ولا خيار أمام الأمة الإسلامية كي تتوحد، إلا بالتزام بالتعددية، ووحدة التنوع، فالأمة الإسلامية وحدة واحدة، تتفق كلها على أن دينها الإسلام؛ من هنا يمكن القول بأن الوحدة بين أبناء الأمة ممكنة ولكن في إطار التعددية، فهي وحدة واحدة في الدين ومتعددة في إطار هذه الوحدة...
في البداية نتساءل ما المقصود بالتعددية؟
التعددية تعني في أي شكل من أشكالها: مشروعية التعدد، وحق جميع القوى والآراء المختلفة في التعايش، وفي التعبير عن نفسها، وفي المشاركة على صعيد تسيير الحياة في مجتمعها.
والقارئ لكتب الإمام الشيرازي سوف يجد في العديد من كتبه اهتماما بمفهوم التعددية، وتنبع أهمية ما كتبه (قدس سره) في أنه أعطى رؤية واضحة ومؤصلة لهذا المفهوم، وباعتباره فقيهاً بارزاً فإن ما كتبه في هذا المجال يحظى بأهمية بالغة، خصوصاً وأن المادة التأصيلية قليلة جدا في هذا الموضوع الهام.
ويمكن تقسيم التعددية إلى أقسام كثيرة، ولكن نركز على أهمها:
1. التعددية الدينية:
وتختص بالتعدد في الدين والعقائد والشرائع والمناهج المتصلة به، ومفهومها يعني أولاً: الاعتراف بوجود تنوع في الانتماء الديني في مجتمع واحد أو دولة تضم مجتمعاً أو أكثر.
ويعني ثانياً: احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف أو خلاف في العقائد.
ويعني ثالثاً: إيجاد صيغ ملائمة للتعبير عن ذلك في إطار مناسب وبالحسنى بشكل يحول دون نشوب صراع ديني يهدد سلامة المجتمع.
ومفهوم التعددية الدينية هذا يتضمن الإقرار بمبدأ أن أحداً لا يستطيع نفي أحد، كما يقر مبدأ المساواة في ظل سيادة القانون، كما يلتزم بمبدأ حرية التفكير والتنظيم واعتماد الحوار واجتناب الإكراه.
ففي ظل الإسلام لا تُلغى الديانات الأخرى، ولا يحظر وجود سائر المبادئ والملل، بل يخاطبهم القرآن الحكيم معترفاً بوجودهم، وتاركاً لهم حرية اختيارهم يقول الله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون/ 6).
يقول السيد الشيرازي: وهذا هو الذي عمله الرسول (صلى الله عليه وآله) فإنه لما ظفر بأصحاب بدر، وكانوا مشركين لم يقتلهم بل أخذ منهم الفداء وتركهم على شركهم، فلم يجبرهم على الإسلام، وكذلك فعل بأهل مكة فإنه (صلى الله عليه وآله) قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فلم يقتلهم ولم يجبرهم على الإسلام، وكذلك صنع بأهل حنين.. إلى غير ذلك مما لا يخفى على من له أقل إلمام بتاريخ الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهذا هو المقطوع به من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل وسيرة المسلمين طوال التاريخ الإسلامي، فإنه لم يعهد من أي مقاتل من المسلمين أن يقتل جميع الكفار الذين لم يكونوا أهل كتاب ولم يسلموا، بل مختلف أنواع الكفار كانوا يعيشون في كنف الحكومات الإسلامية السنية والشيعية بسلام، كما لا يخفى ذلك على من راجع التاريخ(1).
وقد اقتدى أمير المؤمنين (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله) واحترم كل حريات الناس حتى الأقليات التي كانت تحت لواء الإسلام، وفي الوقت الذي كان الإمام (عليه السلام) في أقصى درجات القوة، وحدود بلاده وحكومته تمتد من أواسط ما كان يُسمى بـالاتحاد السوفياتي إلى غرب أفريقيا لم يجبر أي مواطن على أن يترك عقيدته وأن يعتنق الإسلام، بل العكس صحيح، فقد ورد في روايات عديدة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حول الأقليات الدينية تقول: (الزموهم بما التزموا به) وقال (عليه السلام): ( كل الناس أحرار) وقال الإمام الحسين (عليه السلام): (إن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم). فالروايات الواردة عن الأئمة الأطهار حول الحريات كثيرة، حتى أن فقهاء الإسلام اعتماداً على الكتاب والسنّة استنبطوا قاعدة عامة مختصرة ومفيدة تقول: (الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم) (2).
