انتشرت خلال السنوات السابقة جامعات حكومية وأهلية جديدة في الوسط الأكاديمي العراقي وذلك لاستيعاب الطلاب والطالبات من خريجي المرحلة الإعدادية، ورافق هذا التوسع الافقي في عدد الجامعات، زيادة عددية كبيرة في طلبة الدراسات العليا التي وصلت الى ارقام غير مسبوقة. وبالرغم من ازدياد عدد الجامعات وقدرتها الاستيعابية خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، وازدياد عدد تدريسي الجامعات وازدياد عدد طلبة الدراسات العليا، الا ان عجلة البحث العلمي في العراق بقيت شبه متعطلة وعاجزة عن الدوران منذ عقود من الزمن.

أتسأل أحياناً، إذا كانت هذه الجامعات العديدة، بميزانياتها، وباحثيها، ومبانيها الضخمة غير قادرة على تحقيق الوجه الآخر من عملها والمتمثل بالبحث العلمي نحو مشاكل المجتمع، فما هي الاسباب التي أدت الى عدم فاعلية البحث العلمي وحجمت دوره الهام والمعقد والمؤثر في التنمية في العراق؟ هل يتوجب علينا ان نتوقع من بحث علمي ضعيف ان يؤدي دوراً محورياً مهماً في حل الكثير من المشكلات المجتمعية والاقتصادية التي نعاني منها؟

عالمياً، معظم جامعات الدول المتقدمة تجاوزت المشكلات الأولية التي تعاني منها، واستطاعت أن تصل إلى استقلالها المالي والإداري عن الحكومات، وأصبحت قادرة على تطوير ذاتها بذاتها، وذلك من خلال البحث العلمي الذي أصبح يدر اموالاً طائلة للجامعات. على سبيل المثال ان باحثي الجامعات في تلك الدول يبرمون عقود مع شركات تجارية وصناعية وخدمية محلية وعالمية مقابل أجور مالية يذهب جزء منها لتمويل الجامعات. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، عندما يتقدم أحد التدريسيين للعمل في جامعة ما، فانه يتطلب تحديد جوانب عملة البحثي المستقبلي وماذا سيقدم للجامعة وللمجتمع خلال فترة تعيينه، فإذا لم يوفي بالتزاماته خلال فترة عملة، للجامعة الحق في تسريحه من العمل. فضلاً عن التمويل الذاتي للجامعات، هناك تمويل اخر من قبل الحكومات والمؤسسات العلمية والصناعية والتجارية للبحث العلمي من اجل معالجة مشكلات واقعية يعاني منها المجتمع وايجاد حلول لتلك المشكلات التي تعزز في نهاية المطاف تنمية المجتمعات.

بينما في العراق لم تزل معظم المشكلات بارزة منذ عقود من الزمن، فالجامعات العراقية تنتظر الدعم من الحكومة، وإذا ما توقف الدعم المالي سينتج عنه توقف عجلة البحث العلمي. ليس الامر يتوقف عند التمويل الحكومي فحسب، بل هناك مشكلات أخرى اثرت بشكل كبير على فعالية البحث العلمي، منها عدم وضوح الرؤية والأهداف لدى الجامعات العراقية، وبيروقراطية العمل، وعشوائيته أحياناً، وافتقاد الموضوعية، وغياب النظام الجاذب للكفاءات المتميزة في مجالات الدراسة والأبحاث، وغياب أدوات القياس والتقييم للمؤسسات البحثية العراقية، وغيرها من الأسباب التي جعلت مستوى البحث العلمي متراجعاً على المستويين العربي والعالمي، كل ذلك انعكس سلباً على تنمية المجتمع وتقدمة.

خير مثال على ماذكرته سابقاً، هو اجراءات التعيين في الجامعات العراقية، فوزارة التعليم العالي حددت نسبة تعيين الطلبة المبتعثين في الجامعات بنسبة 5% والكفاءات العائدة بنسبة 2%. فكيف يمكن ان يتطور البحث العلمي في ظل هذه النسب؟ اني أجزم ان غالبية الطلبة المبتعثين قد درسوا وتدربوا تحت أيادي اساتذة اكفاء يشهد لهم بالبنان العلمي في العالم وهناك بعض من الطلبة كاد ان يحصل على براءة اختراع. وكذلك الحال للكفاءات العائدة قد عملوا مع اساتذة جيدين وفي جامعات عالمية وعربية رصينة. كيف ان يمكن ان نطور بلدنا ومجتمعنا في ظل هذه السياسات العديمة الجدوى؟

دائما مايرد في خاطري لماذا طلبتنا وباحثينا واساتذتنا يبدعون في الجامعات الأجنبية؟ بينما يعجزون عن اداء ابسط أعمالهم في العراق؟ لعل السبب يكمن في عدة جوانب ذكرتها بوضوح في ما تقدم. اهمها كما اسلفت السياسات غير الناجعة التي تتخذها وزارة التعليم العالي لاسيما في مسألة التعيينات وجذب الكفاءات مع اخذ بعين الاعتبار جوانب القصور في الجامعات.

ان عدم استقلالية الجامعات العراقية مالياً وادارياً له تأثير سلبي في اختيار نوعية مشكلات البحث العلمي، مما يعيق جامعاتنا على طرح مشاكل معقدة في المجتمع وعدم التعمق في حلها على سبيل المثال: أن هم مشكلة يعاني منها المجتمع في الوقت الحالي هو الفساد المالي والاداري والذي من المفترض ان تسعى جامعاتنا الى دراسته، توضيح أسبابه، شبكاته، الجهات المتورطة فيه، تأثيره على التنمية الاقتصادية... إلخ، ولو تمكنت في دراسة مثل هذا الأمر، فلن تكون حرَّة تماما أثناء البحث، ولن تصل إلى البيانات التي تساعد في التوصل إلى نتائج دقيقة، وفيما لو توصلت إلى ذلك، لن تملك الحرية في نشر نتائج مثل هكذا بحث، ولن تكون قادرة على تقديم النتائج الى الجهات ذات العلاقة المسؤولة عن النزاهة.

من جهة اخرى، ان ابرام الحكومة العراقية عقد مع مؤسسات عالمية من اجل الاستعانة بخبرائها الدوليين لدراسة ملفات الفساد ماهو الا دليل واضح على عدم قدرة ادوات البحث العلمي والمتمثلة ببعض الباحثين ومراكز البحوث في دراسة وتتبع مثل هكذا ملف كبير ومعقد. وبالتالي يمكن ان يتعزز لدينا اليقين بأن البحث العلمي في العراق غير مجدي وغير فعال.

لا يتعلق ضعف البحث العلمي في العراق بأهمية استقلال الجامعة والمركز البحثي فحسب، وإنما أيضاً في وجود فجوة واضحة بين الصروح الأكاديمية وبين واقع المجتمع العراقي والذي هو بدوره يعيش مشكلات كثيرة معقدة ومتجذرة تحتاج الى حلول يمكن ان يقدمها الباحثين العراقيين. ان الواقع يؤكد لنا ان البحوث العلمية العراقية تعمل في مجالات بعيدة كل البعد عن واقع المجتمع وتنميته المطلوبة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ان ضعف النتاج العلمي وسطحيته وعدم التعمق في مشكلات محلية واقليمية وعالمية يجعل البحث العلمي العراقي غير مرغوب فيه وغير جذاب للباحثين الخارجيين، وهذا ما أظهره تصنيف (كوكل سكولر) والذي يعتمد على تصنيف الجامعات حسب نسبة الاستشهاد بأعمال باحثيها. حيث جاءت الجامعات العراقية قي مراتب متدنية جداً، حيث حلت افضل جامعة عراقية في التصنيف (جامعة ديالى) في التسلسل 2296 بمجموع بلغ 6360 استشهاد. هناك من سيعتبر هذا انجازاً علميا حققته جامعة عراقية، ولكن هنا اود ان اقول ان مجموع ما تحصلت عليه جامعة ديالى ربما قد لا يصل الى عدد الاستشهاد بأعمال باحث واحد من جامعة هارفرد والتي جاءت في المرتبة الأولى.

مقترحات لتطوير البحث العلمي:

1- اعادة هيكلة البحث العلمي العراقي بما يتلائم حالة التطور الحاصل في النماذج العالمية. يتوجب اعادة النظر في الاجراءات والتشريعات والمراكز الادارية والبحثية والعمل على استحداث مراكز جديدة وخلق منافسة بينها. وكذلك العمل على استقلال الجامعات في جانب البحث العلمي من اجل خلق بيئة علمية صحية تواكب الركب العالمي، على ان يقود هذه الهيكلة الكفاءات العراقية المتواجدة في الخارج لما لها من خبرة واسعة في هذا المجال.

2- في ظل تزايد الولوج المستمر الى الدراسات العليا وماله من تأثير سلبي في المستقبل، اقترح استحداث تصنيف جديد للألقاب العلمية حسب التسلسل التالي: مدرس مساعد، مدرس، استاذ مساعد، استاذ مشارك، استاذ، واستاذ مميز على ان يمنح لقب استاذ مساعد لحملة شهادة الدكتوراه عند التعيين كما هو معمول فيه في الدول المتقدمة.

هذا النظام سيساهم بتعزيز البحث العلمي من خلال نوعية البحوث المقدمة حسب التدرج في اللقب العلمي. فكلما تدرج التدريسي في اللقب العلمي نحو الالقاب العليا، كلما توقع منه ان يقدم بحوث ذات نوعيه اصيلة من اجل الترقية العلمية. كما ايضاً ان هذا التسلسل سيحمي الجامعات العراقية وطلبتها من الالقاب العلمية الوهمية التي تمنحها بعض الجامعات في الخارج. وكلنا نعلم بعد تشريع قانون التعليم العالي الاهلي، سوف تقوم الكليات والجامعات الاهلية بتخريج جيوش من خريجي الدراسات العليا الذين سيحملون شهادتي الماجستير والدكتوراة خلال سنوات قليلة. لطالما كانت وزارة التعليم العالي تُشكل على نوعية التعليم في الدراسات الاولية في التعليم الاهلي، فكيف سيتم السيطرة على الدراسات العليا في تلك الجامعات والكليات الاهلية؟

3- العمل على توأمة البحث العلمي في الجامعات العراقية مع البحث العلمي في الجامعات العالمية من اجل تشجيع الباحثين العراقيين للعمل مع باحثين اجانب وذلك للاحتكاك بالخبرات العالمية وبعالم التقنيات والتكنولوجيا البحثية وحثهم على نشر اعمالهم البحثية في المجلات العلمية لتلك الدول. كل ذلك وغيره سنعكس ايجاباً على نمو البحث العلمي وتطوره في العراق.

4- اعادة تصنيف وهيكلة بعض المجلات العلمية العراقية والتي عادة يكون هدفها مادي بدون النظر الى قيمة البحوث المنشورة. وكذلك التعاقد مع مجلات علمية اقليمية وعالمية معروفة سيعزز من قيمة ومصداقية البحوث المنشورة.

5- العمل على انشاء نظام الكتروني حديث يضمن ارشفة البحوث المنشورة وذلك منعاً للسرقة العلمية وكذلك لمنع سرقة اعمال وافكار الباحثين الآخرين. فهناك المئات من البحوث قد تمت سرقتها تخص باحثين آخرين وباحثين من الدول المجاورة. يحكى ان باحث عراقي قد انجز 33 بحث خلال سنة واحدة !!، يبدو ان هذا الباحث هو خارق للعادة!. وهناك الكثير على شاكلة هذا الباحث.

6- استحداث متطلبات جديدة التي يمكن خلالها حث التدريسيين المتقدمين للتعيين في الجامعات العراقية تقديم خطط بحثية مقترحة لتلك الجامعات قبل التعيين، على ان تكون البحوث المقترحة رصينة ومرتبطة بمشكلات المجتمع وان تخضع للدراسة والفحص من قبل لجنة متخصصة وتعتبر هذه المقترحات البحثية معياراً مهماً للتعيين في الجامعات.

7- استحداث تشريعات ولوائح واضحة تحدد سلوكيات واخلاقيات الباحث العلمي كما هو معمول فيه عالمياً، على ان تتضمن تلك التشريعات واللوائح عقوبات صارمة تصل الى حد الطرد من الجامعة اذا ماثبت سرقة البحوث والافكار العلمية من قبل الباحثين.

لم يشهد البحث العلمي في العراق اي حملات تطوير واصلاحات خلال السنوات السابقة وكذلك ليس هناك خطط استراتيجية التي يمكن من خلالها تنمية الباحثين الجامعيين بشكل خاص والبحث العلمي العراقي بشكل عام. نحتاج الى مرحلة جديدة أكثر عمقاً في الاصلاح والتغيير والى شكل جديد من اشكال البحث العلمي اكثر رقياً وتفتحاً، واكثر قدرة على فهم هذا الفوضى اللامتناهية والمتجددة التي يعج بها مجتمعنا والتي تزداد توسعاً يوماً بعد يوم لتثير تساؤلات عن قدرة البحث العلمي الحالي في معالجة تلك المشكلات.

اذا لم تتخذ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قرارات جريئة ومضنية من اجل رفع وتطوير مستوى البحث العلمي ومن اجل مساعدته في أن يتجاوز معوقاته المعروفة، وعلى راسها ايجاد بيئة انجاز تتصف بالديمقراطية والصحية والمستقلة، سيبقى العراق متأخراً عن غيره لعقود اخرى من الزمن.

* باحث واكاديمي-ادارة وسياسة تربوية
The State University of New York at Buffalo USA

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق