الأمن المالي مشروع متكامل تتعامل الدول معه بمهنية عالية لتجنب الاضرار الجسيمة للتسيب والجرائم المالية على البلد والشعب، ولدفع المشاكل الهائلة التي تتسبب به فوضى الفساد.
فالفساد المالي هو التدمير الحقيقي للبلد ومقدراته ومن نتائجه الكارثية انهيار العملة الوطنية والتضخم بسبب ارتفاع الطلب وقله المعروض، وقتل روح المنافسة التجارية وشراء الذمم لأفراد مؤثرين في الاجهزة الامنية والرقابية، بالإضافة للتهرب الضريبي وعجز الموازنة وخروج رؤوس الاموال الى خارج البلد والركود الاقتصادي وتدمير البنى التحتية والتسابق غير المشروع لكسب المال الحرام والفقر والطبقية وانهيار الطبقة الوسطى وتفشي الجريمة.
يقوم امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ((الناس في المال ملة واحده))، وبالفعل، ترى الفاسد مالياً يتعامل في صفقاته وفساده مع كل الوان الطيف العراقي ولكنه يبدوفي العلن وكأنه المدافع الشرس عن قوميته اودينه اومذهبه.
ان مشكلة الفساد في العراق تكمن في استفحالها حيث اصبحت خارج نطاق السيطرة والمعقول واصبح الفساد ((هوية النظام))، وقد يكون هو الاخطر والاصعب من الارهاب فهو يؤسس ويغذي ويدعم الارهاب لقد اثبت النظام المصرفي العراقي فشله، فبالرغم من عدم الاستقرار، فاننا نرى البنوك الاهلية تفتح فروعها في العراق وذلك للتسابق على الكسب غير المشروع، كما نلاحظ ايضا البنوك العربية والشرق اوسطية تأتي للعراق باستمرار برغم الركود الاقتصادي والعجز الكبير في الموازنة، لان العراق سوق مثالي لعمليات غسيل المال بسبب الفساد المستشري ونقص التشريعات وعجز المؤسسة الرقابية.
غسيل الاموال
غسيل أو تبيض الأموال جريمة اقتصادية تهدف إلى إضفاء شرعية قانونية على أموال محرمة، لغرض حيازتها أو التصرف فيها علناً كونها اموال متحصلة من طرق غير مشروعة كالمخدرات وتهريب الاثار وجرائم الارهاب والدعارة والرشوة وتزوير العملة وغيرها.
يمر غسيل الاموال بثلاثة مراحل هي:
1- الايداع: التخلص من الاموال القذرة بايداعها وادخالها النظام المصرفي وهي الخطوة الاصعب والاخطر, ففي هذه المرحلة تسهل عمليه الكشف والمراقبة والمطاردة بسبب حجم الاموال واقترابها من النظام المصرفي.
2- التمويه: ويتم فيها تفريق الاموال وتوزيعها على حسابات ومصارف مختلفة وصولاً الى ايداعها في مصارف عالمية من خلال دورة بنكية تسمى الملاذات المصرفية الامنة، ويدفع في هذه المرحلة مالك المال غير المشروع نسبة مغرية من الاموال للبنوك المشاركة في الغسيل.
3- الاندماج: وهي مرحلة تجفيف المال غير المشروع وادخاله بشكل شرعي علني الى الدورة الاقتصادية وبأشكال مختلفة كالقروض والصفقات التجارية الوهمية وشراء عقارات واراضي واسهم وغيرها، وحين يتعدى المال غير الشرعي المرحلة الثالثة يصبح من الصعب كشفه.
في العراق يتم غسيل الاموال بمرحلتين الايداع والاندماج حيث تتم اعادة تاهيلها وتدويرها بشكل مباشر بحماية سياسية.
لقد اصبح العراق منذ 13 عام المركز الأكبر والأهم لغسيل وتبيض الاموال، والجميع يعلم بذلك، حيث يُغسل المال ويخرج بعدها نظيفاً الى لبنان وايران وتركيا ودول الخليج واوربا وامريكا وحتى الى دول في قارة افريقيا، ونسجل استغرابنا من ان الحكومة قد تقاعست عن بناء اجهزة امنية ورقابية فعالة برغم المخاطر.
فلدينا هيئة نزاهة والعديد من اجهزة المكافحة غير المجدية كديوان الرقابة المالية واللجان البرلمانية ومديرية الامن الاقتصادي ودوائر الضريبة والكمارك والتقييس والسيطرة والمفتشيين العموميين ولجان النزاهة في مجالس المحافظات ولجان التحقيق، ولكن تلك الدوائر هي ذاتها متهمة بالفساد الذي ينخر فيها، وواضح من مخرجاتها طيلة السنوات الماضية انها قد ألهتنا بصغار السراق وتركت القطط السمان والحيتان يمرحون بأمان.
الغسيل العكسي
لدينا في العراق غسيل اموال عكسي ايضا لتمويل الارهاب، حيث تصل اموال مشروعة وتذهب الى تمويل الارهاب، ومثال ذلك ان الجهات الممولة للعمليات الارهابية تقوم (بعد التضييق عليها) بإرسال مواد غذائية او بضائع الكترونية للعراق بدلاً من الاموال، حيث تستلمها جهات مشبوهة بواجهات تجارية تقوم بتصريف البضائع سريعاً بأسعار يصعب منافستها وتباع في العراق وتذهب الاموال المستحصلة لدعم الارهاب وكثيرا ماحصلت تلك الحالة من بعض صناديق دعم الارهاب من دول الخليج.
الخراب المالي في العراق
لقد عانى العراق على كافة اصعدته المالية والاقتصادية من تخريب متعمد ساهمت فيه طبقة سياسية فاسدة كان كل همها شفط الاموال والتلاعب بموازنات الدولة المليارية.
وزاد في الخراب الاقتصادي هشاشة الاجراءات الامنية والقانونية والاستخبارية، الامر الذي جعل العراق ساحة مستباحة لتهريب وتبييض الاموال.
وكان لتفاقم التواجد الارهابي وتمويله الدور الكبير في ايجاد طرق ذكية لإدامة تمويل التنظيمات الارهابية مما زاد بطفرات كبيرة في الفساد المالي في العراق.
فكان ان عم الخراب في النظام المصرفي للدولة واغرقت دوائر الدولة بالرشى التي وصلت الى اكثر من 20% من اقيام العقود الفاسدة وفقدت الشفافية في ميزانيات الحكومة وضاعت الحسابات الختامية وعانى سوق البورصة والاسهم من انفلات كبير واصبحت المصارف الاهلية دكاكين للسرقة باساليب مصرفية متخلفة وبانعدام الرقابة عليها وعدم ضمان رأس المال من قبل البنك المركزي.
وزاد الطين بلة، العبثية الواضحة في بيع الدولار باحجام كارثية وبفواتير مزورة وعدم توحيد سعر الصرف وانهاك مخزون البنك المركزي من العمله الصعبة والقرارات المتهورة وغير المدروسة، وكان آخرها محاولة صرف مليارات الى المصارف الحكومية لاطلاق مشروع القروض بلا حل لمشكلة مطالبات التجار والمقاولين لاموالهم الضائعة في المصارف.
ولعل احد ابرز اشكال التسيب المالي والامني هي التحويلات المالية المنفلتة بلا رقابة، ففي حين لا يستطيع احد في العالم ان يحول مبلغ 10000 دولار دون ان يخضع للمسائلة، فانك تستطيع في العراق تحويل اي مبلغ من خلال مكاتب الصرافة دونما رقيب.
الاستخبارات المالية
لقد تنبهت اجهزة الاستخبارات والدول المتقدمة لخطورة الفساد المالي, فقامت بتأسيس الاستخبارات المالية التي اصبحت راس الحربة واخذت على عاتقها معرفة الفاسد ومجموعته واعماله ومن ثم تقوم اجهزة المكافحة المختصة بمكافحة غسيل المال بالقبض عليهم وفق تشريعات قانونية واضحة.
ان اغلب الدول المتقدمة لديها فرع استخبارات مالي مختص يعمل اما في وزاره الخزانة او المالية او في احدى المؤسسات الاستخبارية الوقائية ضمن المجتمع الاستخباري، وهذا الجهاز هو المكلف بالتجسس والمراقبة والتدخل وحتى انفاذ القانون بالتعاون مع السلطة القضائية.
لقد انتجت الفوضى المالية في العراق المزيد من الفقر والسرقة والاختلاس وغسيل المال والرشى مما يستدعي الى وقفة حقيقية والى استخبارات مالية فعالة تستقطب اليها ابرز المدققين وخبراء المحاسبة وتراقب دورة الاموال وتكشف المفسدين وتقدمهم للعدالة، كما هو الحال مع واجب الاستخبارات الاخرى التي تبحث عن المجرم والارهابي والقاتل.
فالاستخبارات المالية هي استخبارات تخصصية علمية بحاجة الى اختصاصيين في مجال المحاسبة والمصارف ودوره المال وغسيل الاموال وتزييف العملة والتهرب الضريبي وكل اشكال تجاره المال.
على طريق الحل
بالترادف مع انشاء الاستخبارات المالية المتخصصة، فإن على الدولة اصلاح النظام المصرفي المنهار ووضع ضوابط وقوانين ملزمة وتنفيذها لمعالجه التخلف والبيئه والارضية التي تجذب غسيل الاموال ومنها:
1- ربط منظومة المصارف العراقية الحكومية والاهلية بمنظومة مركزية للسيطرة والمراقبة في البنك المركزي، ومراقبه حركه المال ضمن برنامج تكنولوجي دقيق وشفاف.
2- منع اية جباية او تعاملات مالية او عقود او استقطاعات او دفوعات او تحويلات خارج النظام المصرفي والزام القطاعين الخاص والعام والمختلط بعدم قبول اي دعاوى مالية في المحاكم في حال عدم مرورها بالنظام المصرفي.
3- تحديد مكاتب الصيرفة بتصريف الاموال والسيطرة على التحويلات من خلال المصارف والمؤسسات المالية.
4-السيطرة على تدفق فروع المصارف الاجنبية بشروط ادخال الاموال للعراق وليس العكس.
5- إلزام الجميع بالتعامل بالعملة الوطنية في التعاملات والعقود والرواتب وكل المدفوعات والجباية
6- ضمان رؤوس الاموال وايداعات المواطن من خلال البنك المركزي وفرض رقابة صارمة على المصارف.
7- منع اي مسؤول حكومي او قائد عسكري او برلماني او عضو حكومات محلية من فتح اي حساب هو وعائلته من الدرجة الاولى الا باشراف الاستخبارات المالية والمدعي العام.
8- تحديد تداول العملة الصعبة داخل البلد.
9- توحيد سعر الصرف.
10- اقرار تشريعات دقيقة وعقوبات شديدة ضد غسيل الاموال وتبيضها.
خلاصة
نحن بأمَسِّ الحاجة الى استخبارات مالية تؤسس بالتعاون مع ابرز مكاتب الامم المتحدة المختصة بمكافحة غسيل الاموال وتنشر اذرعها في المصارف والمؤسسات المالية وتراقب وتكون عين الشعب العراقي على دوره الاموال المنهوبة.
فاذا كانت استخبارات العالم تبحث عن ابي بكر البغدادي خليفة الارهاب، فإن علينا ان لانغفل عن خلفاء الفساد المالي في العراق، لأنهم هم المسؤولون عن كافة مناحي التدهور في العراق.
اضف تعليق