ستجد في الحياة عقولاً كثيرة؛ فمنها العقل المنفتح ومنها الجاف المتكلِّس، وستجد منها ما بين هذا وذاك من مستويات العقول، وستقرأ الكثير أيضًا عن فلسفة العقل من النزعات الثنائية والمثالية التي تجعله معنويًّا. هناك مَن يجعل العقل منحصرًا على البشر، وآخر ينسبه إلى الحيوانات والقوى العليا...
ستجد في الحياة عقولاً كثيرة؛ فمنها العقل المنفتح ومنها الجاف المتكلِّس، وستجد منها ما بين هذا وذاك من مستويات العقول، وستقرأ الكثير أيضًا عن فلسفة العقل من النزعات الثنائية والمثالية التي تجعله معنويًّا. هناك مَن يجعل العقل منحصرًا على البشر، وآخر ينسبه إلى الحيوانات والقوى العليا، وثالث يراه روحاً، ويربطه بحياةِ ما بعد الموت.
ويرى محمد عابد الجابري، بأن العقل العربي يُفكر «بطريقة معيارية، أي أنه يختزل الأشياء في قيمتها؛ فتضيق ولا يبقى لها مجالٌ للتحليل أو بُعد النظر. «فيغرق في التنميط؛ لأنه يعشقه ويُقدسه، حيث السلبية، والعواطف الآنية، والفزعات، والغضب، والشعور بالنقص والذل وغيره.
ومشكلتنا أننا نعيش الماضي والحاضر معًا بازدواجية انتقائية، وعقلنا هو عقل دائري؛ يبدأ وينتهي من البداية وينتهي به، بمنطق الدورات المتشابهة والمتتالية؛ فكل بداية لا بد من أن يعقبها نهاية، وكل نهاية يعقبها تكرار للبداية الأولى! فما زلنا نناقش قضايا اجتماعية ودينية في الوقت الحاضر، تعود إلى مائة عام، وربما أيضًا سنناقشها بعد قرن أيضًا، بعكس العقل الأوربي؛ فهو عقلٌ مستقيمٌ ينشأ وينمو بالتراكمية، ولا يتوقف عند الماضي.
والشخصية العراقية تميل إلى النقد الحاد -الذي لا يرحم-، وتجنح إلى تعتيم الواقع حتى لو كان فيه بعض الأمل؛ إنها مزاجية ومتقلبة ومتنافرة وفوضوية، وتحولاتها أسرع من الصوت ما بين الفكرة والفكرة المضادة، وتتسم بعنادها القبَلي المحكوم بالثأر، وحدّة في الطباع وفي الجدل وفي الانتقام، ونشوزٌ اجتماعي قاتل، يؤججه النفاق وتُغذِّيه النميمة. شخصية تؤمن بغزوات الجاهلية الأولى للانتقام والثأر، ويسيطر عليها هوس الانتصار بالنرجسية المريضة.
في ثقافتنا العراقية، لدينا لونان في الحياة فقط؛ أبيض أو أسود. وفيها عقلان مزدوجان للتفكير: عقليةٌ تمجد الفرد، وترى فيه المنقذَ الوحيد لأزماتنا وكوارثنا، والمحققَ لطموحاتنا وآمالنا، ولدينا عقلٌ آخر يفكر تفكير المذنب؛ حيث نرمي كلَّ فشلنا عليه، ونحُمِّله كل المسؤوليات الكبيرة.
مشكلتنا أننا نحب قولبة الأشياء في إطار لون واحد، وعدم تقبُّل الاختلاف. ويرجع ذلك إلى أن نمطية التفكير محكومة بالتاريخ والبيئة، حيث المشاعر السلبية والعواطف الآنية، والفزعات والغضب، والشعور بالنقص والذل، والنشاز الاجتماعي.
عندما تتحدث عن بعض محاسن الماضي تقوم عليك معظم القبائل السياسية بالسيف الباطل، وتُظهر نوازع الشر والتهديد والثأر، والقتل برصاص الكواتم؛ لأنك من زمن الماضي الأسود، أما عندما تذكر بعض محاسن الحاضر يُحاصرك مرضى القلوب بالعتاب والتخوين والانتهازية؛ فتصبح مرتدًّا وعميلًا. رؤيتان متضادتان بالنفاق، وعقل متورم بنرجسية، وجسد مصاب ببلهارسيا التعصب المقيت، ومزاجية الأنا المنحطة. هو التفكير المستقطب؛ «كل شيء أو لا شيء على الإطلاق “!
