأن هذا يُعد تطورًا طبيعيًّا. وتُدرَج هذه التوقعات الخاصة بكل فئة عمرية بالترتيب الذي اكتشف علماء النفس أنها تتطور به لدى الأطفال، بدايةً من الميلاد. تظهر المجموعة الأولى من مهارات بناء العلاقات والمسئولية الشخصية منذ الولادة وحتى عمر عامين. وتضم هذه المجموعةُ ببساطةٍ السلوكياتِ التي يجب أن يمارسها الأطفالُ ويجيدونها على مدار أول عامين.
قائمة الصحة النفسية لأول عامين من العمر
(١) تستدعي الطفلةُ مقدِّمَ الرعاية إليها من خلال البكاء عادةً، وذلك عندما تكون بحاجة إلى الطعام والشعور بالراحة والأمان.
(٢) تستجيب الطفلة من خلال التواصل بالعين والأصوات الواضحة التي تنُمُّ عن السعادة أو الارتياح عند الشعور بالطمأنينة أو الشبع.
(٣) تهدأ الحركات الجسدية للطفلة بعد لَفْت الانتباه.
(٤) تبذل الطفلة جهدًا لتقريب الأشياء المرغوبة منها لِلَّهو بها.
(٥) تبذل الطفلة جهدًا لتكرار الأصوات وتبدأ عملية تناوب الأدوار بأصوات شفهية.
(٦) تبدأ أصوات الغمغمة والثرثرة التي تُصدرها الطفلة في أن تبدو كالكلام.
(٧) ترغب الطفلة في التواصل مع الآخرين وتحاول ذلك. وتبدأ في التواصل ﺑ «عبارات» مكونة من كلمة واحدة في عمر عام واحد تتطور إلى عبارات مكونة من كلمتين وثلاث كلمات ببلوغها ثمانية عشر شهرًا.
(٨) تتكون ثقةٌ لدى الطفلة في شخص أو شخصين من مقدِّمي الرعاية وتشعر بالخجل أو الخوف من الآخرين، وتَعتبر الطفلة مقدِّم الرعاية «قاعدة آمنة» للاستكشاف، ويرتفع مستوى ارتياحها للآخرين عندما تبلغ العامين من عمرها.
(٩) تتعلم قواعد المنزل من حيث الأشياء المسموح بها والحدود وتَبعات أفعالها كشخصية مستقلة عن الآخرين.
(١٠) تلاحظ الآخرين كنماذج سلوكية: الآباء والأشقَّاء والمعلمين والأقران وغيرهم.
يحدث هذا التطور عندما تبلغ الطفلة عمر العامين!
لنتأمَّلِ الآن الأمور التي تطوَّرت في السنوات التي يُطلَق عليها مرحلة «الطفولة المبكرة». ويُشار إلى هذه الفترة أيضًا ﺑ «سنوات ما قبل الدراسة»، وهي الفترة من عمر سنتين وحتى خمس أو ست سنوات.
قائمة الصحة النفسية لمرحلة الطفولة المبكرة
(١) يتطوَّر التنسيق بين العينين واليدين بحيث يمكن أداء المهام اليسيرة. ومن أمثلة تلك المهام اليسيرة قدرة الطفلة على ارتداء ملابسها بنفسها وحَمْل الأطباق الخاصة بها إلى الحوض؛ وهي مهام تعكس قدرًا من الاستقلالية والكفاءة.
(٢) تسعى الطفلة إلى إجادة المهارات المكتسبة. وينشأ لديها قَدْر من الوعي بأن الاستقلالية والكفاءة تُشعرها بالسعادة.
(٣) تزداد حصيلة المفردات لديها كثيرًا أثناء هذه الفترة. وتُصقَل مهارات التواصل لدى وصولها إلى سن المدرسة.
(٤) تتطور القدرة على التركيز على المهام الأطول؛ أي إن وقت الانتباه يزداد.
