وعلى الرغم من أهمية العقل للقيادة، فإنه غير كافٍ للوفاء بالمتطلبات التي يواجهها القادة في الوقت الحاضر؛ فعدمُ القدرة على إبداء التعاطف وإظهار السمات الشخصية، يُنَفِّر الكثيرَ من الموظفين ويجعلهم غيرَ مهتمين. أما انعدامُ الشجاعة فقد يعني عدم قدرة القائد على اتخاذ قراراتٍ صعبةٍ لكن ضرورية...
لكي تكون قائدًا في بيئة الأعمال المعاصرة، تحتاج إلى استخدام العقل، وإظهار المشاعر، والتصرُّف بشجاعة. وهذا ليس هدفًا غيرَ واقعي؛ فمعظم الأشخاص قادرون تمامًا على إظهار كل هذه الصفات الثلاث في مواقفَ معينةٍ. ولسوء الحظ، فإن غالبية المسئولين التنفيذيين أصبحوا إما معتمدين على إحدى هذه القدرات وإما موجودين ضمن أنظمةٍ مؤسسيةٍ لا تُكافِئهم أو تُحفِّزهم على اكتساب بقية القدرات الأخرى؛ فيظلون قادةً جزئيين، حتى عندما تكون مؤسساتُهم في حاجةٍ إلى قادةٍ كاملين.
أما سبب ذلك فهو مزيج من التاريخ والتدريب؛ فمن الناحية التاريخية، طالما تولَّى القيادة قادةُ الأعمال مستخدمين عقولهم، بحسب المفهوم القائل بأنك إذا استطعتَ تحليل الموقف واستوعبتَ البيانات واخترتَ من بين عددٍ من البدائل العقلانية، فبإمكانك أن تكون قائدًا قويًّا. وقد تدرَّبَتْ أجيال من حَمَلة ماجستير إدارة الأعمال على استخدام هذه الأدوات التقليدية؛ ولذلك، فليس من المفاجئ أن الرؤساء التنفيذيين في أغلب الأحيان يُختارون لأنهم أذكى الأشخاص الموجودين؛ فالمؤسسات تختار المفكرين النابهين ليشغلوا مناصبَ القادة بالطريقة نفسها التي يختار بها المرضى أطباءَهم من بين أفضل أخصائيي تشخيص الأمراض، وفي كلتا الحالتين لا يولون اهتمامًا كبيرًا لطريقة المعاملة. وقد شدَّدت البرامج التنفيذية التي تقدِّمها كلياتُ الأعمال التركيزَ على القادة المعرفيين، من خلال التركيز على سجلات الحالات وإتقان القدرات الاستراتيجية والتحليلية.
وعلى الرغم من أهمية العقل للقيادة، فإنه غير كافٍ للوفاء بالمتطلبات التي يواجهها القادة في الوقت الحاضر؛ فعدمُ القدرة على إبداء التعاطف وإظهار السمات الشخصية، على سبيل المثال، يُنَفِّر الكثيرَ من الموظفين ويجعلهم غيرَ مهتمين؛ فينفذون في بعض الأحيان استراتيجيةً رائعةً لكن بطريقةٍ عقيمةٍ تفتقر إلى الإبداع وتعجز عن تحقيق الالتزام. أما انعدامُ الشجاعة فقد يعني عدم قدرة القائد على اتخاذ قراراتٍ صعبةٍ لكن ضرورية تتعلَّق بكلِّ شيءٍ، بدايةً من الأفراد وحتى خطوط الإنتاج؛ ممَّا يخلق دون قصدٍ ثقافةً يسودها التردُّدُ وتفتقر إلى الطاقة والشغف.
وعلى الرغم من حقيقة أن معظم المؤسسات ما زالت تقدِّم أهمية العقل على أهمية القلب والشجاعة، فلقد عرفنا منذ وقتٍ طويلٍ أن القادة الأكْفاء يحتاجون ما هو أكثر من مجرد عقلٍ ذكيٍّ وتحليلاتٍ فعَّالة. وقد أظهرت الأبحاثُ التي أُجرِيت على مدار العقود العديدة الماضية ذلك الأمرَ مرارًا وتكرارًا؛ ففي تسعينيات القرن العشرين راجَعَ عالم النفس بوب هوجان كلَّ الأبحاث التي أُجرِيت في مجال القيادة حتى ذلك الوقت، واستنتج أن السمات الشخصية ترتبط ارتباطًا قويًّا بالكفاءة القيادية (هوجان وكيرفي وهوجان، ١٩٩٤). ومن بين الصفات التي تُميِّز أفضل القادةِ النضجُ العاطفي، والقدرة على خلق الثقة، والمرونة في العمل مع نطاقٍ من شخصيات الأفراد المختلفة. وهذا يعني أن أفضل القادة لديهم قلب، بالإضافة إلى ما يتمتعون به من نقاطِ قوةٍ أخرى؛ فالقادةُ الأكْفاء يُظهِرون الإصرارَ، والمثابَرةَ، والقدرةَ على التغلب على العقبات التي تعترض طريقهم؛ وهذا ما سنطلق عليه الشجاعة.
إليكم بعضًا من الأمور الأخرى التي أدركناها عبر دراسة القيادة:
- اسأل الأشخاص عمَّا يريدونه في قادتهم، وسوف يذكرون كلمات مثل: «الذكاء»، و«الأمانة»، و«الإصرار»، و«الضراوة»، بالإضافة إلى القدرة على التعامُل مع الناس، وهذه صفات تندرج بدقةٍ تحت رؤيتنا المتمثِّلة في العقل والقلب والشجاعة.
- إن اعتبار الأشخاص قادةً لا يرتبط فحسب بمدى ذكائهم، بل يرتبط بصفاتٍ أخرى أيضًا. وتزداد احتمالية اعتبارهم قادةً إذا كانوا يمتلكون التركيبة الصحيحة لما نطلق عليه العقل والقلب والشجاعة.
- من المحتمل أن تتعرقل مسيرة القادة إذا كانوا غير جديرين بالثقة، ومتسلطين، وغير مستعدين لاتخاذ قراراتٍ صارمةٍ تتعلق بالأفراد وبالعمل، وإذا كانوا يميلون إلى التحكم في تفاصيل عمل موظفيهم؛ أي إن الأشخاص الذين «يفتقرون» إلى العقل والقلب والشجاعة، تزداد احتماليةُ تَعرقُلِ مسيرتهم مقارَنةً بأولئك الذين يمتلكون تلك الصفات.
ومن ثَمَّ فإن فكرة ضرورة تمتُّع القادة بالقدرة على تجاوز قدرتهم المعرفية وإظهار إمكانياتٍ أخرى، لَهِي فكرة مدعومة جيدًا بالأدلة، حتى إنْ كانت لا تُطبَّق كثيرًا كما ينبغي. وبطبيعة الحال، فإن القائد الذي يعتمد بصورةٍ أساسيةٍ على القلب أو الشجاعة هو على القدر نفسه من عدم الكفاءة. وعلى الرغم من ذلك، فمعظمُ الأشخاص الذين يشغلون مناصبَ قياديةً في الإدارة العليا في الشركات في الوقت الحاضر هم أشخاصٌ يعتمدون على العقل؛ أما المديرون المعتمدون على القلب أو الشجاعة، فيُوصَمون بهذه الصفة أو يُستبعَدون قبل وصولهم إلى منصبٍ قياديٍّ رفيع، أو تُخصَّص لهم وظيفة أدنى درجة مناسِبة إلى حدٍّ كبيرٍ لتوجُّههم (وهذا يعني أن قادة القلب جرت العادة على نقلهم إلى مناصبَ متعلقةٍ بالموظفين أو بالموارد البشرية في أدوار «مساعدة»).
إن إضافة العقل والقلب والشجاعة إلى القيادة لَهِي فنٌّ وعِلْم أيضًا. ولاحقًا سوف نرى ما الذي تتضمنه هذه الإضافة، لكننا نحب أولًا أن نُبيِّن الأسباب التي جعلت القيادة الكاملة ضروريةً للغاية في عالمنا المعاصر.
(١) العوامل الدافعة لتبنِّي هذا الاتجاه القيادي
لقد لاحظنا أعددًا مذهلة من الرؤساء التنفيذيين الذين اتصفوا بالذكاء البالغ وشدة الفطنة، ومع ذلك فشلوا فشلًا مدوِّيًا في السنوات الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال: كان ديرك جاجر من شركة بروكتر آند جامبل، ومايك مايلز من شركة فيليب موريس، وفيل بيرسيل من مؤسسة مورجان ستانلي، أشخاصًا أذكياء ونجباء للغاية (وأمناء أيضًا)، وعلى الرغم من أن بعض إخفاقاتهم نتجت عن أحداثٍ خارجةٍ عن سيطرتهم، فإن كثيرًا منها يمكن أن يعود إلى أتباعهم كرؤساء تنفيذيين لمنهج قيادةٍ أحادي التفكير. وعلى الرغم من حماسهم وإصرارهم، فإن الافتقار إلى المشاركة الوجدانية، والشجاعة، والحَدْس، والاستعداد للاعتراف بضعفهم؛ أدَّى إلى عرقلة مسيرتهم، ومسيرة مؤسساتهم في بعض الأحيان.
في الماضي، كان من المحتمل إلى حدٍّ كبيرٍ ألَّا تتعرقل مسيرتهم. وحتى وقتٍ قريبٍ للغاية، لم يكن باستطاعة القادة الجزئيين الحفاظ على مناصبهم فحسب، بل كانوا يستطيعون الازدهار أيضًا. وقبل أن تصبح الأسواق العالمية أكثر شفافيةً، وتقلُّبًا واعتمادًا على شبكة الإنترنت، كانت القيادة الأحادية البُعْد كافيةً في الغالب، ولم يكن من الغريب أن تجد مسئولين تنفيذيين يديرون شركاتٍ من خلال الأوامر والسيطرة. لقد كان الرؤساء التنفيذيون الذين يتجنَّبون المخاطَرةَ هم القاعدةَ إلى حدٍّ كبيرٍ وليسوا الاستثناء، وكان القادة المتعاطفون والذين يُظهِرون المشاعرَ يُعَدُّون قادةً «ضعفاء».
لكن تغيَّرَتِ الأحوال، وفيما يلي تحديدٌ لبعض العوامل الدافعة إلى التغيُّر نحو القيادة الكاملة التي لاحظناها:
(١-١) الترابُط العالمي
في مقالةٍ بعنوان «حَمَلة ماجستير إدارة الأعمال والصعود للمستوى العالمي»، أعلن نايجل أندروز ولورا دي أندريا تايسون نتائجَ استقصاءٍ سُئِل فيه مائة من القادة حول العالم عمَّا يحتاجه المسئولون التنفيذيون الشباب كي يحقِّقوا النجاحَ في الوقت الحاضر. أندروز هو عضو مجلس إدارة كلية لندن للأعمال، وتايسون هي عميدة كلية لندن للأعمال، وأجريا هذا الاستقصاء بدافع القلق من أن يكونوا لا يُعلِّمون طَلَبةَ ماجستير إدارة الأعمال الأمورَ التي يحتاجون إلى تعلُّمها كي يصبحوا ناجحين في سوق العمل العالمية. وكان قلقهما مبرَّرًا، وفقًا لنتائج الاستقصاء؛ إذ كان المسئولون التنفيذيون حول العالم يعتقدون أن تركيز الأساتذة في الكلية على المحتوى -أيْ تدريس الطَلَبة ما يحتاجون إلى معرفته- ليس كافيًا.
وقال أندروز وتايسون إن القادة العالميين في المستقبل سوف يحتاجون أيضًا إلى ما أطلقا عليه مصطلح «المهارات والصفات» إلى جانب المعرفة. وهذه المهارات والصفات تشمل مهارات التعليق على الأداء، والاستماع، والملاحظة. وتحتاج الشركاتُ العالمية إلى قادةٍ ومديرين يزدهرون في ظل التغير، وتعكس أفعالُهم أعلى مستويات النزاهة (وهذه هي الصفات). ويمكن ترجمة كثيرٍ من الصفات التي ذكراها إلى القلب والشجاعة، بالإضافة إلى العقل «الواسع الأفق».
وينطبق ما اكتشفاه على أرض الواقع، خاصةً عند تأمُّل مقتضيات إدارة إحدى الشركات العالمية أو العمل بها. أولًا: يشيع توجُّه تكوين علاقاتٍ شخصيةٍ في مجال الأعمال في معظم الدول خارج الولايات المتحدة؛ فشخصية وطبيعة القادة لا تقلان أهميةً عن المنتجات والخدمات التي يبيعونها. فإذا كانت لديك معاملات تجارية مع دولٍ أخرى، فلا بد أن تُظهِر صفاتٍ معينة (الاحترام، التواضع، الثقة) يتوقَّعها ويُقدِّرها قادةُ الشركات الأجنبية لا شعوريًّا؛ ومن ثَمَّ يُعَدُّ توظيف القلب صفةً ضرورية.
ثانيًا: إذا كنت تعمل على نطاقٍ عالمي، فستكون المخاطرُ بطبيعة الحال أكبرَ ممَّا ستكون عليه إذا كنتَ تعمل في مؤسسةٍ محلية. إن التعقيد والغموض اللذين يكتنفان المعاملات الدولية أو العمل في ثقافةٍ مختلفةٍ، لهما تأثير كبير، ويتطلبان اتخاذَ قراراتٍ دون الدرجة المعتادة لليقين من صحتها؛ ذلك اليقين الذي نشعر به في بيئة العمل المحلية المألوفة. إن أفضل القادة العالميين يشعرون بالراحة أثناء العمل في ظل بيئةٍ يكتنفها الغموض، وهم قادرون على جعْل المخاطرات مثمرةً؛ تلك المخاطرات المعتمدة على الحَدْس والعلاقات الشخصية قدر اعتمادها على مهاراتهم التحليلية. فتقلُّب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في سوق العمل العالمية، يتطلَّب قادةً يستطيعون التعايُش مع هذا التقلُّب، بل الاستفادة منه أيضًا. أما القادة الذين يتجنبون المخاطَرة في مواجَهة الأوضاع الملتبسة والظروف المتغيرة، فلا يصبحون قادةً عالميين أكْفاءً.
ثالثًا: قائد الإدارة العليا العالمي لا يمكن أن يركِّز فقط على إجراءات واستراتيجيات الجوانب التقنية. والأشخاص في المناصب القيادية في الشركات العالمية يفشلون عندما تقتصر معرفتُهم على مجالات تخصُّصهم؛ فعندما يتناول المسئولون التنفيذيون الأمريكيون العشاءَ مع قادةٍ أوروبيين، على سبيل المثال، يجب ألَّا تكون وجهةُ نظرِهم وفهمُهم محيطَيْن علمًا بقضايا الأعمال فحسب، بل يجب أن يتضمَّنَا الاتجاهات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية أيضًا؛ فهؤلاء القادة لا بد أن يتحلَّوْا كذلك بِسِعة الأفق، وأن يكونوا قادرين على تفهُّم القِيَم الثقافية والأنماط السلوكية المتنوعة.
(١-٢) زيادة تعقيد التنفيذ
توجد خرافة يعتنقها الكثيرون، تقول إن الأشخاص الذين «ينجزون المهامَّ» في المؤسسات يعملون اعتمادًا على عقولهم في المقام الأول، وإنهم أناسٌ آليون جادُّون شديدو العزم، يوجِّهون كلَّ شيءٍ ويقيسونه من أجل تحقيق نتائج ممتازة. وعلى الرغم من أن التنفيذ يتطلَّب بالفعل توجيهًا وتركيزًا، فقد قدَّمَ لاري بوسيدي ورام تشاران أدلةً كافيةً على أن التنفيذ يتضمَّن أيضًا مهاراتِ تفاعلٍ اجتماعيٍّ قويةً واستعدادًا للمخاطرة. وفي كتابَيْهما «التنفيذ» و«مواجهة الحقيقة»، يوضحان أن الذكاء العاطفي يلعب دورًا مهمًّا في إنجاز المهام، وأن القدرة على تشجيع الآخَرين على إنجاز المهام أمرٌ ضروري. ويتناولان كذلك الشجاعة كصفةٍ للأشخاص الذين يُحقِّقون أهدافًا طموحة، مشيرَيْن إلى أن تنفيذ الأمور الصعبة يتطلَّب ما هو أكبر من مجرد قدرٍ قليلٍ من الشجاعة.
