q

ما لمقصود بأنسنة الدين؟، وماهي الأهداف الحقيقية لمن يتبنون طرح هذا المفهوم في الأوساط الفكرية والثقافية؟، هذان السؤالان الحيويان يتصدران ذهنية المهتمين بقضايا تجديد الفكر الديني بما يتوافق مع متطلبات العصر الحالية ومستجداته الملحة المتسارعة، لكن، هل يعني هذا أن يكون التجديد على حساب الثوابت التي ما إن يتم المساس بها حتى يحصل التصدع في الجدار الأخلاقي الإنساني؟، قد يحمل هذا المصطلح الفضفاض أكثر من بعد ومعنى، لكننا سنتعامل تحليلياً مع بعدين أساسيين متحرين الدقة والموضوعية ما استطعنا اليهما سبيلا.

ينظر البعد الأول لمصطلح (أنسنة الدين) من زاوية النص الشرعي الذي يمكن - بحسب بعض الآراء - مساواته بالنص الإنساني الاعتيادي، وبالتالي هو خاضع للنقد، وكأنّه مثل أي عمل أدبي، هذا البعد لا يمكن أن يحصل على مقبولية، خصوصاً من الذين يلتزمون بالأحكام السماوية، لأنه يصطدم مع متبنياتهم ومعتقداتهم الإيمانية، فضلاً عن عدم قبول المنطق العقلي لهذه الفرضية، لأن تصنيف النص السماوي على أنه نص شبيه بالنصوص البشرية يجعله عرضة للاختلاف، وهو ما سيؤدي إلى خلخلة كبيرة في المفاهيم و المعايير، قال الله تعالى في كتابه العظيم: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا - النساء82"، والآية الكريمة تفند كل الفرضيات القائلة بأنسنة النص الديني وفق الفرضية السابقة.

البعد الآخر الذي يمكن نحلله من خلال مصطلح (أنسنة الدين)، هو بعد إيجابي يركز على الجوانب الأخلاقية والتربوية التي يؤكد عليها الدين بهدف وصول الإنسان إلى مرحلة تكاملية من شأنها دحض كل الإشكاليات التي تثار حول الدين خصوصاً في العقود الأخيرة، لو أردنا تفكيك هذا المصطلح، نجد أنه من المفيد أن ننتقل من عمومية مفردة (الدين) إلى جزئية مهمة منه، وهي جزئية (الخطاب الديني) فيكون المصطلح (أنسنة الخطاب الديني)، ونعتقد أن مثل هذه التسمية أقرب للواقعية والموضوعية خصوصاً مع التداعيات الكثيرة التي يشهدها العالم اليوم بسبب الخطابات الدينية غير المنضبطة، والمنفلتة من التعاليم الدينية وجوهرها الأخلاقي، لذلك نرى أن التركيز على أنسنة الخطاب الديني من خلال إعادة إنتاجه للآخر كفيل بأن يجعلنا قريبين مع العصرنة وضروريات التماهي معها للوصول لعالم بلا تشنجات وإرهاصات، مدعومين بقول القرآن الكريم: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن - النحل :125".

ويعتبر (محمد اركون) من أكثر المفكرين المعاصرين اهتماماً بالأنسنة رغم أن طروحاته في هذا الموضوع مثار جدل بين متفق ومختلف، فهو يرى ضرورة الانفتاح على التأويل، وتكوين علاقة جديدة بين الإنسان و النص، لكنه يذهب بعيداً في رؤيته عندما يؤكد إن التأويل يجب أن يبتعد عن المسلمات والمحددات الدينية والتاريخية والإيديولوجية، وحاول كثيرون تفسير الرؤية الأركونية، فمنهم من عدها خطاً بين الأنسنة الشكلانية المنفصلة عن الواقع والعنصرية في نظرتها إلى المجتمعات البشرية، والأنسنة التي تتجه للإلحاد، وهاجم اركون الجزم بأن الأنسنة الدينية من زاوية ادعائها تمثل الإرادة الإلهية الكاملة ويدعّم اعتراضه بالصور المشوهة والمحرفة للواقعين المسيحي والإسلامي.

نمط آخر فسر رؤية أركون على انها غير متجاوزة للثوابت الدينية، بل وتتفق مع مضمون القرآن الكريم الذي ركز على أن الإنسان هو خليفة الله في أرضه، وأن الوجود مسخر له، مشكلة أركون أنه يقدم أفكاره هذه بعقلية لاهوتية ووجودية ما جعله أقرب لمثالية لاواقع يمكن أن يلمع - ولو بضوء خافت - فيها.