(٥) تنتبه الطفلة إلى زملاء اللعب وترغب في اللعب معهم. في عمر العامين تقريبًا، يقتصر اللعب على الجلوس بجوار أحد الأصدقاء بحثًا عن الصحبة. وعندما تبلغ الخامسة أو السادسة، ترغب في ممارسة الألعاب التي تتطلب نوعًا من التنسيق مع صديقة أخرى. وتبدأ الألعاب المركَّبة في الظهور.
(٦) تتعزز العلاقات الاجتماعية؛ وتراقب الطفلة نموذج الأهل الخاص بروابط الاهتمام وتحاكيه.
(٧) تظهر بوادر المهارة الخاصة بتسوية الخلافات، ولكن السيطرة الانفعالية للطفلة لا تزال بحاجة إلى تدخُّل البالغين من آنٍ لآخر. وينبغي أن يتراجع معدل الخلافات بحلول السنة السادسة.
(٨) تشعر الطفلة بقدر معقول من الارتياح مع العالم الاجتماعي الذي أصبح يتضمن الآن أفرادًا بالغين آخرين وأطفالًا آخرين أيضًا. وتعني هذه الشبكة الكبرى من الأفراد أن الطفلة يجب أن تبدأ في تعميمِ ما تعرفه عن الانسجام في المنزل على النطاق الأكبر في المدرسة والملاعب وما إلى ذلك.
(٩) يزداد نضج التحكم في الانفعالات بحلول العام السادس. مع ذلك قد تستجيب الطفلة إلى إصابتها بجرح صغير أو إيذاء البعض لمشاعرها بالبكاء قليلًا. ولكن بشكل عام، تستطيع الطفلة في سن المدرسة مراقبة مشاعرها والتحكم بها إلى حدٍّ ما.
(١٠) تتعزز الرغبة في إسعاد البالغين والشعور بالتقدير كشخص صالح.
ها هي الطفلة التي بلغت سن المدرسة أصبحت على استعداد للتعامل مع العالم.
لننتقلِ الآن إلى السنوات المتوسطة من الطفولة التي تتضمن تلك السنوات الأولى من المدرسة الابتدائية، وهي المرحلة العمرية الممتدة من عمر ست سنوات وحتى اثنتي عشرة سنة.
قائمة الصحة النفسية لمرحلة الطفولة المتوسطة
(١) يتطور فَهْم العالم المادي بمعدل سريع، وتقترن المهارات الاجتماعية بذلك التطور. كما تساعد المفاهيم الجديدة والروابط الجديدة الطفلةَ في تصور ذاتها في العديد من المواقف والعلاقات.
(٢) إن تطور مفاهيم مثل «إدراك وجهات نظر الآخرين» يساعد الطفلة في تعلُّم أن للآخرين أفكارًا ومشاعرَ مختلفة يجب مراعاتها لإنشاء علاقات.
(٣) يرتبط تطوير قدرة التركيز على أكثر من بُعد واحد للموقف في الوقت نفسه بمفهوم «إدراك وجهات نظر الآخرين».
(٤) تنظر الطفلة إلى نفسها باعتبارها شخصًا يتمتع بالكفاءة ويمتلك القدرة على اتخاذ القرارات.
(٥) تتطور المهارة اللغوية وكيفية توظيفها بشكل فعَّال. وتستمتع الطفلة بالألعاب التي تعتمد على توظيف الكلمات والتلاعب بالألفاظ!
(٦) تعني الزيادات في حجم الذاكرة أن تنظيم المعلومات والتحلي بالقدرة على استخدامها عند الحاجة يمثلان أداتين مؤثرتين في إقامة العلاقات في المنزل والمدرسة والمحافظة عليها.
(٧) تشمل مجموعات الأقران الأولاد والفتيات، ولكن كل نوع عادةً ما يفضل تكوين صداقات مع النوع المماثل له.
(٨) يبدأ ظهور التفكير في المستقبل مثل التفكير في الحياة المهنية والزواج.