إن تركيبة التنفيذ في الوقت الحاضر أعقد ممَّا كانت عليه منذ سنوات؛ ففي الماضي عندما كانت السلطة أكثر تمركُزًا، كان الرؤساء التنفيذيون وغيرهم من قادة المؤسسات يستطيعون إصدارَ توجيهاتٍ وهم يتوقَّعون تنفيذَها بسرعةٍ وباجتهاد. وبالمثل، كانت بيئةُ الماضي خاضعةً لقدرٍ أقل من سيطرة الشركات العالمية، والتغيُّر التكنولوجي المستمر، والعقبات الأخرى التي قد تظهر في طريق تنفيذ الأهداف. أما في الوقت الحاضر، فالتنفيذ يتطلَّب في أغلب الأحيان مزيجًا من السلطة والتأثير، ومن المخاطرة والتحليل، ومن الإيضاح (أو إقناع الناس) والإلهام (أو الاستحواذ على قلوبهم).
(١-٣) النمو
يتطلَّب النمو ما هو أكثر من مجرد استراتيجيةٍ جيدةٍ هذه الأيام. وعلى الرغم من أن الاستراتيجية قد تكون ذكيةً ومتوافِقةً مع المعلومات حول تفضيلات العملاء، ومع اتجاهات السوق، فإنها نادرًا ما تنجح اعتمادًا على مزاياها الاستراتيجية فحسب. والاستراتيجية المفروضة هي استراتيجيةٌ يمكن تنفيذها بكفاءةٍ لكن دون حماسٍ أو طاقة أو ابتكار أو فعالية. من واجب القادة أن يثيروا حماسَ الأشخاص إزاء استراتيجية النمو، وأن يقنعوهم بأن يثقوا في رؤية القيادة لمستقبل الشركة، وأن يشعروا بأنهم سيكونون قادرين على الإسهام في تحقيق تلك الرؤية. إن الأشخاص الذين يعملون في المؤسسات أصبحوا أكثر وعيًا من أي وقتٍ مضى من خلال شبكة الإنترنت، ومدة الخدمة الأقصر، والتبادُل المستمر للبريد الإلكتروني؛ وهم أيضًا أكثر تشكُّكًا وأقل ثقةً؛ ومن ثَمَّ لن يقدِّموا الالتزام، والجهد الإضافي، والتفكير الابتكاري التي يتطلَّبها النمو، إلا إذا آمنوا بالرؤية، وإنه لَمنوط بالقادة المساعَدة في خلق هذا الإيمان وهذا الالتزام.
النمو ينطوي أيضًا على المخاطرة. قليلة هي الشركات التي تنعم بميزةٍ تنافسيةٍ في القرن الحادي والعشرين نتيجةً لتقديم منتجاتٍ أفضل، أو السيطرة على السوق، أو امتلاك قدرةٍ تسعيرية، كذلك لا يوجد سوى عددٍ قليلٍ جدًّا من العناصر المؤكدة في مجال استراتيجيات التوسُّع؛ فعلى الرغم من أن الشركات قد تبدأ في الاستحواذ على شركةٍ أخرى أو تُقدِّم منتجاتٍ جديدةً بثقةٍ، فإنها أيضًا تخاطر في كل مبادَرةِ نموٍّ. قد تتجنَّب القيادةُ المحافِظة مثلَ هذه المبادرات؛ نظرًا لعلمها بأن احتمالات النجاح أقل ممَّا كانت عليه منذ عشر سنوات، وربما تفضِّل استراتيجيات تُقدِّم نموًّا أقل ومخاطَرةً أقل بكثير. إن الركودَ تهديدٌ حقيقي للشركات التي تتبنَّى هذه العقلية؛ ما يُحتِّم على القادة أن يكونوا مستعدين لدعم وتنفيذ استراتيجيات النمو التي يؤمنون بها حقًّا.
(١-٤) الحاجة إلى الابتكار
طالما كان تعريف «الإبداع» أنه نظرةٌ فريدة على أحد المواقف تُسفِر عن حلٍّ أفضل. وكان تعريف «الابتكار» أنه تطبيق هذه النظرة الفريدة على المؤسسة وتغيير طريقة أدائها. وربما كان التعريف الأول جيدًا في السنوات الماضية، لكن التعريف الأخير أصبح تبَنِّيه لزامًا على القادة في الوقت الحاضر. إن القادة المبدعين الذين يستخدمون عقولَهم ويأتون بحلولٍ أفضل هم قادة جيدون، لكنهم في الغالب يجدون لإبداعهم تأثيرًا ضئيلًا على طريقة أداء الشركة.
تعجُّ الشركات في الوقت الحاضر بأفكارٍ تقدُّميةٍ تتحطَّم في الغالب أثناء انتقالها من مرحلة التطوير إلى مرحلة التنفيذ. ولا تربو في النهاية عن شراراتِ برقٍ لامعةٍ خاطفةٍ أضاءت في الظلام؛ أيْ ببساطةٍ تفشل هذه الأفكار في تحقيق ما هو أكثر من خلْق إثارةٍ مبدئيةٍ حول منتجٍ جديدٍ واعد، أو خدمة، أو عملية، أو سياسةٍ واعدة، وتتبدَّد بعد ذلك في خضم توقُّعاتٍ غير مُحقَّقَة.
والتحدِّي اليومَ يكمن في خلق مناخٍ من الابتكار، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا اجتمعتْ قيادةٌ تُوظِّف القلب والشجاعة مع قيادةٍ تُوظِّف العقل. إن أنظمة إدارة المعرفة ليست ذات قيمةٍ كبيرةٍ إنْ لم تتضمَّن عملياتِ تبادُلٍ معرفيةً دقيقةً وعلنيةً تتجاوز الحدودَ الداخلية؛ ففي كثيرٍ من الشركات، يحتفظ الموظفون بالأفكار الجيدة لأنفسهم، ويخافون من الإعلان عن عملهم المبدع خشيةَ عدمِ تلقِّي التقدير أو العجز عن التحكُّم في التطبيق. ويظل بعض الأشخاص متردِّدين في مشاركة أفكارهم مع الآخرين في الوظائف أو المكاتب الأخرى أو في المستويات الإدارية المختلفة عن مستواهم؛ نظرًا لضعف علاقاتهم معهم أو عدم ثقتهم في حماية الآخَرين للأفكار واستخدامها بحكمة.
تبحث الشركات في الوقت الحاضر عن قادةٍ يخلقون بيئةً لا يُثبطُ فيها الخوفُ أو القلقُ الموظفين، بيئةً لا يتحمَّسون فيها لمشاركة وجهة نظرهم فحسب، بل يتقبَّلون كذلك سماعَ أفكار الآخرين وتبنِّيَها، حتى إن كانت من مصادر خارج شركاتهم. وترغب الشركات أيضًا في قادةٍ قادرين على فرض الانضباط على عملية توليد الأفكار؛ ففي كثيرٍ من الأحيان، في أثناء البحث الخاطئ عن الابتكار، يتبنَّى القادة كلَّ الأفكار الجديدة خوفًا من أن يثنيَ الرفضُ الموظفين عن المساهمة بالأفكار. أو قد يحابون الأفكار الصادرة عن أصحاب المناصب والسلطة على حساب الأفكار المولَّدة من خلال الاكتشاف المنظَّم. وتلزم الشجاعة لقتل الأفكار التي تستحق القتل، وتصعيد الأساليب الجديدة المفيدة حقًّا إلى المستوى التالي، ورفض الأخرى التي تفتقر إلى احتمالية النجاح. وبالطريقة نفسها، يحتاج القادة أيضًا إلى الشجاعة اللازمة لتحمُّل قدرٍ معقولٍ من الفشل والتعلُّم من أخطائهم؛ فبعض الأفكار الرائعة تنتهي بها الحالُ بالفشل، ولا بد أن يعلن القائد أن قدرًا معينًا من الفشل يلازم مجالَ الابتكار.
(١-٥) ارتفاع سقف التوقعات
يتوقَّع معظم الموظفين أكثر من مجرد قائدٍ أحاديِّ البُعْد. ونظرًا لأن الأشخاص العاملين في الشركات أصبحوا أكثر تعقيدًا ووعيًا بقضايا القيادة والتنمية، من خلال وسائل الإعلام التقليدية وشبكة الإنترنت وحواراتهم مع الزملاء والأصدقاء، فإن الموظفين يضعون معايير أعلى لقادتهم. منذ فترةٍ قريبةٍ لا تتجاوز عشر سنوات، كان أغلب موظفي المكاتب ذوي الياقات البيضاء خاملين إلى حدٍّ كبير؛ إذ كانوا يتوقَّعون الحصولَ على مُرتَّب معقول، والحصول على مزايا معقولة، والاحتفاظ بوظيفتهم لسنواتٍ ما داموا يقومون بالأعمال المنوط بهم إنجازها. وقليل منهم كان يتوقَّع الخضوع للتوجيه أو التطوير؛ وعدد أقل كان يتوقَّع من قادته التفهُّم، أو توظيف الحَدْس، أو بث الحيوية، أو إزالة العقبات وتسهيل تدفُّق المعلومات.
واليومَ، أصبح لدى الموظفين قدرٌ أكبر من المعلومات ويتوقَّعون أكثر من مجرد توجيهاتٍ وقرارات، وهو ما يرجع إلى حدٍّ كبير إلى شبكة الإنترنت وغيرها من وسائل التكنولوجيا. إنهم يريدون أن يعرفوا لماذا تحدث الأحداث، ويتوقَّعون الذكاء أو الكفاءة في قادتهم، ويدركون أن قرارات القيادة يمكن أن تؤثِّر مباشَرةً على الحوافز، وزيادة المرتبات، والوظيفة التي قد يشغلونها أو قد لا يشغلونها في الغد. فلقد رأَوْا مؤسساتٍ بَدَتْ لا تُقهَر تتعرَّض للفشل بسبب قِصَر نظر قادتها، أو انفصالهم عن الموظفين، أو عدم أمانتهم. ونتيجةً لذلك، فإنهم يسعَوْن للعمل مع قادةٍ يتمتَّعون بنطاقِ قدراتٍ أكبر ممَّا كان عليه الوضع في الماضي.
وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإنهم يرغبون في قادةٍ يستطيعون قيادة الشركة في بيئةٍ تتسم بالخطر والتقلب؛ فالصناعات التي كانت في السابق لا تُقهَر مثل الصناعات الدوائية، والخدمات المالية، والبضائع الاستهلاكية التي استمتعتْ بسنواتٍ من النمو والربحية، أصبحتْ فجأةً مهدَّدةً بمنافسين جدد، وتشريعاتٍ جديدة، وتقنياتٍ جديدة. أيضًا، الإرهاب والأمن والأعاصير والكوارث الطبيعية ونقص الطاقة؛ كلها عوامل تزيد التحدِّي التنافُسي الذي يواجه كلَّ الشركات. قد يحيط بنا الخوفُ من جميع الاتجاهات؛ ومن ثَمَّ يحتاج الأفراد إلى قادةٍ يستطيعون الثقةَ في قدرتهم على مساعدتهم في المُضي قدمًا. لقد أصبح الموظفون بطبيعة الحال يشعرون بأنهم معرَّضون للخطر أكثر من ذي قبلُ، ولهذا السبب يتوقَّعون أن يكون قادتهم أكثرَ من مجرد مخطِّطين استراتيجيين بارعين؛ إنهم يتوقَّعون من قادتهم أن يحموهم، ويوجِّهوهم، وأن تكون لديهم قوةُ الشخصية اللازمة لفعل الصواب.
اضف تعليق