فاتتني فرصة حضور تكريم د. عبد الله العروي في ندوة تلقّي فكره قبل أيّام، هي فرصة لسبب بسيط هو أنّني أقرأ المعاني التّضمنية في خطابه وأسعى من خلال ذلك أن أنشئ علاقة نقدية مع نصّ كبير..

فخلال ما يربو على نصف قرن أتاح العروي فرصة لإثارات فكرية كان لها دور كبير في بروز مشاريع نقدية، هي ترى نفسها قد أجابت عن التحدي الذي طرحه ناقد الأيديولوجيا العربية المعاصرة بينما لا زال العروي مصرّا على أنّه عانى ولا زال يعاني من سوء فهم كبير لمحتوى رسالته التنويرية. من هنا يأتي سؤال التّلقّي وهو سؤال مشروع.

لكن في ظنّي أنّ العروي فُهم جيّدا غير أنّ الجواب على أسئلته جاء ملتبسا بتضمينات طغت عليها الأيديولوجيا. أهداف العروي واضحة: إمّا أن نكون حداثيين أو لا نكون.. وللحداثة ضريبة تاريخية يجب دفعها بلا تردد ولا التفات إلى الماضي. لم يلتفت العروي إلى أي سياق آخر غير سياق التّاريخ الكوني الذي يبتلع كل أشكال التواريخ الخاصة.. بل من منظور تاريخانية العروي لا يوجد تاريخ خاص..

لكن ما أثار اهتمامي اصطلاحه الجديد: فكر النهار وفكر الليل.. توصيف يعيد تحيين التصنيف نفسه الذي يجعل العروي ينظر إلى الواقع بمنظار وضعاني يصبح العقل نفسه حدثا طبيعيا وتاريخيا مجردا عن المشاعر والوجدان.. هو في مقاربته وفيّ لنموذجه الثابت: عصر الأنوار.. مع أنّ الأنوار لم تنظر إلى الوجدان والمشاعر بمثابتها أفكار لليل، إلاّ أنّ التطور الذي عرفه التاريخ الحديث غيّر من هذه النظرة الصلبة للعقل والمادّة، حيث تداخل كل شيء وباتت الكثير من آراء الأنوار نفسها جزء من تاريخ الحداثة.. نحن بعد نصف قرن أصبحنا أمام دعوة سلفية لناقد السلفية: سلفية الأنوار.. غير أنّ العروي لن يقبل المساس بأي قيمة للأنوار، كما لم يأبه لكل الحركة النقدية الحديثة للأنوار.. لم يتزحزح العروي قيد انملة عن اعتقاداته الأولى عن أهمية الأنوار كمرجعية أساسية للتحديث.. كأننا أمام مطلب لم ينجز..

في الأيديولوجيا العربية المعاصرة سنكون أمام إدانة كبيرة للعقل العربي (=الوصف لا يتماشى مع المنظور العروي للعقل بوصفه كونيا)، لكن في أعمال أخرى نظير مفهوم الدولة نحن مع رؤية صلبة تجعل العروي يكاد يميل إلى أنطولوجيا الدولة بوصفها كلّ شيء، ووجودها سابق، نحن أمام موقف ينظر إلى عقلانية المؤسسة نظرة فيبيرية بامتياز.

في الطبعة الأولى للأيديولوجيا العربية المعاصرة الصادرة باللغة الفرنسية علّق ماكسيم رودانسون في تقديمه للكتاب على أنه كتاب فريد من نوعه في العالم العربي. إلاّ أنّ هذا التمجيد ينتهك موقف رودانسون من ماكس فيبر حول الأسس البروتستانتية للرأسمالية الحديثة ومسألة ساحرية العالم في رصده للعلاقة بين الإسلام والرأسمالية.. رودانسون ناقدا ماكس ويبر لكنه ممجد في تلميذه النجيب..

