آراء وافكار - دراسات

الاستخبارات والمواطن

مدخل

هناك صورة ذهنية عالقة لدى العراقيين عن الاجهزة الاستخبارية بأنها أجهزة قتل وفتك وان شعارات كشعار الشرطة في خدمة الشعب هي حبر على ورق.

وبعد سنين طويلة من الحكم الدكتاتوري البغيض أصبحنا فجأة أمام حكم يحاول تطبيق الديمقراطية، الأمر الذي خلق ارباك وعدم انسجام بين مؤسسات الدولة خاصة الامنية والاستخبارية منها، ففيما كانت تلك الاجهزة تعتبر الشعب عدو السلطة ويجب قمعه، كان عليها ان تحمي الشعب والحكومة معا وهو مالم تستوعبه تلك الاجهزة للان.

فكان ان دفعنا كلنا الثمن غالياً، بل لقد اثبتت الايام لاسيما بعد احتلال داعش للموصل انه لولا الشعب، لكانت الاجهزة الحكومية الامنية والعسكرية والاستخبارية قد فشلت وتلاشت في غضون ساعات.

عوائق التعاون

ان مصدر قوة الاستخبارات هو تعاون الناس معها، وأن يتحول الجمهور إلى مخبر عن كل شيء للاستخبارات وأن يقوم بواجبه، ولكن بعد أن يثق ويطمئن للاستخبارات، علينا ان نعترف ان المواطن العراقي لا يحترم الأجهزة الاستخبارية ولا يخافها بل يحتقرها ويستهزئ بها بسبب جملة عوامل لا يمكن معها تحقيق معادلة الثقة بين المواطن والاجهزة الاستخبارية، فحين لا يأمن المتعاون على حياته وسرية علاقته بالأجهزة الاستخبارية وكشف اسمه للعصابات والإرهاب فانه لن يتعاون.

وحين تفشل الاجهزة الاستخبارية في مكافحة الجريمة قبل وقوعها، وتفشل في مكافحة الفساد وتترك المواطن فريسة للمرتشين يومياً في كل دوائر الدولة حيث لا يتمكن من التعيين دون ان يدفع الرشوة (حتى عندما يتعين في جهاز استخباري) حينها لا يتعاون.

وحين يشعر أنه عرضة للتفجيرات والقضاء الفاسد والدولة الفاسدة والانتخابات الفاسدة والطبقة السياسية الفاسدة والأجهزة الامنية الفاسدة التي قد تعتدي عليه في اية لحظة وتعتقله، فحينها لا يشعر المواطن بمواطنته فينعكس الامر في عدم تعاون المواطن مع الاجهزة الاستخبارية.

ان الجهاز الاستخباري يتشكل من مجموعة عناصر بشرية، فإن كان السلوك العام للمنتسبين يتمثل بالفساد والرشوة والاعتداء والعنف وايذاء الناس فهذا يؤدي الى شرخ كبير، وإذا كان الاحترام والأدب والقانون وجلب رضا ومحبة الناس فهنا يأتي النجاح.

اما في منظوماتنا الاستخبارية فلا أحد يهتم لجلب ثقة الناس، ولا تشعر الاجهزة بأنها معنية بثقة المواطن، ولم تتمكن الاجهزة الاستخبارية من مد جسور الثقة والتعاون مع المواطن، وتعاملت باستعلاء واستخفاف بالمواطن، بل وتسببت في استعداء المواطن بسبب الأخبار العشوائية وعدم الاحتراف والفساد والاستغلال، فعندما نضع ضابط الاستخبارات في محافظة وهو ليس من أهلها يعني أننا فقدنا دورا مهما في استجلاب خدمات المواطن الذي يلعب دوراً مهماً في جلب المعلومات.

يذكر بعض الاخوة من الموصل ان استخباراتنا (بأنواعها) في الموصل كانت تعتمد على مخبرين من اراذل الناس، وعند سقوط الموصل التحق الكثير منهم إلى صفوف داعش، ولا يستبعد ان تكون داعش قد استخدمت هؤلاء في الاصل لخرق المنظومة الامنية وايذاء الناس من خلال معلومات كيدية وكاذبة.

اهمال مريب

لقد استطاع النظام السابق، من خلال القهر والخوف، ان يجعل الجميع يتجسس على الجميع وأيضا خلق حالة من الرعب والخوف بشكل لا يوصف، ومن فقد ذاكرته فإن سلوك داعش في الموصل كاف لإنعاشها، فبرغم اختلاف الاوامر، لكن اسلوب الترهيب واحد، في المقابل لا يمكن ان يكون جمع المعلومات من خلال منظومة الرعب وانما من خلال الثقة ومن خلال مد الجسور، ولدينا في العراق مواطنين قدموا معلومات هائلة وتعاونوا وضحوا بحياتهم او عوائلهم ولم يشكرهم أحد.

