إن المتغيرات الجيوسياسية التي ستعقب حرب غزة تدعو إلى تدارك كل أنواع التصعيد السياسي والإعلامي والامني، إذ إن شعوب المنطقة لا تزال تعيش الانفعال السياسي وتفكر بهويتها ومواقف الاخرين من هذه الهوية قبل ان تفكر بمصالحها واولويات بلدانها الأمنية والسياسية والاقتصادية، ويستمر الغرب في تدعيم مواقف التشدد والتطرف...
سواء نجحت مفاوضات القاهرة بترتيب وقف لإطلاق النار في غزة، أو اجتاح جيش الاحتلال مدينة رفح الغزاوية وبدأ يعد لما يسمى باليوم التالي لانتهاء العمليات العسكرية، فان الوضع في غزة ومنطقة الشرق الأوسط، سيعاني من متغيرات كثيرة وخطيرة، لا يتوقف اثرها على هذه المناطق حاضرا فحسب، بل ومستقبلا ايضا. حرب غزة ستنتهي بنصف نصر عسكري لنتنياهو وسيذهب النصف الآخر لحماس والجهاد الاسلامي
اللتان ستعلنان النصر من جهتهما بوقف اطلاق النار دونما تدمير نهائي وكامل لقدراتهما واحتفاظهما بالتأثير السياسي والمعنوي، رغم ما نزل بشعب غزة من كارثة لم يسبق لها مثيل.
التأثير الاكبر لن يكون داخل أوساط الفلسطينيين وموقفهم من منظمات المقاومة المسلحة وحدها، بل سيشمل المنطقة برمتها، اذ إن حرب الإبادة التي تعرض لها فلسطينيو غزة حملت مفاعيل فكرية وسياسية وأخلاقية، سينقسم بشأنها الشارع العربي وستعتمل ردود فعل متباينة في أوساطه، بين داع إلى منابذة الغرب وزعيمته الولايات المتحدة واخر يرفض منطق المواجهات والاحتكاكات العسكرية والسياسية، ويرى أن قضية فلسطين استهلكت المنطقة وشعوبها طويلا، وأن الحل متروك لغالبية الشعب الفلسطيني فهو الذي يقرر مصيره بنفسه، بدون تدخلات ومزايدات، لأنهم هم الذين دفعوا الثمن من وجودهم وارضهم ومصالحهم، وهم الذين يتعين عليهم اختيار الجهة التي تمثلهم وتتفاوض نيابة عنهم، وهي التي تقرر ما اذا كان حل الدولتين هو الخيار الأقرب ، ام تستمر بدعوة الجهاد والمقاومة؟!.
لم يكن ينقص العالم والشرق الاوسط تحديدا، أزمة كبيرة وخطيرة زادت من صعوبة ضبط البيئة الداخلية والخارجية، كما فعلت حرب غزة، دول كثيرة تشعر أنها في سباق مع الزمان لاحتواء التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية، العامل الأكثر خطورة في هذه الحرب ان اطرافها الرئيسة ليست جميعها من الدول، بل منظمات وقوى موازية للدولة صارت تقوم بادوار الدولة، فتعلن الحرب وتحدد شروط السلام وتستخدم ادوات ضغط كبيرة تزعزع معادلات الاستقرار الهش في المنطقة، ليس بوسع العالم أن ينكر دور الحوثيين اليمنيين في معادلات السلام والحرب والتأثير في المنطقة مثلا، كما ليس ممكنا إنكار دور الجماعات، التي تملك طائرات الدرونز المسيرة والصواريخ التي باتت منتشرة.
انتشار الصواريخ والطائرات المسيرة على نطاق واسع صار التهديد الاكثر خطورة على الأمن الداخلي للدولة، اي دولة، فما بالك إذا كانت هذه الطائرات والصواريخ تمتلكها قوى عقائدية ووظيفية، تعلن عدم اعترافها بشرعية الدولة القائمة، ولا ترى نفسها ملزمة بالانضباط بسياسات الدولة ومحددات امنها وتوازناتها السياسية الداخلية والتزاماتها الدولية.
