إن التبرع بالأموال للايتام، أو بناء مدارس، او معالجة حالات مرضية صعبة، او إظهار الحب والودّ للناس، لن يضفي على ما يريده صاحبه من الشرعية على وضعه ما لم يحتكم الى ميزان القيم الدينية والاخلاقية ليثبت مصداقية تحوله من جهة الى جهة أخرى، ومن منهج حياة معينة الى منهج آخر...
هناك شخص عاش في القرن الثاني للهجرة، اسمه؛ بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المرزوي أصلة من مرو، سكن بغداد في عهد هارون العباسي، حيث أجواء الطرب واللهو والمجون، فكانت أصوات الغناء تعلو من بيته، ومن الأقدار أن يمر الامام الكاظم من امام بيته، في وقت خروج جارية تلقي القمامة من داره، فسألها: عما اذا كان صاحب الدار حراً أم عبد، فأجابت: بل حُر، فقال: لو كان عبداً لاستحى من مولاه، وما أن عرف بشر بهوية الامام، وأنه وجّه اليه هذا العتاب والنصح، خرج حافياً مسرعاً ليعلن توتبه الى يد الإمام ويتحول الى بشر الحافي، ويسجل اسمه في صدر التاريخ.
أجمع المؤرخون على أن بشر الحافي تحول الى انسان زاهد وعابد، ولم ينتعل حتى وفاته المنية. لكن! لماذا اختار لنفسه ان يكون حافياً، وهل هذا شرط التوبة والإيمان، واذا انتعل -مثلاً- ألا يقبل الإمام توبته؟
الميزان بين الصواب والخطأ
جرت محاولات منذ أواسط القرن الماضي لتجاهل هذا الميزان من خلال طرح نظريات تدعو الى إلغاء النظم والقواعد المحددة للسلوك البشري، والادعاء بقدرة الانسان على تحديد ما هو صالح وما هو فاسد، وما هو حق وما هو باطل حسب رؤيته الخاصة للحياة، فلا وجود لقيم اجتماعية عامة، حتى الاخلاق والآداب التي تعد حالة نفسية منبعثة من الفطرة الانسانية، تعرضت لتهمة انتهاك حرية وإرادة الانسان الفرد! رغم إن الخيانة الزوجية -مثلاً- كانت منبوذة حتى في قصور الملوك والقياصرة المتقاتلين على الحكم منذ قرون عديدة.
هذا المسلك الفكري أتاح للبعض اختيار الطريقة التي يعيش بها في وسطه الاجتماعي، وحتى بين افراد أسرته، بل حتى ما نلاحظه من طريقة التوبة الى الله-تعالى- من بعض الاعمال والتصرفات، والالتزام بالاحكام الدينية، ثم وصل الأمر الى طريقة الموت حتى! بأن يموت شخصاً يعدّ نفسه فاضلاً ومخلصاً ومحباً للآخرين، ليس بحادث سير، او صعقة كهربائية، او لاسباب صحية، وإنما هو يموت منتحراً، وإن تعرض هو للقتل يقولون عنه: قُتل مظلوماً!
إن التبرع بالأموال للايتام، أو بناء مدارس، او معالجة حالات مرضية صعبة، او إظهار الحب والودّ للناس، لن يضفي على ما يريده صاحبه من الشرعية على وضعه ما لم يحتكم الى ميزان القيم الدينية والاخلاقية ليثبت مصداقية تحوله من جهة الى جهة أخرى، ومن منهج حياة معينة الى منهج آخر.
ومن اجل هذا نقرأ في النصوص خارطة طريق واضحة للتوبة تأخذ بيد صاحبها الى أعلى المراتب عندما يكون مستعداً لها نفسياً، فربما يتوب ثم يعود ثانية الى المعاصي، ويفعل هذا بين فترات معينة، ثم تتباعد هذه الفترة بمرور الزمن الى درجة يكون على فاصلة بعيدة جداً لايكاد يرى الذنب والمعصية، وهذه العملية التهذيبية ترسم الصورة الناصعة للشخصية المستقيمة ذات الملامح المحددة، وهذا لا يتحقق إلا بإرادة صلبة بالتخلّي والتبرؤ من الماضي مهما كان، وإلا فانه لن يفعل سوى إضاعة الوقت، وإشغال الآخرين.
لماذا لا نتعلم من قانون المرور؟
أوردته مثالاً من بين جملة القوانين التي تنظم حياة البشر في العالم، فاذا تجاوز السائق الاشارة الحمراء فانه سيتلقى الغرامة، وكذا الحال اذا تجاهل إشارة مرورية تحذيرية، هذا السائق لن يتوقع البتة، من مديرية المرور في مدينته ان تكافئه على مخالفته قانون المرور، بينما يحصل هذا في بعض الدوائر ومؤسسات الدولة عندما يرتكب موظف ما، لاسيما من ذوي المراتب العليا، جريمة فساد، او خطأ في عمله الإداري، فانه يُكافئ بنقله من مكان عمله الى مكان آخر وحسب، و احياناً نلاحظ هذا الانتقال مصحوباً بالترقية في الدرجة الوظيفية!
السبب الذي يحدو بهذه الدائرة او تلك، وحتى بهذا الوزير او الرئيس، بالتعامل بهذه الطريقة الغريبة مع المفسدين والخاطئين، هو نفسه السبب الذي يجعل الفرد داخل المجتمع معتزّاً بإثمه لكيلا يفتضح أمره ويكون مجبراً على دفع ثمن خطأه وإثمه، وفي هذا مشكلة اجتماعية عليه، حيث يكون محور حديث الناس، وفقدان ثقتهم واحترامهم له، لذا يوهم البعض أن الهروب من هذا المصير الأسود يقتضي التمسك بالوضع الراهن مهما كان وحصل.
ومن التاريخ المعاصر والقديم لنا أمثلة لا تُعد عن فرص للإقرار بالخطأ بشكل أو بآخر، او التراجع عن القرار الخطأ ليكون الثمن أقل بكثير من إراقة دماء الآلاف، ودمار هائل، وآثار نفسية واجتماعية واقتصادية عميقة.
اضف تعليق