التخلف ليس ظاهرة إنسانية جامدة. بل هي متحركة ومتطورة، بحيث إن هذه الظاهرة تتمدد في الوسط الاجتماعي وتلقي بقيمها وأنماطها وأنساقها على مجمل تفاصيل الحركة الاجتماعية. المعتمدة في علائقها وصرعاتها وحراكها الداخلي والخارجي على هذه الظاهرة، تقوم بدورها بعملية معكوسة، حيث تغذي ظاهرة التخلف، وتزيد...
تكاد تجمع كل النظريات والمدارس الفكرية والسياسية في العالم العربي، على أننا نعيش واقعاً مأزوما، نطلق عليه (التخلف). بحيث أصبح هذا الواقع المأزوم، يشمل كل جوانب وحقول حياتنا. فلا يخلو حقل من حقول حياتنا، وجوانب اجتماعنا، لم تطله رشحات من هذا الداء المستعصي، الذي أطنب بجذوره في واقعنا بشكل شامل.
والتخلف هو عبارة عن حالة من فقدان المناعة، تجاه الكثير من الأمراض المختلفة والمتنوعة، الوافدة من الضد الحضاري، أو المنبعثة من داخل الكيان الذاتي. ولا تقف هذه الظاهرة، أمام فقدان المناعة، بل تتعداها، وتقوم بغرز الكثير من حالات الاهتراء والخمول والتأخر، وتأسيس عوامل وأسباب الانحطاط والانهيار الاجتماعي والحضاري.
بحيث إنه يمكننا القول: أن الكثير من المعضلات والمشكلات التي تواجه عالمنا العربي والإسلامي اليوم. هي من جراء تداعيات هذا المرض الخبيث (التخلف) فهو كسرطان يبدأ في منطقة، ويقضي على كل أسباب وعوامل الحيوية والفاعلية في تلك المنطقة ومن ثم يبدأ بالتمدد والانتشار، حتى يصل الإنسان (الفرد أو المجتمع) إلى حافة الانهيار والاندثار.
فالتخلف ليس ظاهرة إنسانية جامدة. بل هي متحركة ومتطورة، بحيث إن هذه الظاهرة تتمدد في الوسط الاجتماعي وتلقي بقيمها وأنماطها وأنساقها على مجمل تفاصيل الحركة الاجتماعية.
وهذه الحركة الاجتماعية المعتمدة في علائقها وصرعاتها وحراكها الداخلي والخارجي على هذه الظاهرة، تقوم بدورها بعملية معكوسة، حيث تغذي ظاهرة التخلف، وتزيد من شموليتها وتعمق أبعادها، وتصبغ كل شيء بلونها.. لذلك فإن هناك نموا متعاظماً لظاهرة التخلف، بحيث إنها تنمو كما ينمو الكائن الحي، وتتضخم وتصل إلى كل أجزاء الحياة.
فالإنسان المتخلف يضيف إلى الظاهرة قضايا وأمور في مختلف أبعاد حركتها، فتتعمق هذه الظاهرة وتتأكد في سلوكيات ذلك الإنسان ومواقفه، حتى يصل إلى مستوى أنه يباشر دوراً أساسيا في تحديث ظاهرة التخلف ويشير إلى هذه المسألة الدكتور مصطفى حجازي بقوله: "يعايش التخلف على المستوى الإنساني، نمط وجود مميز له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية النوعية. والإنسان المتخلف منذ أن ينشأ تبعاً لبنية اجتماعية معينة، يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها. فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها، نظراً لارتباطها ببنيتها النفسية".
ولا شك أن نكران هذه الحقيقة أو تجاهلها يؤدي إلى الجهود الخاصة والعامة التي تبذل في سبيل رفع التخلف، وتجفيف منابعها وإزالة آثاره من الوجود الفردي والاجتماعي وهذا الحقيقة هي التي تفسر فشل الكثير من المشاريع التنموية في العالم العربي والإسلامي، لأنها اتجهت في خطها وبرامجها إلى نتائج التخلف دون جذورها ومنابعها الأصلية فهي خطط ومشاريع اتجهت في أغلبها إلى اقتصاد الإنسان المتخلف دون أن تتوجه إلى تكوينه النفسي والعقلي.
وغفلت عن حقيقة أن هذا التكوين المتخلف يولد باستمرار نماذج اجتماعية وثقافية واقتصادية متخلفة وإن ملاحقة تلك النماذج، لا ينهي الظاهرة من الوجود، لأن مصدر التفريغ والتوليد لا زال يعمل ويؤثر في مسيرة الإنسان في مختلف شؤون حياته ويمكننا أن نضرب مثلاً حول هذه المسألة بظاهرة (الفقر) حيث إن الكثير من المشاريع التنموية والخطط الاقتصادية اتجهت إلى علاج هذه الظاهرة عن طريق ملاحقة الفقراء في الشوارع وإلحاقهم في معسكرات ومواقع للرعاية ومنع توسع أحزمة البؤس حول المدن والحواضر.
ولكن نتيجة هذا الخلط والمشاريع ذات المنحى المذكور، ليس إنهاء ظاهرة الفقر بل أدت هذه الإجراءات إلى تحديث الفقر. حيث أخذت هذه الظاهرة طابعاً مدنياً وأساليب تنسجم وأخلاق المدنية وظروفها.
فالفقر لا يقضى عليه بإعطاء صدقات مستمرة للفقير بل عن طريق إنهاء الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تصنع وتخلق ظاهرة الإنسان الفقير أو كما يقول المثل الصيني (بدل أن تعطي الفقير سمكة علمه كيف يصطاد السمك).
وتأسيساً على حقيقة التخلف كظاهرة اجتماعية لا يقف عند حد معين بل يتوسع باستمرار ويأخذ أبعاداً متنوعة. وأنه كمرض السرطان من حيث فتكه واستمراره في القضاء على كل مقومات الجسم السليم. وانطلاقا من هذه الحقيقة نقول أن لهذه الظاهرة مجموعة من العلاقات والآثار التي تجعلنا نكشف هذه الظاهرة في أي مجتمع إنساني وهذه العلاقات والآثار هي كالتالي:
أولا: فقدان السيطرة على الطبيعة:
ان النواة الأولى لأي نهوض حضاري هو قدرة الإنسان في السيطرة على مقدرات الطبيعة وتنظيم طرق الاستفادة منها.
والتطور الإنساني باستمرار مرهون بمدى السيطرة على مقدرات الطبيعة، لذا فإن الإنسان المتحضر يتطور مستوى إدراكه واستفادته من الطبيعة بينما الإنسان المتخلف يفقد سيطرته على الطبيعة ولا يتمكن من توظيفها بما يخدم الإنسان لذا فإن من الآثار الأساسية التي تصيب الإنسان المتخلف في حركته الفردية، هو غياب القدرة الفعلية والشروط الذاتية في استثمار القدرات والثروات الطبيعية وهذا ما يفسر لنا وجود الكثير من الثروات الخام لدى المجتمع المتخلف إلا أنه يعيش حد الفقر والاعتماد على الآخرين في أمور الحياة والمعاش.
إنه التخلف الذي يزرع تلك الثنائية العجائبية وثروات وإمكانات طبيعية متوفرة ووضع اقتصادي واجتماعي ضعيف ومهترئ وهش، ولا تقوم له قائمة إلا بدعم الآخرين ومساعداتهم..
وبكلمة: ان التخلف يصنع العجز المطلق أو النسبي تجاه الطبيعة وإمكاناتها وينبغي القول في هذا الإطار أن معيار التقدم والتطور ليس اقتناء وامتلاك المعدات التكنولوجية المتطورة وتوفرها في المجتمع بل هو قدراتنا كأفراد وكمجتمع في السيطرة على الطبيعة بما تختزن هذه الطبيعة من ثروات وإمكانات هائلة لأن السيطرة على الطبيعة تعني القدرة الفردية والجمعية على توظيف إمكانات الطبيعة وثرواتها، بما يخدم الإنسان حاضراً ومستقبلاً والمجتمع الذي لا يمتلك القدرة المعرفية والعملية للسيطرة على الطبيعة يبقى مجتمعاً متخلفاً حتى لو امتلك أحدث التقنيات وتظاهر باستخدام التكنولوجيا في مجالات حياته المختلفة لأنها تكنولوجيا مستوردة ولا نعتمد في استخدامها على قاعدة علمية تؤهلنا ترويض التكنولوجيا مع بيئتنا الخاصة.
