كان الإخوان قبل نوبة الربيع العربي وعملية الفورماتاج التي نهضت بها أكاديمية التغيير التي أعدت لتهذيب المعجم اللفظي والمصطلحي للإخوان، كانوا قبل ذلك يمجّدون في الزّهد ويعلنون أنفسهم أبناء الفقراء، لكن ما أن دخلوا الجماعات المحلية ثم البرلمان فالحكومة حتى ظهرت عليهم معالم البرجزة...
كان الإخوان قبل نوبة الربيع العربي وعملية الفورماتاج التي نهضت بها أكاديمية التغيير التي أعدت لتهذيب المعجم اللفظي والمصطلحي للإخوان، كانوا قبل ذلك يمجّدون في الزّهد ويعلنون أنفسهم أبناء الفقراء، لكن ما أن دخلوا الجماعات المحلية ثم البرلمان فالحكومة حتى -وفي ظرف قياسي- ظهرت عليهم معالم البرجزة والثّراء وكأن الحكومة كانت فرصة لاستغنائهم لا لخدمة الشعب..
وهذه الظاهرة في مثال المغرب واضحة جلية: فقبل أن يلتحق هؤلاء بالبرلمان والحكومة لم يكن أغناهم يمتلك سيارة مقنعة، وبعض وزرائهم دخلوا الحكومة وهم لا يملكون بيتا، وحتى وقت قريب كانوا يستعملون دراجات هوائية أو نارية مستعملة.. كانت وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة.. لكنهم اليوم ولغايات مدبرة أصبحوا في وضعية أصولية مبرجزة.. كلفهم ذلك الكثير من التغيير في الملامح واللهجة والوضعيات.. شذبوا لحاهم لأنها كانت كالعهن المنفوش.. غيروا نمط اللباس وتعلموا أن يلبسوا البدلات المضبوطة بعد أن كانوا في السابق مثل شارلي شابلن.. بعضهم قام بعمليات تجميل وكأنهم لم يكونوا راضين على أنفسهم.. خرجوا من الحرفشة والمنتوفية إلى حالة البرجزة، فهل كان ذلك مقصودا في المخطط الإمبريالي؟
كانت معظم الكتابات التي تناولت ظاهرة الإخوان خلال السنوات القليلة ما قبل الربيع العربي ترصد الوضعيات الاجتماعية للإخوان وتحاول في سياق إقناع الغرب بأن يكونوا هم حمار طروادة في تغيير الشرق الأوسط وحماية المصالح الرأسمالية أن يتم إدخالهم في دورة الشّبع.. الأمر لم يكن دراسة للتحولات الاجتماعية والتاريخية لهذه الجماعة بل الأمر كان يتعلق بتوجيه الدراسة لتصبح عنوانا تحفيزيا، فالإمبريالية لن تستعمل حمار طروادة الأخير حتى يصبح ظاهرة منخرطة في الاستهلاك وهذا ما حدث.. نزلت الفكرة المحورية للميدان وجند لها باحثون في هذا الاتجاه..
كتب الصديق بتريك هيني وهو مستشرق سويسري كتاب: إسلام السوق.. يرصد ظواهر التحول إلى أنماط الاستهلاك الرأسمالية المؤسلمة.. يضرب مثالا بفندق كابريس الواقع على ضفاف إيجه الذي يقدم تسهيلات تلائم بين الترفيه والمعايير الإسلامية.. لم يعد النموذج هو النبي الفقير بل النبي رجل الأعمال.. الحديث عن اليوتوبيا الإدارية الجديدة وسد الفجوة بين الأسلمة والإدارة.. يرى الكاتب بأن كتابه هو حصيلة نقاش استمر عشر سنوات في مصر وفي إطار مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية بالقاهرة.. كما يعود الفضل في ذلك حسب الكاتب للقاءات ونقاش جمعه بأوليفييه روا.. النقاش الذي يرصد تفاعل الهوية الدينية مع العولمة.. ويذكر الكاتب المساعدات التي قدمها له الراحل حسام تمام على مستوى تمكينه من البيانات وظواهر المجتمع وأيضا التعاون مع باحث مصري آخر توفي آنذاك..
القيمة الأساسية لهذا البحث هو أنه توجه إلى الظواهر الاستهلاكية والتمثلات الليبرالية للظاهرة الإخوانية.. وأنا هنا لا أقف عند مخرجات البحث بل أقف عند البرادايم الذي هيمن على تلك الدراسات والذي أرجعه إلى المشرف الأكبر على هذا التوجيه: غراهام فولر.. فبتريك هيني باحث شاب مندفع يجتهد ليستبعد الأيديولوجيا.. وأنا أعرفه جيدا وجلس معي طويلا ووضحت له الكثير من الجوانب حول هذه الظاهرة بل وحين جلس مع بعض قادة التوحيد والإصلاح نبهته قبل سنوات أن يحذر من كل التدليس الذي يقدمونه حول أنفسهم.. فلقد التفت منذ فترة إلى أنهم يمررون صورة خادعة عن أنفسهم من خلال بعض الباحثين في الظاهرة الإخوانية.. لقد أكدت له يومئذ بأنهم خلاف ما يزعمون.. كنت أستغرب من الطريقة التي يزفون بها تجربتهم إلى الباحثين الأجانب.. ولقد تشكلت صورة زائفة عنهم استحسنوها وقبلت بها مراكز الدراسات الأجنبية ولكن كل ذلك كان لأهداف تتجاوز حمار طروادة..
عن تعاونه مع كل من المتوفيين حسام تمام والباحث الآخر الذي لم يذكر إسمه وأحسبني أعرفه وهو الصديق المرحوم محمد حاكم.. بالنسبة للأول كان من الإخوان واحترف البحث كما يفعل البيجيديون اليوم لأنّ السيد حسام عاد هنا وكلفه تنظيم التوحيد والإصلاح بمهمة إعادة هندسة صحيفتهم وترشيد خطها التحريري.. ولم تخرج كل هذه الجهود من تشبيكات في ظنّي أنها كانت تتجاوز هؤلاء أنفسهم بمن فيهم الباحثين الميدانيين.. سيتجه برتريك هيني بعد ذلك حسب ما أخبرني به وببراءة طبعا للاشتغال في مركز في الشرق سأكتشف أنه كان يديره ضابط استخبارات بريطاني سابق.. كلّ هذه الظّلال تأمّلتها في بحثي الميداني عن هذه الظاهرة.. هم يظنون أنهم أذكياء وكنا وراهم نقرأ الأبعاد الخطيرة لهذا الانقلاب في الرؤية.. لا أزعم هنا أنّ الباحثين الميدانيين كانوا على دراية بالأجندات البعيدة لهذه القراءات، فلقد كانوا بالفعل جادّين في أبحاثهم وهو ما يؤكد على أنّ مجرد البحث لا يكفي في فهم ما يجري، فخلف الأبحاث أجندات وتوجيهات ونماذج واستعمالات، فمراكز الأبحاث هي نفسها تجعل من الباحث حمار طروادة في مشاريع أيديولوجية محددة.
وقبل ذلك بسنوات، أي في تسعينيات القرن الماضي، رصدت هذا التحول في القراءة.. وأعترف أنني خلال ذلك الوقت لم أكن قد أدركت خيوط اللعبة بل كنت مقتنعا بأنّ ذلك بالفعل تحول موضوعي في شروط وتفاعل الدراسات حول الاسلام السياسي.. فلقد كتبت قبل عشرين عاما عن الإسلامية وما بعد الحداثة قبل بتريك هيني وحتى غراهام فولر، كان يومها رئيس هذه الدعوة هو دانييل بايبس حيث اعتبر أن قلق التحديث متأصل في أعماق الأصولية، وعززت ذلك برأي باحث تركي خلدون جولآلب نشر في 1995 مقالة في (contention) يعتبر فيها الأصوليين مفكرين حداثيين.. وحين كتب غراهام فولر عن الإسلامية والتحديثية اعتبرت ذلك تطورا بريئا في قراءة المشهد، يدل على جدّية المطلب أنني ترجمت شخصيا هذا المقال ونشرته في الجريدة التي كانت ناطقة باسم البي جي دي وإن كانوا يستثقلونها لأنهم فشلوا في السيطرة عليها كما سيطروا على الحزب، بينما كان وزير لهم الآن يقوم أنذاك بمناورات تحريضية سخيفة ضدّ عمود كنت أكتبه من باب: رضينا بالهم والهم لم يرض بنا، تحريضا يعكس السيرة التطرفية لمن يتحدثون اليوم على منابر الحكومة بلغة التسامح والديمقراطية.. غير أنّ التفاتتي إلى هذه التشبيكات أثار لديّ الكثير من التساؤلات، فالفكرة المحورية لتبرجز الإخوان كانت مقصودة وهدفا لما ينبغي أن تكون عليه عملية الانتقال بهم إلى دورة التدبير الجماعي والبرلماني والحكومي.. إنهم أصبحوا إخوان السوق ودخلوا دورة الاستهلاك الذي بدأ بقيود خجولة لينتهى إلى سباق واضح حول الامتيازات واعتماد الصفقات والتوظيف المباشر لرجالاتهم في مختلف المديريات واقتناء الأراضي والفلل..
النقلة هنا كبيرة.. بالنظر إلى بروفايلات قادة الإخوان عندنا.. وكان باتريك هيني يومها قد التقى بشخص اختفى اليوم من المشهد لكنه كان كثير الشغب يومئذ، ولم يكن حين التقاه كاتب اسلام السوق على علم بأنّ هذا المتحدث كان قد تقرب كثيرا من رجل أعمال كبير كان على وشك أن يضعه على رأس تدبير إحدى المشاريع الحيوية.. المنجمنت كما ركز عليها الباحث.. أتحدث عن نقلة ولكل منهم حكاية مع هذه النقلة المفاجئة.. ولكن يمكن أن أقدم لكم صورة من أرشيف تتبعي لأحوال هذه الجماعة.. مثال عن قيادي كبير يبدو اليوم في حالة برجزة حتى أنّه خصص لنفسه مدلّكة محترفة.. تأملوا الصورة اليوم، لكن ليس بعيدا أنّ هذا القيادي مدين لرئيس الحكومة السابق وحده الذي كانت عليه آثار النعمة.. لهذا استطاع أن يحتوي بقايا شبيبتهم من خلال قصاع الكسكس: التقليد الذي أتبعه وبقي مستمرا فيه حتى بعد أن وصلوا الحكومة حيث لم يفطموا عن قصعة رئيس الحكومة السابق.. كان رئيس الحكومة أيام الشباب يمشي برفقة أصدقاء له ومنهم القيادي المذكور.. وقفوا على بائع الروبيان.. كروفيت.. قال القيادي: شنو هاذ البخوش: الحشرات.. ضحك عليه رفاقه.. هذا كروفيت وليس بخوش.. قال الزعيم للبائع ضع 2 كيلو حتى نجعله يذوق من الكروفيت.. كان القيادي المتبرجز لا يفرق بين الكروفيت والصراصير.. وقبل سنوات قليلة حين بدؤوا يظهرون انفتاحهم وبطريقة غير محترفة -لم تكن أكاديمية التغيير قد ظهرت بعد- كان القيادي نفسه يتحدث إلى مستجوبه في جريدتهم حول الفن: هرب إلى الملحون وناس الغيوان ليكسر الصورة النمطية عن موقف الإخوان من الفن.. هناك في هذا اللقاء تحدث القيادي المذكور عن جزء من سيرة حياته في الطفولة، سيتلفون ذلك الحوار بعد فترة لأنه كان غاية في البؤس والوساخة.. ولكي أضعكم في فلكية النقلة لنستمع إلى القيادي يتحدث عن ذوقه الطفولي، حيث يقول بأنّ لعبتهم المفضّلة يوم كانوا صغارا هو أن يمسكوا بالفئران (الطّوبّات) ويقومون بذبحها بشفرات كما لو أنها الخرفان.. ثم يقومون بسلخها وتقطيعها أجزاء وبتر أعضائها مثلما يفعل الجزّار مع ذبيحته، فيعرضون ذلك للبيع.. ويقول: طبعا زبائننا هم الذّباب..
إنها حكاية مقززة ومقرفة لكنها تعطينا صورة عن طفولة حقيرة وذوق مقرف يسكن في أعماق من أصبحوا وزراء يدبرون الشّأن العام.. إنه تدبير حكومي يشبه ذات الانحطاط في الذوق.. ومع ذلك هناك من يصافح يد الوزير الذي كان في طفولته يسلخ الفئران.. هذا الانقلاب في الوضعيات هو نتيجة مخطط للاستثمار في النذالة التي بها وجب أن نغير الشرق المتمرجل إلى شرق أوسط جديد يطبّع مع القذارة.. تدبير من لا يميزون بين الصراصير والجمبري.. اليد التي اختلطت بدماء الفئران (الطوبّات) لا يمكنها أن تكون أيادي بيضاء من غير سوء.. إنّه الطّاعون، وكما ذكرنا في مسرحية شوقي عن الحيوانات المصابة بالطاعون انّ الذي يدفع ثمن انتشار هذا الوباء هو الحمار...
اضف تعليق