في الاجابة على السؤال المطروح في المقال السابق حول مشروع البناء الذاتي الذي تضمنه الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- في ثورته الثقافية العارمة، وكيف يحقق الانسان انسانيته و"آدميته"؟ لابد من التحقق من هوية هذا الانسان أولاً؛ ثم ما هي سماته؟ وهل يجد المؤهلات التي توصله الى الحالة الانسانية الحقيقية؟

أهم سمة يشير اليها سماحته في بحوثه، كما يشير الى ذلك عديد المفكرين الاسلاميين، وهي سمة "المسؤولية". فاذا حمل الانسان هذه السمة بشكل صحيح وصادق، كان بإمكانه التحدث بكثير من المصداقية عن الانسانية في علاقاته مع الآخرين.

لا حدود لتحمّل المسؤولية

ان "المسؤولية"، كمفهوم وقيمة اجتماعية ودينية ايضاً، شابها الكثير من اللغط واللبس، فالبعض يتصور انها "نسبية" حسب الظروف الزمانية والمكانية، وتتحكم بها ظروف الفرد والمجتمع، وآخر يتصور أنها "اجتهادية"، يمكن ان تكون هنا ولا تكون هناك، او تكون في هذه القضية ولا تكون في تلك. بيد ان رؤية الفقيه الراحل تذهب الى أبعد من ذلك كله، وتعد هذه القيمة لازمة انسانية وحضارية، لا تُحد بحدود، لذا يرى سماحته ثلاث دوائر رئيسة تبين اهمية تحمل المسؤولية في الحياة:

الدائرة الاولى: المسؤولية عن الذات

وهنا يظهر سؤال سريع: وهل يمكن ان يهمل انسان ذاته ولا يكون مسؤولاً عنها...؟!

الاجابة ربما تكون بنعم؛ عندما لا يعرف الانسان إزاء من يقف مسؤولاً عن ذاته، فهو لا يقف امام ذاته لتحقيق ذاته! إنما امام شيء اكبر واعظم، وهو خالق هذه الذات والذوات الانسانية والكون والوجود. ان الغفلة عن هذه الحقيقة، تجعل الانسان يدور حول نفسه فلا يتقدم خطوة واحدة في الحياة، وإن شعر بنوع من الحركة والحيوية والتنقل والتغير في حياته. لذا نجد سماحة الفقيه الراحل يحكم الربط بين ذات الانسان وعملية تكاملها وبنائها، وبين مصدر السمو ومنبع التكامل، فكلما كان شعور الانسان بالمسؤولية إزاء خالقه والمنعم عليه بكل شيء، كلما كان أقدر على التغيير وبناء القاعدة الرصينة التي تحمل البناء الكبير في المجتمع والامة.

هكذا كان علماؤنا وعظماؤنا، مسؤولون عن ذواتهم وسلوكياتهم وتصرفاتهم أمام الله تعالى، في أبسط الامور واكبرها. من هؤلاء، جد الفقيه الراحل، السيد ميرزا مهدي الشيرازي – قدس سره- الذي كان يقول دائماً قبل ان يصدر حكماً او يتصرف بمال او يعمل شيء، بأني "يجب ان يكون لديّ جواب على هذا العمل يوم القيامة". هذه الروحية، هي التي جعلت من ذاك العالم الرباني والقائد الفذ، صاحب مبادرات حضارية عظيمة، ويكون له الفضل في تأسيس النهضة الفكرية والثقافية في مدين كربلاء المقدسة والعراق ثم في عديد بلدان العالم.

الدائرة الثانية: الأسرة

حيث يكون مسؤولاً، ليس فقط من الناحية الاجتماعية والصفة الدينية، بأن يتسيّد بـ "القيمومة" وولاية الأمر على افراد الاسرة وحسب، إنما يكون مسؤولاً مضحياً من اجل إعداد ابناء صالحين وتقديمهم الى المجتمع بما يسهم في تشكيل جيل واعي وطموح. لذا يستشهد سماحة الفقيه الراحل بالآية الكريمة: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}، بمعنى ان هنالك حاجة للصبر وتحمّل الاذى النفسي بأشكال مختلفة، من اجل تحمّل مسؤولية تغيير وبناء الاسرة، والحفاظ على استقامة طريق افرادها.

الدائرة الثالثة: المجتمع

وهنا تتبلور شخصية الانسان وقدراته أمام المجتمع، فمن الواضح أن الاكثر تأثيراً في الوسط الاجتماعي، يكون أكثر احتراماً وتبجيلاً، من الشخص الذي يحوم حول ذاته ومصالحه الخاصة. وهذا التأثير يأتي من تحمله المسؤولية الاجتماعية، ويبين سماحة الفقيه الراحل، بان أحد مظاهرها، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمختلف الاشكال والصور، كما هنالك مظاهر لتحمل المسؤولية الاجتماعية تتمثل في المبادرة الى اعمال البر والاحسان وحسن الجوار وغيرها.

من يكون المسؤول؟

هل هو العالم؟ أم التاجر الثري؟ أم القاضي في المحكمة؟ أم الوزير والمدير ...؟ هذه العناوين يتداولها البعض في اوساطنا على أنها مصدر تحمل المسؤولية، نظراً على القدرات والامكانيات المتوفرة، بينما الانسان العادي، الذي يقضي ساعات يومه في العمل لتوفير لقمة العيش، وفي المساء يعود بيته، لينام مبكراً وينهض من جديد ليوم جديد وهكذا، بالكاد يوفي ببعض مسؤولياته، هذا التصور جعل ابسط المشاكل واصغرها في المجتمع، مثل "النظافة" في الشوارع والطرقات، تُلقى بمسؤوليتها على الدولة كاملةً، ويتنصّل منها المواطن الذي هو الاقرب الى الشارع والقمامة بل ومصدر هذه القمامة، من المسؤول في البلدية او الوزير.

وذات مرة قال الفقيه الراحل لمستمعيه، وهو يتحدث عن التبليغ الديني: "... لا أكشف لكم سراً بان هذه المسألة من ضروريات الفقه، وقد اتفق عليها جميع الفقهاء، فالانسان مكلف بالواجبات الكفائية وسوف نُسأل عنها فرداً فرداً". بمعنى ان كل من يطمح للتغيير والبناء لتحقيق الافضل في هذه الحياة، عليه التفكير بتحمل المسؤولية في الحياة، قبل التفكير بحجم قدراته وامكاناته، لان القضية بالأساس، نفسية وذاتية، فمن لا يريد تحمل المسؤولية، عن نفسه والآخرين، لا يدفعه الى ذلك، حتى وإن امتلك المليارات وتسنّم ارفع المناصب. فعندما نتحدث عن انسانية الانسان، انما نتحدث عن الثقافة الانسانية التي تستقي جذورها من عوامل عدّة اهمها الشعور بالمسؤولية وضرورة تحمّلها كثقافة عامة تعني الجميع.

اضف تعليق