(٩) تسعى الطفلة جاهدةً إلى استيعاب الأمور التي تجعل منها صديقة مخلصة. وتتطور في هذه المرحلة سمات مثل الولاء والالتزام والتلطف مع صديقاتها المقرَّبات.
(١٠) تختفي مظاهر العنف الجسدي مع الأقران بشكل عام، ولكن العداء اللفظي قد يزيد.
يُطلَق مصطلح «المراهقة» على المرحلة التالية من التطور، وتشمل الشريحة العمرية الممتدة من الثانية عشرة وحتى عشرين عامًا. ومع اكتساب علماء النفس لمعلومات أكثر عن مرحلة المراهقة، وجدنا أنه من الأيسر تحديد مجموعتين متمايزتين من السمات عوضًا عن الاكتفاء بوضع السمات جميعها في مجموعة واحدة وحسب؛ ونطلق على المجموعتين «المراهقة المبكرة» و«المراهقة المتأخرة».
تأمَّلِ القائمة الواردة أدناه حسب الترتيب الزمني كما هو متبع عادةً. ولكن يُرجَّح أن تظهر المهام الخمس الأولى في مرحلة المراهقة المبكرة، وتتضمَّن المراهقة المتأخرة المهام الخمس الأخيرة. وكما هي الحال مع كافة المناقشات المطروحة حتى الآن، فقد يُطوِّر الأطفالُ بعضَ المهارات قبل الفترة المحدَّدة في هذه النقاط الإرشادية أو بعدها. ولكن غالبية الأطفال يكتسبون المهارات طبقًا للتقديرات المذكورة أدناه.
قائمة الصحة النفسية لمرحلة المراهقة
(١) تحدث في هذه المرحلة التغيُّرات الجسدية المرتبطة بالبلوغ، والتي تتضمَّن تغييرات في الهرمونات. وتدل هذه التغيُّرات الجسدية على عدم الاستقرار الانفعالي أيضًا.
(٢) تصبح مهارة التفكير أكثر تعقيدًا بحيث يحدث التأمُّل الذاتي يوميًّا.
(٣) يجري التفكير باستمرار في أمور مثل المسئولية والعلاقات.
(٤) يساعد مستوى الكفاءة المتزايد في المجالات كافة في تزايد الرضا عن الذات.
(٥) تظهر القدرة على التفكير في العديد من الحلول البديلة بشكل منهجي.
(٦) يتضمن إدراك الذات الإمكانيات والرغبات الهادفة إلى تحقيق مزيد من التطور.
(٧) تتحول مجموعات الصداقة المكونة من الذكور والإناث إلى مجموعات ثنائية تتألف من ولد وفتاة يلتقيان في مواعيد غرامية.
(٨) تُعد علاقات المواعدة انعكاسات للسلوك المبكر مع الأصدقاء. وتظهر سمات مثل الأمانة والولاء.
(٩) يتضمن التخطيط للمستقبل أهدافًا أُسَرية ومهنية ستستمر في التطور على مدار العَقد القادم.
(١٠) يتجلى تحمل المسئولية تجاه العلاقة ويظهر في التفاعلات كافة في إطار المجموعات المدرسية والعمل والمجتمع وما إلى ذلك.
إن هذه التوقعات الخاصة بتطور المهارات ليست شاملة، ولكنها تُقدِّم صورة عامة للمهارات التي يحتاجها الأطفال حتى يصيروا أشخاصًا بالغين أَكْفاء. إن طريق الصحة النفسية الجيدة يبدأ في مرحلة مبكرة. ولا بد من إيجاد التوازن بين العلاقات والمسئولية الشخصية لتحقيق نتائج صحية، ولكن لن يحقق كلُّ الأطفال هذه القدرات لأسباب متعددة؛ فقد تعاني الأُسَر من مشكلات مزمنة مثل الفقر والبطالة وإدمان الكحوليات وغيرها، أو قد تمر بصدمات شديدة لمرة واحدة فقط ولكن يكون لها تأثير طويل المدى على تطور الأطفال. وبالنسبة إلى هؤلاء الأطفال الذين بدءوا حياتهم في محيط أُسَر معرَّضة لتلك المشكلات، لا يزال هناك أمل كبير للتغلُّب على الأمر؛ نظرًا لإمكانية إقامة علاقات مبكِّرة إيجابية مع مقدِّمي الرعاية على الرغم من المعوِّقات. ويعد تقديم استعراض عام لمفهوم القدرة على التكيف مع الصعاب نقطة جيدة لبدء هذه المناقشة.
القدرة على التكيف والصحة النفسية
القدرة على التكيف هي تلك السمة التي يُزعم أن الأشخاص الذين يتطورون بصورة جيدة يمتلكونها بالرغم من تعرُّضهم للمِحن أو حتى للصعوبات الهائلة. بدأ ما يُعرف عن القدرة على التكيف مع دراسة علم النفس الإيجابي كمفهوم في العقود القليلة الأخيرة من القرن العشرين. بدأ عالما النفس مارتن سليجمان (١٩٩١) وميهاي تشيكسنتميهاي (تشيكسنتميهاي وبيتي ١٩٧٩) يفهمان أن البحوث السابقة قد ركَّزت في الأغلب على علم الأمراض أو السلوك البشري الذي كان يستدعي التدخل العلاجي. وهذا الأمر ليس مثيرًا للدهشة كثيرًا بالنظر إلى طبيعة المجال بصفة عامة؛ إذ تطلَّع علماء النفس إلى فهم السلوك البشري بحيث يتسنَّى علاج الأمراض الاجتماعية أو الشخصية. وبدايةً من سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، كَتَبَ باحثون أمثال مايكل راتر (١٩٧٩) ونورمان جارميزي (١٩٨٥) عن الحاجة لفحص هؤلاء الأطفال الأصحَّاء نفسيًّا، على الرغم من تعرُّضهم لمخاطر مثل الفقر. وفي أبحاثهما المبكرة، اكتشف الباحثان أن هناك بضعة عوامل ارتبطت بالأطفال الذين واجهوا مخاطر ولكنهم حقَّقوا نتائج طيبة. تمثَّلت هذه العوامل في تمتع الطفل بطبيعة مزاجية إيجابية، ومستوَى ذكاءٍ طبيعي، ووجود أبٍ صالح أو أم صالحة، وعامل خارجي واحد جيد مثل معلِّم جيد، وسياق واحد إيجابي خارج المنزل مثل مَدرسة جيدة. يُطلِق العديد من الباحثين على هذه العوامل «العوامل الوقائية» المؤدية إلى القدرة على التكيف.
وفي عهد قريب، واصلَت المتخصصة في علم نفس التطور آن ماستن (ماستن وكوتسورث ١٩٩٨) وزملاؤها وآخرون العملَ على هذه النتائج الأولية بحيث أصبح لدينا الآن إطارَ عملٍ للعوامل المرتبطة بالأطفال الذين لديهم القدرة على التكيف. وبفضل هذه البحوث التي أُجريت مؤخرًا، نعلم أنه — علاوةً على مستوى الذكاء الطبيعي والسلامة البيولوجية — تتضمَّن جوانبُ الطبيعة المزاجية المقترنة بالقدرة على التكيف التمتعَ بنزعةٍ اجتماعيةٍ وهادئةٍ، والإيمانِ بقدرة النفس على السيطرة على البيئة، والانسجامِ مع الآخرين، والتحلي بقَدْرٍ جيد من الاحترام الذاتي. وعادةً ما يكون لدى الأطفال الذين يتحلَّون بقدرة على التكيف أُسَر بها والد صالح يتَّسم بالحنان، ولَدَيه تطلعات عالية، كما يتمتعون بعلاقات إيجابية مع الأقارب. علاوة على ذلك، ترتبط ميزة الاستقرار الاجتماعي الاقتصادي بالأُسَر التي لديها أطفال يتسمون بقدرة على التكيف على الرغم من الصعوبات. وخارج إطار الأسرة، ارتبط وجودُ شخص بالغ إيجابي، ومهتم بالطفل، بتحقيقِ الطفل لنتيجة إيجابية على مستوى المدرسة والمؤسسات الدينية أو المدنية. لخَّصَت ماستن وكوتسورث هذه التفاصيلَ الخاصة بمفهوم القدرة على التكيف في عام ١٩٩٨م، ولا تزال هذه العوامل قَيْد الدراسة في الوقت الحالي. لاحِظْ أنه نظرًا لطبيعة البحث، لم يَجْرِ تحديد خط سببي يبدأ بالعوامل الوقائية ويقود إلى القدرة على التكيف. على الرغم من ذلك، فنحن نعلم العوامل «المرتبطة» بالنتائج الجيدة؛ فقد يتمكَّن الأطفال من التكيف مع التحديات في بيئاتهم. وهذه المرونة التي نطلق عليها «القدرة على التكيف» تعتمد تمامًا على العلاقات الاجتماعية. ويبدو أن للوالدَين دورًا هائلًا في بناء هذه القدرة على التكيف، ولكن قد يكون للعوامل الأخرى خارجَ إطار الأسرة تأثيراتٌ إيجابية على الأطفال أيضًا؛ فالمدرِّسون الأَكْفاء في البيئات المدرسية الإيجابية هم سبيل الصحة النفسية الجيدة للأطفال أيضًا.
يمثِّل الآباء أساس العلاقات الاجتماعية كافة. وبالفعل، تَذْكر ماستن وكوتسورث أن تعزيز الرابطة بين الأبناء والآباء «إحدى الاستراتيجيات الأساسية للتدخل» عندما نرغب في تعزيز مهارة التكيف لدى الأطفال. بمقدور الأطفال التغلب على المِحَن من خلال القدرة على التكيف، وترتبط النتائج الصحيحة بتدعيم العلاقات الإيجابية القائمة. وهذه هي الحال أيضًا مع الأُسَر التي تواجه العقبات الحادة والمشكلات المزمنة، والتي ترتبط بالنتائج التي يحقِّقها الطفل. ويُطلِق علماء النفس على هذه العقبات مصطلح «مخاطر». على سبيل المثال، يمثِّل الفقرُ أحدَ المخاطر المزمنة التي يتعرَّض لها الأطفال، في حين أن اختبار الطفل لكارثة طبيعية، كالأعاصير، قد يمثِّل عاملَ خطورةٍ حادًّا يُسْفر عن نتائج سيئة. وتعني عوامل الخطورة هذه بالنسبة إلى التطور الطبيعي أن الأطفال قد يكونون عرضةً لتحقيق نتائج سيئة.
عندما تتعرَّض الأُسَر لمخاطرَ، سواء أكانت حادة أو مزمنة، يراقب الأطفال ردَّ فِعل الآباء ويعتبرونه إشارات لكيفية إبداء ردود أفعالهم الخاصة. وقد أجرى علماء النفس دراسات على الآباء والأمهات الذين يتولَّوْن تربية أطفال معرَّضين لمخاطر ملازِمة للأسرة، مثل الفقر المزمن أو الطلاق، ومع ذلك حقَّقَ أطفالهم النجاح والازدهار في حياتهم كبالغين. تتضمَّن السماتُ المميزةُ لهذه الأُسَر العملَ على غرس قِيَم معينة مثل أهمية العلاقات الأسرية والمسئولية الفردية والطموحات الدراسية الكبرى. على سبيل المثال، اكتشف أستاذ الطب النفسي للأطفال جيمس كومر، الذي يعمل في جامعة ييل، من خلال دراساته التي أجراها على أطفال الأقليات العرقية؛ أن الأُسَر المترابطة والمدارس الجيدة يمكنها أن تساعد الأطفال في التغلُّب على عوامل الخطورة المرتفعة للغاية، مثل التحيز والتمييز (انظر كومر ٢٠٠٤). علاوةً على ذلك، نَعْلم أيضًا أنه عندما تُواجِه الأُسَر عواملَ خطورةٍ تؤثِّر في الصحة النفسية الجيدة للأطفال، والتي تتضمَّن صدماتٍ أو أحداثًا تُمثِّل تهديدًا لحياتهم، فإن العديد من الأطفال يمكنهم التأقلم بمساعدة أُسَرهم أيضًا.
إن الأبحاث الخاصة بالأطفال الذين تعرَّضوا لصدمة لمرة واحدة فقط أو صدمة حادة، لا تزال حديثة العهد. على الرغم من ذلك، تكرَّرت في هذه الأبحاث نتيجة واحدة تشير إلى أن قدرة الوالدَيْن على توفير مشاعر الدفء والأمان لأطفالهما بعدَ التعرض لصدمةٍ ما تُعَد مؤشرًا ينبئ بقدرة الأطفال على التأقلم؛ ولذلك، يُعتقد أن قدرة الآباء على التأقلم تُعَدُّ أفضل مؤشر لقدرة الأطفال على التأقلم بعد التعرض لحدث صادم. على سبيل المثال، قام عالِم النفس إيه سي ماكفرلاين (١٩٨٨) بمتابعة مجموعة من الأطفال ممن تعرَّضوا لكارثة طبيعية في أستراليا، واكتشف العالِم أن ردود أفعال الأم نحو الحدث كانت مؤشرات أفضل على ردود أفعال الأطفال مقارنةً حتى بعامل قُرْب الأطفال من الحدث المدمِّر.
وقد تم التوصل لنتائج مماثلة مع أطفال من الشرق الأوسط والولايات المتحدة ممن تعرَّضوا لصدمات شديدة أيضًا. ولِحُسن الحظ، اكتشف الباحثون المهتمون بدراسة آثار الصدمات أن البالغين الآخرين من مقدِّمي الرعاية قد يوفِّرون هذا النوع من العوامل الوقائية أيضًا. ويشير عالم النفس جورج إيه بونانو، الذي أجرى العديد من الدراسات حول القدرة على التكيف بعد الصدمات، إلى وجود العديد من مسارات التعافي بعد التعرض لصدمةٍ ما (انظر بونانو ٢٠٠٤). وتُعَدُّ القدرة الفردية على التكيف أحد هذه المسارات التي تبدو في الواقع كمظاهر تعاون بين الأشخاص في نهاية الأمر.
يمكن دعم التطور النفسي الصحي لدى الأطفال من خلال تركيز الأُسَر والمجتمعات ككلٍّ على العوامل الوقائية التي تَصنع فارقًا في حياة الأطفال. نحن ندرك أن تعزيزَ قدرة الأطفال على التكيف مع المخاطر أمرٌ ممكنٌ، وأن عددًا كبيرًا من الأطفال يمكن أن يتمتعوا بصحة نفسية جيدة. إن التركيز على تطور الصحة المعرفية والاجتماعية والعاطفية لدى الأطفال سيُترجَم إلى صحة نفسية، والتي ينبغي أن تكون هدفًا يحظى بنفس الاهتمام الذي تحظى به الصحة البدنية للأطفال في الولايات المتحدة. وبينما تتنوع المهام مع تطور الأطفال، فإن دور البالغين كمقدِّمي رعاية وكمعلمين يظل بارزًا لتنشئة أطفالٍ أصحاءَ نفسيًّا.
* مقتطف بتصرف من كتاب: تنشئة الأطفال في القرن الحادي والعشرين: علم الصحة النفسية للأطفال، المؤلف: شارون كيه هول، ترجمة أحمد الشيهي، نشر: مؤسسة هنداوي.
اضف تعليق