إن المطالبات بتجديد الخطاب الديني لا ينبغي أن تكون ذريعة لهجوم الجماعات الأصولية المتشددة، وأن تُتهم بمهاجمة الدين كمنظومة قيمية كبيرة وراسخة، ضرورة تجديد الخطاب لابد أن ترافقها آليات فكرية تفكك المفاهيم الخاطئة التي ينطلق منها المطالبون بأنسنة الدين وفق المحددات المثالية، هذا التفكيك للمفاهيم يمكن له أن يرتقي بالمجتمعات الإسلامية ليس فقط على صعيد التنظير، بل لابد من سياقات عمل محسوسة وملموسة في ذات الوقت.

أهم هذه السياقات العملية لتجديد الخطاب تكمن في عدم اجترار الماضي (المقدس)، بل الأفضل وضعه على مشرحة النقد الموضوعي والاعتراف - وهذا مستبعد حالياً - بأن أسباب نشوء جماعات التكفير السلفية في العالم الإسلامي هو ذلك التقديس الأعمى للماضي ومدوناته الفكرية والفقهية، وشواهدنا على ذلك كثيرة، فكم هو عدد المؤتمرات التي أقيمت في البلدان الإسلامية تحت يافطات الوحدة ونبذ العنف وبلورة خطاب إسلامي معاصر؟، وكيف كانت النتائج؟، وأين اليات العمل الخاصة بالتوصيات التي خرجت بها تلك المؤتمرات؟، الجواب هو لا شيء، والتطرف آخذ في الازدياد ما يشير إلى عدم جدية هذه المؤتمرات في مسعاها.

لذلك نقول أن من اولويات تجديد الخطاب هو تحليل النماذج الفقهية وامتداداتها الفكرية التي انطلقت منها وصولاً إلى النموذج الإسلامي الحاكم في بعض البلدان، وارتباكه بين مسلماته وتماهيه مع نموذج الحكم الغربي ما اوقعه في شيزروفينيا هائلة، وأهمية هذا الوقوف على الارتباك لا تقل عن أهمية الوقوف على الماضي الفقهي المنتج للتشدد والتطرف.

إن القائلين بأنسنة الدين وفق بعده السلبي إما ان يكونوا مؤدلجين أو لجهلهم بخفايا مطلبهم الناسف للنص الإلهي فيكون مشروعهم عبارة عن أنسنة خارج تغطية المنطق العقلي، وهو ماوقع فيه مفكرون ورجال دين ربما من أجل ركوب موجة (خالف تعرف)، والتي انعكست سلباً عليهم فيما بعد، فجاءت مصداقاً لهم مقولة أمير المؤمنين عليه السلام: " تجري المقادير وقد يكون الحتف في التدبير".

المنهج والصياغة الجديدة

من المهم أن نأخذ بنظر الإعتبار الحالة الإجتماعية عند الحديث في موضوعة التكيف مع التطورات المرحلية التي يشهدها العالم الإنساني اليوم، وذلك من خلال جدية البحث عن صياغة جديدة لمنهج جديد يمنح الإنسان حرياته، ومثل هذا المطلب لا يمكن أن يتحقق مالم تكن لنا مؤسسات على قدر من المسؤولية، ولها قوانين تنسجم مع الخصوصية المجتمعية ، ونكران ذات من أجل المصلحة العامة انطلاقاً من (فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك) .

إن أصل المشاكل الموجودة في المجتمعات هو عدم وجود منهج صحيح يمكنه أن يردم هوة الإختلاف بين الإنسان والشروحات اللاعقلانية لدوره في الحياة البشرية، فلا يمكن القطع بنظرية (فرويد) القائلة بأحادية الميول الجنسية، أو الرؤية الإقتصادية لـ (ريكارد) والجازمة بأن طبيعة الإنسان تقتضي الإقتصاد الرأسمالي، ومن الطبيعي أن نُواجه بسؤال عن البديل عن واقعية الإنحراف الفكري، البديل هو فكر يرسم مسارات وآفاق مستقبلية، ويقدم أنموذجاً حضارياً مبنياً على أنسنة حقيقية واقعية بعيدة عن مخيال المثاليين الذين لاهم لهم سوى شهواتهم وطموحاتهم، الأنسنة التي لا تحيد دور العقل لكن بحدود وأطر معقولة، لابد للصياغة المنهجية الجديدة أن تُستنفر لها الجهود والأفكار والكتابات بما يضمن تفوق قوى الخير والعدل على قوى الشر والظلم وبالتالي تفوق الإنسان والأنسنة معاً.

اضف تعليق