هذا يذكرني في حديث جرى بيني وبين نصر حامد ابو زيد ذات عام بحضرة محمد أركون، سأفاجأ بقول نصر حامد أبو زيد بأنّ مشروعه هو في سياق مشروع الإسلاميات التطبيقية لأركون.. المفاجأة الثانية هي حينما أقره أركون وقال بأنّ هذا صحيح ومهم.. غير أنّ أركون ربما خانته الذاكرة لأنه في تأسيسه لمشروعه سبق واعتبر محاولات نصر حامد أبو زيد لا جدوى منها بعد أن أدانها وفق منظوره للإسلاميات التطبيقية.. مثل هذا يحصل دائما..

كذلك رودانسون يمجد في كتاب العروي الذي يكرّس المنظور الفيبيري للدولة وعقلانيتها على أرضية منظور يؤكد على القطيعة مع الماضي الذي لا يصلح أساسا للحداثة ولا لدولتها بوصفها قطيعة كبرى مع التراث.. تبدو الأنوار هنا التي هي خليط تجربة من المشاعر الجديدة التي فكر فيها الأوربيون في وضح النهار.. أكبر تراث رومانسي قبل الثورة الصناعية لم يكن من اختصاص الليل.. منسوب الأنوار من الأساطير لا يخفى..

روسو في الدين الطبيعي ليس في نظر العروي فيلسوفا من الدرجة الأولى.. انطباع منقول من مجايلي روسو وقرائه من الأجيال الأخرى.. لكنه رمز من رموز الحداثة مع فكرة العقد الاجتماعي.. الأصول اللاعقلانية للخطاب العقلاني يعكسها فعل الهروب من العلل الأولى.. راولز حين يبني على فكرة العقد الاجتماعي ويسلك في مسار التعليل العقلاني للعقد تحريا للعدالة يتحدث عن الوضعية الأولى وحجاب الجهل.. وهنا ينكسر القلم ونكون أمام افتراض متخيّل لعبت فيه الأسطورة دورا أساسيا ومسكوت عنه في تأريخ الأنوار للعقد الاجتماعي..

هذا إنما يضعنا أمام حقيقة هي كون الأنوار مزيج من العقل واللاّعقل.. هي ليست عقلا خالصا.. وحضّها من الأساطير والمتخيل كبير.. نحن حتى في مسار العلم الوضعي نحتاج إلى الخيال.. التخطيط للاقتصاد والتعاقد فعل بالنهار همّ بالليل.. هذا التوزيع الجامد للنشاط العقلي مضرّ بالحياة التي تتداخل فيها أبعاد كائن لا يستغني في نهاره عن المشاعر والوجدان والقيم العملية.. تفويت الوجدان إلى الليل مخالف لواقع الأشياء.. هو نوع من المجاز.. لكن المجاز كما يرى اللّغوي لا يخرم أصل المواضعة..

من السهولة بمكان أن نتحدّث عن الحداثة كمطلب يقتضي المحو التّام للذاكرة وآثار الرمزي، لكن واقعية التحديث تتطلّب اهتماما فائقا بالرمزي بوصفه مؤثّرا في سلوك النهار وليس مجرد أحلام بالليل.. العروي يحمل عقدة التّاريخ.. عقدة هزيمة معركة إيسلي.. اشمئزازا من الفولكلور الذي يعتبر الثقافة المحلية والتراث نمطا من أنماطه التي تقتضي التجاوز.. عقدة الفجوة بين عالمين أدركها في فجر استقلال فضّل التردد في اللّحاق من دون شروط مسبقة بالحداثة..

نتساءل اليوم: هل الحداثة قضية إرادة اعتقاد أم أنها مسار واستحقاق مشروط بتحدّيات أبعد من مجرد اختيار عقلاني، أي أنها قرار إمبريالي يلخّصه السّؤال: أي حداثة مسموح بها؟ هل تملك قرارك الاقتصادي والسياسي والسيادي لكي تكون حديثا؟ أي معنى للحداثة إن كنت لا تملك استقلالية القرار؟.. الإمبريالية تفكّر في الليل كيف تعيق مسار تحديث الأمم بالنهار حفاظا على منظومة حداثة المركز الممتنعة بقوة التفوق العسكري وحداثة الهامش المتاحة.. حداثة السادة وحداثة العبيد التي هي عنوان كتابي قريب الصدور..

* ادريس هاني، مفكر مغربي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق