الإمام الصادق، عليه السلام، اتبع خطابين لمواجهة هذا التيار الفكري في الأمة: الأول؛ عقلي، كما فنّد به منهج القياس في استنباط الحكم الشرعي، ومناظراته مشهودة في كتب التاريخ حول هذا الموضوع، والثاني؛ القرآن الكريم، الذي دافع عنه بكل حزم وقوة، مؤكداً لإبناء الأمة البصائر القرآنية الخافية عليهم...

"إن هذا القرآن فيه منارُ الهدى ومصابيح الدُجى؛ فليجْلُ جالٍ بصرهُ، ويفتح للضياء نظرهُ، فإن التفكّر حياةُ قلبِ البصير، كما يمشي المُستنير في الظلمات بالنور".

الإمام الصادق، عليه السلام

العلاقة بين كلام الوحي المنزل على صدر الرسول الأكرم، وكلام رسول الله، ماتزال مُبهمة وغير واضحة لشريحة واسعة من افراد الأمة، رغم إنه، صلى الله عليه وآله، بين وأكد لمن حوله في حياته، دوره التكميلي لرسالة السماء كونه نبياً مرسلاً من قبل الله –تعالى- وضمن فلسفة النبوة التي تحدث عنها القرآن الكريم لنشر الهداية والصلاح بين البشر بواسطة بشر مثلهم، فقد عرف المسلمون منذ حياة النبي الأكرم مصدرين للتشريع: كتاب الله وسنّة نبيه، وفي فترة لاحقة كشف النبي بأمر السماء عن وجود امتداد للنبوة وهي؛ الإمامة، فكانت المفاجأة ليس رفضهم –بعض المسلمين- لهذا الخبر الجديد، وإنما انقلابهم، حتى على سنّة نبيهم، وما يقوله ويأمرهم به، فانطلق للمرة الأولى شعار: "حسبنا كتاب الله"، ولكن! هل كان القرآن الكريم حسبهم حقاً؟

لماذا الابتعاد عن القرآن الكريم؟

ليس المقصود الابتعاد عن قراءته وتجويده وتداوله في الأوساط الاجتماعية، فهو ما نحسنه جيداً، وقد أجاد المسلمون الأوائل تلاوته وحفظ آياته، وما يزالون، بيد أنهم كانوا يخرجون من المساجد حفاظاَ وقراءً، وايضاً؛ مقاتلين لأمير المؤمنين، عليه السلام، كما هم الخوارج، وناصبين العداء للأئمة المعصومين من بعده! وفي فترات زمنية لاحقة؛ مفسرين لآيات القرآن الكريم بما يتوافق والمصالح الشخصية، ورغبات الحاكم.

ولأن الأئمة المعصومون صِنو القرآن الكريم، وهي حقيقة عرفها المسلمون منذ البداية، فان الحكام وأهل السلطة لا يحتملون هذا الوضع المهدد لوجودهم في الحكم ولمصالحهم، فحاولوا خلق جدار فاصل بين الاثنين مخالفين نصّ وصية رسول الله في الحديث المشهور والمتواتر: "إني تاركٌ فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي"، وذلك من خلال إطلاق العنان لضعاف الإيمان من المشككين والمنكرين، يتحدثوا وينشروا كل ما يعتقدون به بين الناس، مستفيدين من ظروف الفقر والاضطهاد والتخلف، وكان القرآن الكريم أحد أهدافهم، بالتقليل من شأنه، وأنه ليس الكتاب الذي ينظم حياة البشر، وليس الفرقان بين الحق والباطل، وليس نور الحقائق وسط الظلمات.

يقول آية الله السيد كاظم القزويني في موسوعته القيّمة؛ الامام الصادق من المهد الى اللحد: "من الطبيعي ان إبعاد الأئمة، عليهم السلام، عن الساحة معناه إفساح المجال لظهور غيرهم من المناوئين الذين كانوا يعترفون بتلك السلطات، ويصححون أخطائهم، ويبررون جناياتهم، ويعتذرون عن مخازيهم، بل ويطوقونهم بهالات من القداسة، لهذا منحت السلطات لهم المجال الواسع، وفتحت امامهم الطريق ليتصرفوا بما شاؤوا، سواءً في القضاء أم الفتوى أم نقل الاحاديث المزيفة، أم تفسير الآيات القرآنية حسب الآراء والميول والظروف".