يتحمل الغرب جزءا من مسؤوليات انفلات الأمن وفوضى الافكار والمناهج في منطقتنا عندما يخفق في قراءة الاتجاهات السياسية وأمزجة الرأي العام والذاكرة السياسية المشحونة بالمرارات وعدم الانصاف وازدواجية المعايير في المنطقة، كان رد الفعل ضد هذه السياسات الغربية نشوء تيارات تدعو إلى مفاصلة جذرية مع الغرب وما تدعوه هذه التيارات (امتدادات الغرب وسياساته ومفاهيمه ومعاييره)، فكان ذلك مدعاة لانطلاق موجة راديكالية من التنظيرات الشرعية والسياسية، انتهت إلى ضرورة مقاتلة (العدو القريب ) قبل العدو البعيد، العدو القريب هو الأنظمة ومن يماثلها في الفكر والمواقف من تيارات واحزاب ورأي عام ورجال دين، والعدو البعيد هو الغرب، جاء حصاد مقاتلة العدو القريب مدمرا وهادما لكيانات الدول ومعاش الشعوب وامنها واستقرارها ودمائها، وحصلت الضرورة القتالية بتحالف الانظمة ودول المنطقة مع الغرب لمقاتلة هذه التيارات المتشددة، اليوم يتكرر السيناريو ذاته.
فقد اخطأ الغرب في مواقفه من حرب غزة، وتُركت الشعوب تختزن في ذاكرتها مرارة الانحياز غير الأخلاقي للحرب الإسرائيلية، ويجري إدانة وتجريم من ينتقد اسرائيل أو حكومتها اليمينية المتطرفة بداعي القوانين التي عرفت مفهوم معاداة السامية والكراهية تعريفا جديدا يمنع التطرق إلى اسرائيل من قريب أو بعيد.
وفيما يشاهد العالم الموقف العلني لحكومات المانيا وبريطانيا والولايات المتحدة من تظاهرات الطلبة المنادية بوقف الانحياز إلى اسرائيل، فان كل هذه التداعيات التي تجري بهدوء نسبي ستترك اثارها السياسية والفكرية على شعوب ودول المنطقة، وسيقول قائل قوى المفاصلة مع الغرب: ألم نقل لكم إن هذا الغرب لا ينفع معه الحوار والمفاوضات، وان التعامل معه بشروطه وتحت هيمنته يعني الخضوع والاستسلام والتطبيع وتضييع حقوق الامة، ولا مناص من العودة إلى رفع شعار مقاومة الغرب واسرائيل على مختلف الصعد، عسكريا وأمنيا واقتصاديا، وسيتقدم هذا الفكر خطوات عملية، اكثر من المطالبة بتقليص الوجود الأمني والعسكري الغربي، وبالخصوص الأمريكي، إلى تقليص الوجود الدبلوماسي والعلاقات التجارية والاستثمارية، إذ لا مشروعية لأي شكل من أشكال التعامل مع الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب النافذة ما دامت تصنف عدوا حربيا.
ومن شأن هذه التصنيفات العقائدية والشرعية أن تنسحب على شرعية الدول والأنظمة وسياساتها، فتغدو غير شرعية ويجوز الخروج عليها ومزاحمتها في سياساتها، ورفض اتفاقاتها وتفاهماتها، الأمر الذي سينعكس على تعاملاتها المالية والتجارية وخططها الاستثمارية!.
نحن مقبلون على مرحلة تسخين سياسي، وربما أمني وانعكاسات اقتصادية، إذا لم تدر هذه المرحلة بدراية معمقة وحوارات هادئة تمنع جنوح المتشددين إلى مزيد من التشدد.
إن المتغيرات الجيوسياسية التي ستعقب حرب غزة تدعو إلى تدارك كل أنواع التصعيد السياسي والإعلامي والامني، إذ إن شعوب المنطقة لا تزال تعيش الانفعال السياسي وتفكر بهويتها ومواقف الاخرين من هذه الهوية قبل ان تفكر بمصالحها واولويات بلدانها الأمنية والسياسية والاقتصادية، ويستمر الغرب في تدعيم مواقف التشدد والتطرف كل يوم بموقف بائس هنا وأشد بؤسا هناك، لاحظ كيف تبنى الاتحاد الديمقراطي المسيحي الالماني (حزب المستشارة السابقة انجيلا ميركل) في برنامجه السياسي الفقرة التالية :
المسلمون جزء من التنوع الديني في ألمانيا ومجتمعنا (..) الإسلام الذي لا يشاركنا قيمنا ويرفض مجتمعنا الحر لا ينتمي إلى ألمانيا».، إذ يكفي تخصيص الإسلام والمسلمين دون غيرهم من الديانات والملل، لكي يكون شاهدا على أن الغرب يعيش فعلا مشكلة جدية مع الاسلام والمسلمين، وهو لم يعد يحاذر من التصريح بها، بل يجهر علنا بمواقفه بما يزيد من حجج التيارات المتشددة، التي تسخر من تيارات الاعتدال ومنهجيتها، وكل ذلك سيرتد علينا بمزيد من التطرف وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والتدهور الاقتصادي.
اضف تعليق