ثانياً: شيوع التقليد:
بما أن الإنسان المتخلف يعيش نفسية مهزومة ومهترئة لذلك فهو يسعى إلى جبر النقص الذي يعانيه بتقليد الغالب في كل شيء في أكله وشربه، في مواقفه وحركاته، في نمط عيشه وطريقة إدارته. ومن هذه النفسية المهزومة ومركب النقص الذي يعانيه الإنسان المتخلف تبرز ظاهرة التقليد في حياته كلها. وهذا ما يفسر لنا ظاهرة الشعوب والمجتمعات المهزومة حضاريا، حيث تشيع فيها ظاهرة التقليد، وتبدأ ترتيب كل شؤونها وفق النمط الحضاري الغالب.
والتقليد في جوهره، هو فشل الذات في إبداع الطرائق والأطر، التي تطور الذات وتدفعها إلى الأمام. وإننا أمام هذا الفشل لا نقف منه موقف المواجهة والإصرار على تجاوزه. وإنما نهرب من مواجهته، ونلجأ إلى حصن التقليد، واستنساخ الغير في كل شؤوننا الخاصة والعامة.
لذلك فالتقليد هو عبارة عن تسول حضاري يهدف إلى نقل الآخر (تقاليد وأعراف وأطر وطرائق ونظم) إلى الذات. وهذا ما يؤدي بطبيعة الحال إلى الاستلاب والارتهان إلى الآخر.
وتتجلى ظاهرة التقليد في الأطر التالية:
النظم والإدارة: كما قلنا أعلاه أن مركب النقص والضعف اللذين يصيبان الإنسان المتخلف، تقابلهما حالة انبهار متعاظمة تجاه الإنسان الآخر المنتصر والغالب وعلى ضوء حالة الانهيار التي يعاني منها المتخلف (لا فرق بين الفرد والمجتمع) يبدأ بتقليد الغالب في نظمه وطريقة إدارته، ويبدأ باستعارة كل النظم والأطر الإدارية التي يعيشها الغالب اعتقادا من المتخلف أن سر الغلبة جاء من هذه النظم والأوعية الإدارية.
الأفكار والقيم: والأطر والنظم الإدارية ليست قرارات مجردة، بل هي نتاج قيم وفلسفة محددة والأطر الإدارية تبقى جسماً خاويا إذا أخذت بدون قيمها وفلسفتها العقدية والقيم التي أنتجتها. وعلى ضوء هذه الحقائق يبدأ المتخلف بتقليد الغالب في أفكاره وقيمه، ومسائله المعرفية والعقدية.
السلوك والعادات: وإن العجز الذي يعانيه الإنسان المتخلف، يدفعه باتجاه تقمص عادات الغالب، أملا منه في التماهي مع الغالب في سلوكه وعاداته..
والتقليد يرجع بالدرجة الأولى، إلى الوضع النفسي الذي يعيشه الإنسان المتخلف، حيث يعيش وضعاً نفسياً قلقاً يدفعه باتجاه التماهي مع المتسلط على حد تعبير علماء النفس.. والتماهي ويسمى أيضا التوحد والتعيين، هو أكثر من مجرد التشبه بالآخر أو محاكاته فهاتان العمليتان تظلان واعيتين، من يتشبه بالغير أو يحاكيه يحاول الاقتراب من نمط سلوكه أو مظهره دون أن يفقد إحساسه بالاختلاف عنه إحساسه بالغيرية. أما التماهي أو التعيين فهو عملية لا واعية تتم خارج إطار الانتباه والإرادة في معظم الأحيان.
وتتلخص بتمثيل وجود الآخر حتى يصبح الشخص هو الآخر أو يعيش ذاته كذلك. إنه هو عينه، أو هو هو، ومن هنا يتخذ لنفسه ماهية الشخص الآخر وهويته. والتماهي قد يكون كليا أو جزئيا.
أما الكلي فهو نادر الحدوث، لأنه يقود إلى فقدان الذاتية تماماً، والاستلاب في ذاتية الآخر، ونكون ساعتئذ أمام حالة مرضية صريحة، أما الشائع فهو التماهي الجزئي، بناء الذات على نسق وجه من أوجه وجود الآخر الذي نتماهى به. فقد نتماهى بأسلوب شخص آخر، نتمنى أن نكون مثله أو نحل محله أو بمثله العليا، أو بإيماءاته وتعابيره أو بأدواته.
اضف تعليق