العراقي «أكثر الناس هُيامًا بالمثل العليا، وأكثرهم انحرافًا عنها في حياته الواقعية! وهو صعب المِراس والرأي والمزاج، يُظهر بطولاته في السكون المستتر، عندما تنتهي الحروب، وتُلقى الأسلحة، وينبعث الدخان من البنادق. أما إذا اشتدت النار، وظهرت الحِراب، فإنه يهرب ويدفن رأسه كالنعام؛ فلا تراه إلا في الليل كخفاش يُحدد هدفه من خلال ارتداد الأصوات والمراوغة.
نفاق مزدوج؛ حيث ترك بعضهم ماضيه نفاقاً ليلتحق بسلطة الحاضر؛ رغبة بالشهوة والشهرة والمال والجاه والسلطة. صار بعضهم قادة وسماسرة ورجال مافيا، بعد أن كانوا حراسًا لبوابة الحاكم، وبعضهم الآخر من الضفة الأخرى صار ظاهرة صوتية فقط -لا فائدة منه-، يفكر بعقلية الشعارات، ويعيش على أوهام ماضيه!
هناك من يُحدثك سرًّا في الجلسات المغلقة عن النضال والبطولات والثوريات النظرية المؤدلجة؛ لكنك لم تسمع له صوتًا منذ عام (2003) -لا جملة فعلية ولا اسمية، ولا فعل ولا فاعل-، لا عن المحتل ولا عن السلطة الحالية. امتهن التنظير، والقيل والقال، وتخوين بعضهم بعضًا؛ فهم يقولون ما لا يفعلون، وفي كل وادٍ يهيمون!
لا تقرأ للنخب «خرخشة» حرف فاعل، ولا تسمع لمن كان يقود السلطة حرف «نون التوكيد»؛ لكشف الحقائق وصد الأقاويل. وترى آخرين أنشأوا فروعًا للنضال؛ حيث يتقاتلون على السلطة الافتراضية، فأسسوا (كروبات) مغلقة للتنفيس، تهتف بشعارات الماضي، وتخوين الآخر بالعمالة، والتحدُّث بعنجهية، وكأنهم جالسون فوق كرسي الحكم. لا أقول كلهم بصفة عامة؛ لأن بعضًا منهم ما زالت لديهم فروسية الرجال، ولهم صدق المواقف.
أقول: ورغم ذلك، ما زال الكثير منهم يُزايد على وطنيتك إذا ما كتبتَ رأيًا موضوعيًّا يُخالف أفكاره المصابة بمرض التنظير، إذ إنه يُريدك نسخة من عقله المبرمج والمؤجَّر، ولن يرضى عنك بغير ذلك. وإذا ما كتبت عن الحاضر، وقلت كلام صدق في ظاهرة إيجابية؛ فإنك ستكون في مرمى قذائف التخوين، فلن تسلم من سيف قبيلة عبس، ولا من رمح قبيلة قحطان؛ لأنهم يظنون أنفسهم من جنس الأنبياء!
وطبقًا لتجربتي الحياتية الطويلة؛ فإن العقل العراقي هو عقل تراثي قروسطي في أعماقه، يحكم على نمط السلوكيات الكبرى، ولم يحدث فيه تغيير في العمق، هو عقل منفعل لا يؤمن بثقافة الاختلاف منذ بدء الخليقة؛ عنيد في الرأي (الأبيض أو الأسود معًا)، فوضوي المزاج، ومناور شرس في حروف التبرير.
ترى مَن ينصحك أن تكتب مقالاً تنويريًّا للتغيير؛ لكنه بعد المقال يناقشك في حروف الجر، والعلل -بألفها وواوها ويائها-، وينبش الكلمات والمعاني، ويريدك أن تكون نسخة من تفكيره ويُقطّعُك أجزاءً مُتناثرة؛ ثم يقول لك بنفاق: “أبدعت».
وستكتشف عجائب المتضادات والتفاعلات: فسترى ما لم ولن تراه في الشعوب الأخرى؛ شخصية لا «يعجبها العجب، ولا الصيام في رجب». ولن تتمكن من إرضاء أحد، ولو جلبت له نبيًّا ليحكمه؛ فلن يرضى؛ فتقتله مثلما تقتل بعض الحيوانات أبناءها. عقل جاف قابل للكسر ولا يجنح للاستنارة.
وسترى أيضاً شخصية دائمةَ النقنقة والشكوى والتذمُّر؛ حتى ولو أسكنتها في جنة عدن، شخصية نرجسية تحمل جينات العظمة؛ فلا ترى أحدًا يُضاهيها في العلم والفضل. ومهما فعلت لها؛ فلن تجد منها جزاءً ولا شُكورا. ولو كان (نيوتن) معنا ورأى عراقيي اليوم لاكتشف إنه ليس للجاذبية قانون!
اضف تعليق