وحينما يقبل الإسلام بوجود سائر الأديان والاتجاهات ضمن مجتمعه وفي ظل دولته، فإنه يمنحهم الحرية الكاملة في ممارسة شعائر أديانهم والقيام بطقوس عباداتهم، وتنفيذ تعاليمها وأحكامها دون أن يفرض عليهم شعائره وأحكامه أو يتدخل في شؤون أديانهم.
2. التعددية المذهبية:
هي التعدد المذهبي في إطار الدين الواحد، ومفهومها يعني أولاً: الاعتراف بوجود تنوع في الانتماء المذهبي في مجتمع واحد أو دولة تضم مجتمعاً أو أكثر.
ويعني ثانياً: احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف أو خلاف في الفروع أو غيرها.
ويعني ثالثاً: إيجاد صيغ ملائمة للتعبير عن ذلك في إطار مناسب وبشكل يحول دون نشوب صراعات مذهبية تهدد سلامة المجتمع.
ومفهوم التعددية المذهبية يتضمن الإقرار بأن (أحداً لا يحق له نفي أحد) و(ضمان حرية التفكير والتعبير المذهبي للجميع) و (المساواة في ظل سيادة القانون).
ويجب التأكيد هنا على أن تعدد الفرق والمذاهب داخل الدين الإسلامي يشكل ظاهرة طبيعية بل هي سمة ثابتة في جميع الأديان السماوية والوضعية.
لقد بدأت المذاهب الإسلامية في التكون منذ بداية القرن الأول الهجري، ويحكي لنا التاريخ عن نشوء الكثير من المذاهب والفرق والمدارس الفقهية، ولكن بعضها لم ينتشر ولم يكثر أتباعها، مما أدى إلى انقراضها، أما الذين تأصلت مذاهبهم وبقيت إلى يومنا هذا، فأهمها ما يلي:
أ- السنّة بمذاهبها الأربعة: الحنفي، الشافعي، المالكي، الحنبلي.
ب- الشيعة بطوائفها الثلاث: الإمامية الاثني عشرية، الزيدية، الاسماعيلية.
ج- الخوارج والمعروف منهم حالياً: الأباضية.
نستنتج من كل ما تقدم؛ أن ظاهرة (التعددية المذهبية) ظاهرة طبيعية، وسمة لازمة في جميع الأديان والعقائد، وأن الإسلام ليس بخارج عن تلك القاعدة، كما يؤكد على ذلك التاريخ الماضي والواقع المعاصر، وأنه لا يمكن إلغاء تلك المذاهب، ولكن من الممكن الاتفاق على (القواسم المشتركة) التي تجمع بين المذاهب الإسلامية المتعددة، والتسامح في شتى الفروع الفقهية ووجهات النظر المذهبية الأخرى.
ومن الطبيعي جداً أن يكون هناك تعدد في المذاهب، ومن ثم في الآراء والأفكار والتصورات، ولكن الشيء غير المنطقي هو أن يدّعي أحد أن له وحده حق فهم الإسلام، ومصادرة هذا الحق من الآخرين، وأن له حق تفسير النصوص حسب فهمه، وليس للآخرين إلا أن يكونوا نسخاً مكررة عنه، واتهام مخالفيه بمخالفة السنّة، والخروج من دائرة الدين، والوقوع في حبائل الشرك والكفر والضلال!!
إن التعصب بجميع أشكاله، ومحاربة فكر وآراء الآخر، والعمل على فرض آراء الذات بأي وسيلة لن يحقق إلا تمزيق الأمة وتفتيت وحدة المجتمع المسلم، وإضعاف الروح المعنوية، وخلق الفتن والصراعات والمعارك لا تبتعد عن كونها تجادل، والحروب العبثية، وهي عملية هدم لكيان الأمة كله.
ولا خيار أمام الأمة الإسلامية كي تتوحد، إلا بالتزام بالتعددية، ووحدة التنوع، فالأمة الإسلامية وحدة واحدة، تتفق كلها على أن دينها الإسلام؛ من هنا يمكن القول بأن الوحدة بين أبناء الأمة ممكنة ولكن في إطار التعددية، فهي وحدة واحدة في الدين ومتعددة في إطار هذه الوحدة!
3. التعددية السياسية:
وتعني مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية وحقها في التعايش وفي التعبير عن نفسها، وفي المشاركة في التأثير على القرار سياسياً في مجتمعها.
ومصطلح التعددية السياسية يعني أولاً: الاعتراف بوجود تنوع في مجتمع ما، بفعل وجود عدة دوائر انتماء فيه، ضمن هويته الواحدة.
ويعني ثانياً: احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من خلاف أو اختلاف في العقائد والألسنة والمصالح وأنماط الحياة والاهتمامات، ومن ثم الأولويات.
ويعني ثالثاً: إيجاد صيغ ملائمة للتعبير عن ذلك كله بحرية في إطار مناسب وبالحسنى، بشكل يمنع نشوب صراع يهدد سلامة المجتمع، وإن اشتراك جميع فئات المجتمع في هذا الإطار بآرائهم هو ما يصطلح على تسميته بالمشاركة السياسية (3).
وقد كان في دولة المدينة وفي عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعة من القوى السياسية وقد تعامل النبي مع كل تلك القوى والجماعات السياسية ولم يعمل على إلغائها أو إضعافها، وذلك من أجل الحفاظ على التوازن الاجتماعي والسياسي المطلوب، فضلا عن أن تكوين القوى والتجمعات السياسية، هو حق من حقوق الحرية السياسية.
ومفهوم التعددية السياسية يشير إلى حق (المعارضة) في ممارسة أنشطتها، وقد كفل الإسلام للمعارضة السياسية السلمية كافة الحقوق المشروعة، كما أن في التجربة الإسلامية الأولى دلائل وشواهد تؤكد شرعية المعارضة والتعددية في الإسلام.
وقد أرسى الإمام علي (عليه السلام) حق (الرأي الآخر) والتعبير عن ذلك الرأي بأي وسيلة مشروعة، فلم يسجن أحداً لمخالفته له في الرأي، ولم يمنع أحداً من العطاء لأنه لا يتفق معه في موقف أو في رؤية، ولم يبطش بأحد خالفه في الفكر أو المعتقد، بل سمح لكل الآراء أن تعبر عن ذاتها، ولو كان ذلك التعبير على شكل مظاهرة سلمية، أو اضراب مدني.
ويحدثنا التاريخ: أن الإمام (عليه السلام) لم يكن يمنع المظاهرات والاضرابات، حيث (أنه اتفق في زمانه أن أغلق أهل الكوفة الدكاكين، حيث حكم بحكم لم يرضوا به، وفي مرة أخرى حيث عزل قاض لم يرضَ بعض أهل الكوفة بعزله، خرجوا في تظاهرة، والإمام لم يتعرّض لهم بسوء، وإنما تركهم وشأنهم بعد أن نصحهم (4).
وروى المؤرخون: أن (الحريث بن راشد الشامي) كان عدواً للإمام، فجاءه قائلاً له: والله لا أطعت أمرك، ولا صليت خلفك! فلم يغضب لذلك، ولم يبطش به، ولم يأمر به بالسجن أو العقوبة، وإنما دعاه إلى أن يناظره حتى يظهر أيهما على الحق، ويبين له وجه الحق لعله يتوب، فقال له الحريث: أعود إليك غداً، فقبل منه الإمام، فانصرف الرجل إلى قومه ولم يعد! (5).
ولم يكتف الإمام (عليه السلام) بالعدل مع الخوارج، ومنحهم حقوقهم كاملة إبان المعارضة، بل أوصى بهم خيراً بعد وفاته، فقال قولته الشهيرة: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه).
يقول الإمام السيد الشيرازي (قدس سره): لقد سمح النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) للمعارضة سواء كانوا أفراداً أو جماعات أن يقوموا بدورهم تعليماً للأمة في السماح للمعارضة، وإن كانا هما معصومين، وقد ورد في القرآن الكريم في النبي (صلى الله عليه وآله) : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى)، وقال (صلى الله عليه وآله) في الإمام علي(عليه السلام): علي مع الحق والحق مع علي، وعليه فلا يحق للحاكم مهما كان أن يكبت المعارضة، فإن ذلك بالإضافة إلى كونه خلاف السيرة خلاف العقل والمنطق، ويوجب كراهة الناس للحاكم مما ينتهي إلى سقوطه (6).
ولعل أهم ما نستطيع استنتاجه من تجربة الإمام علي (عليه السلام) مع معارضيه أن للرأي الآخر مكاناً في الدولة الإسلامية، وأن الإسلام يكفل كافة الحقوق المشروعة للمعارضة السياسية السلمية، أما المعارضة المسلحة ضد الدولة الإسلامية فلا شرعية لها، إذ لا شرعية في محاربة الشرعية.
اضف تعليق