شخصيا، أعرف شخصاً قدم معلومات عن داعش عجزت اجهزتنا الاستخبارية مجتمعة عن الحصول على 10% منها، ومنذ سقوط الموصل وإلى الآن وهو مستمر بذلك للان، وبالرغم من ذلك لم يتم تقديم كتاب شكر له ونسبت معلوماته الى مصادر استخبارية بما لا مسمى له سوى السرقة للجهد، فكيف نجلب ثقة المواطن والأجهزة تتعامل بكذب وتزوير الحقائق، وقد يوجد العشرات مثل هذا الشخص حيث يقدمون خدمة مجانية ولا يتقاضون حتى اجور الاتصال ولا مقابل، بينما تدعي الاجهزة بكل قلة حياء أنها معلوماتها وتسرق اموالاً ثمناً لتلك المعلومات، وهو نموذج عن سوء التعامل مع معلومات المواطنين.

ان السبب وراء ذلك يكمن في ان الاستخبارات بلا رقيب فلا تقييم الجهد ولا رقابة حكومية او برلمانية او شعبية وكل جهاز هو مملكة لصاحبه فلا حاجه إلى أن يستعين بأحد، فهو أن عمل او لم يعمل او سرق جهد الآخرين فلا يوجد من يدقق او يراقب، فهو إذا غير مهتم سوى ببقائه في المنصب.

ان على رجل الاستخبارات أن يتعلم ويتدرب على أنه حارس الشعب ولا يتكبر او يستعلي على المواطن، بل ان رجل الاستخبارات الناجح هو من يكون مواطنا ناجحا يعمل بصمت وبلا عنوان وبلا مظاهر ويسهر على راحة الناس بصفة مدنية بلا حمايات او اسلحة او عجلات مظللة، فهو يبحث عن الأخبار والمعلومات وكلما زادت ثقة أهل المنطقة والمحلة به انجذبت إليه وزودته بالمعلومات.

وللأسف، رجل الاستخبارات عندنا مكشوف من تاريخ تعيينه، فعائلته وأصدقائه ومحلته وعشيرته تعرف مكان عمله ونوع عمله ولكن بلا أي نتاج مفيد من كسب الناس، ويبقى محدودا في الوساطات والابتزاز والتجاوز والرمي في الفواتح والاعراس وعرض العضلات ويكاد يضع باجه الذي يحمله خارج جيبه بل على صدره حتى يراه الجميع ويعرف.

والأسباب كثيرة منها رواسب الماضي وأجهزة صدام والفشل في الاداء وطريقة الانتساب للأجهزة عبر الوساطات والمستوى الثقافي والمهني لدى رجال الاستخبارات، بالإضافة الى السرية والكتمان التي تحيط بعمل قادة الأجهزة الاستخبارية الذين يعيشون دور الخفي ولا ظهور لهم في محاضرات او ندوات في الإعلام او الجامعات او المناسبات، بل انهم متخفون حتى على عناصرهم، ولو أجرينا استبيان نلاحظ أن عدد العاملين في الجهاز الاستخباري الذين لم يلتقوا رئيسهم لوصلنا لأرقام صادمة، فهو فاشل في التواصل مع عناصر جهازه فكيف يستطيع التواصل مع الناس.

كان على الأجهزة الاستخبارية التوجه إلى الإعلام المحترف لتصحيح الصورة والتأثير على المجتمع والمواطن وكسب ثقته وإيصال مفهوم الواجب الوطني الذي يقع على عاتق المواطن والاخبار عن المخاطر وإشراك المواطن في الجهد الاستخباري ومطالبة الناس بالتعاون مع الاستخبارات وإتاحة وسائل التواصل وكان لابد من أن تقوم ادارة المجتمع الاستخباري بأفهام المواطن اين يتصل للإبلاغ عن الجرائم والإرهاب والعصابات والمخدرات وكيف يحذر منها في عائلته ومحلته ومنطقته ومدينة وأصدقائه وأن تذهب لكسب اعتماد وثقة الناس فبلا تعاون الشعب لا يتحقق الأمن المفقود منذ سنين.

بناء الثقة

ان أذرع جمع المعلومات الاستخبارية هي ست:

1-السرية وتتمثل بضابط الارتباط.

2-العلنية ومسؤوليتها منوطة بضابط الرصد.

3-الفنية ويتولاها ضابط المراقبة.

4-التبادلية يتولاها ضابط التبادل.

5-المتابعة (او العكسية) ومهمتها تتبع ضابط التحقيق.

6-التواصلية بمسؤولية ضابط التواصل، ما يخص مبحثنا هو ضابط التواصل مع الجمهور والمواطنين.

ان فشل ذراع التواصل من مركز الجمع يعني فشل الاستخبارات من الإفادة من الشعب كمصدر هائل للمعلومات، وهنا تقوم المؤسسات الاستخبارية المحترفة بتقييم ذراع التواصل مع المواطن كل فترة وتقوم بالإصلاح المطلوب، فان لم تفعل ذلك فان اية جهود مضاعفة لأذرع الجمع لن تغني عن المعلومات التي تأتي من تعاون المواطن، مما يضطرها (كما هو حاصل لدينا) ان تنزوي وتصمت وتبدأ بالأكاذيب والمعلومات المغلوطة بلا محاسبة وتزيد من إنتاجها للكذب والفشل واستمرار انهيار الثقة.

ان المعدل العام للمعلومات المتحصلة من الجمهور يفترض ان لا يقل عن 10% من كل المعلومات، ولكن الدول استطاعت ضمن برامج توعية ورفع الإحساس بالمسؤولية ان توصلها الى مستويات كبيرة ونسب اعلى، فالثقة بالأجهزة الاستخبارية يجعل الخط الساخن ساخناً وفعالاً ومفيداً ومصدراً مهماً للمعلومات، وحين تعرض الاجهزة الامنية الاستخبارية صور للمجرمين والمطلوبين فهذا يعني أنها تستعين بالمواطن وأنها عجزت عن مسك الهدف وتطلب تعاون المواطن (وهي ضمن ذراع التواصل) وتسمى معلومات مقابل ثمن كحافز.

ان الدول المتقدمة تعتبر تقييم المواطن ونظرة الشعب هي المعيار لنجاحها، ونحن لا نهتم ان نسمع ما يقوله المواطن، فعندنا القواعد مقلوبة، حيث يجب أن يسمع المواطن من الحكومة، بينما الصحيح أن على الحكومة ان تستمع للمواطن، فما ان تهمله سيهملها، حتى بات تعريف الدول المتقدمة :بانها الدول التي تخاف من شعوبها وتحترم رأي ورغبة شعبها، بينما الدول المتخلفة :هي الدول التي يخاف الشعب فيها من الدولة وفي ذات الوقت يحتقرها، ففي الدول الديمقراطية يخشى المواطن فقط من شرطي المرور وفي الدول المتخلفة يخشى من الاستخبارات.

ويدفع المواطن ضريبة فشل الأمن والاستخبارات من حياته وعائلته وممتلكاته وماله، وأخيرا، منذ سنتين دفع ضريبة كبيرة عندما انهزم الجيش في الموصل بسبب فشل وغباء وفساد القادة السياسيين الذين تسببوا بفساد المؤسسة الامنية والعسكرية، وكانت النتيجة ان دفعنا جميعا الدماء والاموال والتشرد كي نستعيد ارضنا الغالية.

وتقوم الأجهزة المحترفة عادة بتأسيس مركز لدراسة وبحث ومراقبة وتقييم الاجهزة ومقبوليتها لدى المواطن ومقدار ثقته بها، ولا يتم ذلك عبر لجنة من الفاسدين الذين يذهبون ويرتشون من قبل المسؤول الفاسد ويعودون ليقولوا ان كل شيء ممتاز، وانما يتم وفق دراسات محايدة وصارمة.

وفي حال تشخيص الخلل تذهب الى برامج إصلاح لتنتج برامج تزيد من اعتماد وثقة المواطن بها، ويبنى هذا البرنامج على:

1-التثقيف: على الاجهزة الاستخبارية كسب ثقة المواطن من خلال تطبيق برامج تثقيفية تدعو المواطن الى التعاون وتشعره بأهمية التكاتف مع الاجهزة الاستخبارية المهنية، ويجب استخدام علم النفس لحث المواطن.

2-السرية: ان يحس المواطن بأنه في امان وسرية عند التعاون مع الاستخبارات.

3-التواصل: تسهيل عملية التواصل من خلال الهاتف والانترنيت والإيميل ووسائل التواصل الأخرى واللقاء المباشر وتنشيط مراكز خبرية في كل مكان.

4-التحفيز: تنفيذ برامج تحفيزية تدفع المواطن للتعاون كالمكافئات.

5-المحاسبة: التدقيق التام على كل المجرمين والارهابين، ومعرفة أقاربهم من الدرجة الأولى الذين لم يخبروا عنهم، ومحاكمة كل من يتستر على المجرمين وتشديد العقوبات على هذه الجريمة.

خلاصة

كما قلنا دوما، ان الاستخبارات تقوم على المعلومات، والشعب بإعداده العظيمة وتواجده في كل مكان من الحدود الى الحدود هو خير معين للدولة واجهزتها الاستخبارية، ولكن المواطن لا يمكن ان يتقدم للتعاون الطوعي مع اجهزة الدولة مالم يشعر ان الدولة تهتم بمتطلباته الحياتية.

فما بالك بمن يطلب من المواطن التعاون مع جهازه وفي نفس الوقت لا يعين في جهازه احداً الا بالرشوة والمحسوبية، ويسرق جهود المواطنين الذين يقدمون المعلومات ويستلم مكافآت بالنيابة عنهم ويسرقها، بل ولا يروي عن كشف اسماء المتعاونين والمخبرين، لقد دفعنا جميعا ثمناً باهضاً عن ضعفنا الاستخباري بسبب عدم التعاون هذا، وهو امر لابد من تداركه بشكل علمي وعملي.

اضف تعليق