الإمام الصادق، عليه السلام، اتبع خطابين لمواجهة هذا التيار الفكري في الأمة: الأول؛ عقلي، كما فنّد به منهج القياس في استنباط الحكم الشرعي، ومناظراته مشهودة في كتب التاريخ حول هذا الموضوع، والثاني؛ القرآن الكريم، الذي دافع عنه بكل حزم وقوة، مؤكداً لإبناء الأمة البصائر القرآنية الخافية عليهم، وحتى لا يكونوا ضحية المشككين بكتاب الله والقائلين بالتناقض فيه، بل وحتى في كلام الله –جلّ عن ذلك- كما حصل في مسألة تعدد الزوجات والعدل بينهنّ، وقد رأي بعض أنصاف العلماء أن الآيات التي تتحدث عن هذه المسألة تنطوي على تناقض في الحكم، فجاء ابن أبي العوجاء، وكان أبرز الزنادقة والمشككين في عهده، يسأل هشام بن الحكم، أحد تلامذة الامام الصادق عن عدل الله –تعالى- وحكمته وهو القائل في الآية الكريمة: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}،وفي آية أخرى في نفس سورة النساء، تقول الآية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}، فأين حكمة الله يقول ابن أبي العوجاء- من الحُكم بتعدد الزوجات ثم اتضاح عدم قدرة الرجل على العدل بين الزوجات؟! 

فلم يجد هشام جواباً لهذا المُشكك الزنديق، فشدّ الرحال من الكوفة الى المدينة ليسأل الامام الصادق، عليه السلام، فأجابه بأن المُراد من {ألا تعدلوا}، في هذه الآية فهو النفقة، أما قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ}، فالمُراد بالعدل هنا؛ المودة، او الحُبّ.

التأويل سلاحٌ ذو حدين

صدق رسول الله عندما تنبأ للمسلمين في جلسة له مع أصحابه: "إن منكم من يقاتل على التأويل كما قاتل معي على التنزيل"، وأشار الى أمير المؤمنين، ثم أردف بالقول: "وإنه يقاتل على التأويل اذا تُركت سُنتي ونُبذت وحُرّف الكتاب"، وهذه المحنة تعيشها الأمة حتى اليوم، والى أمد غير معلوم، فنحن نهزأ بذاك الرجل في عهد الامام الصادق الذي سرق رغيف خبزٍ و رمانة ثم أعطاها للفقير بزعمه أنه يطبق الآية الكريمة: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}، ثم قام بعملية حسابية مثيرة للسخرية، يطرح سيئتين؛ سرقة الرغيف والرمانة، ويبقي لنفسه ثمان حسنات! بيد أن هذه الطريقة من التعامل مع القرآن الكريم مستمرة بأساليب حديثة وفق التطور الحاصل في الفكر والثقافة. 

والامثال على هذا كثيرة من واقعنا الاجتماعي والسياسي، نرفع فيها آيات من الذكر الحكيم على الجدران وعلى الأبواب، وفي أعالي القاعات وصالات الاجتماع في مؤسسات الدولة، دون أن نعي دلالاتها الحقيقية التي ربما تكون دليل إدانة علينا وعلى افعالنا، فمن يريد تحقيق مصلحة سياسية مثل أنور السادات –مثلاً- بإمكانه التستّر بالآية الكريمة: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، حتى وإن كان الكيان الصهيوني المحتل، ومن يريد إشعال فتيل الحرب الأهلية في العراق مثل صدام الذي نادى لأنصاره داخل العراق، ومن داخل قاعة المحكمة الخاصة به، بأن {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}! ولاشك أن وقع هذه الآية يكون خارقاً لنفوس البعض ممن يجد المبرر للخوض في دماء المسلمين واغراق العراق في فوضى الحرب والدماء بحجة الوجود الأجنبي. 

في عهد الامام الصادق كان المناخ العلمي والديني أوسع وأكثر كثافة مما نحن عليه اليوم بسبب الانغماس في الماديات والتنوع في مظاهر الحياة، وتطور وسائل العيش، مع ذلك يأتي الى الإمام شخصٌ يدّعي العلم والافتاء، عندما يحاججه الإمام بآيتين من القرآن الكريم يقول: "والله لكأني ما قرأتهما قطّ من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت"! فقال له، عليه السلام: "بلى؛ قد قرأتهما وسمعتهما، ولكن الله انزل فيه وفي اشباهك: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.

فاذا كان مستوى الفهم والعلم في ذلك الوقت بهذه الدنائة، فما بالنا اليوم، ونحن محرومون من اللقاء بالإمام الثاني عشر، الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، ونخوض أمواج الآراء والتفسيرات والتحليلات والاستقراءات التي تمثل جهود ذهنية لاصحابها، ربما تصيب وربما تخطئ؟

في الذكرى الأليمة لاستشهاد الامام الصادق، عليه السلام، حريٌّ بنا العودة الى الثقلين معاً كما أوصانا نبينا الأكرم، لنفهم القرآن الكريم ورسالة السماء من خلال الأئمة المعصومين، لا من غيرهم من القاصرين.

اضف تعليق


التعليقات

ali
iraq
test2024-05-04