مثل هذه اليقينيات الأيدلوجية ذات المنحى المعادي للقيم العليا والفضائل الإنسانية التي طورتها البشرية اجتماعيا وأخلاقيا عبر تاريخ من الرقي الإنساني الاجتماعي والأخلاقي إن معاداتها والعمل على تقنين مخالفاتها وتشريع ما يكون على الضد منها تسهم الى حد بعيد في إلغاء الجانب الإنساني وصياغاته في الرحمة الإنسانية...

تشكل المجتمع الأميركي بواسطة هجرات كثيرة ومتنوعة ومتأخرة زمنيا ولازالت تشكل الهجرات مصدرا مهما وأساسيا في تشكيله وإدامة هويته، وتعتبر القدرة المالية والاقتصادية التي تمتلكها أميركا هي أحد أهم عوامل إدامة الزخم في هذه الهجرات فضلا عن ظهور عامل آخر مهما هو ظاهرة اللجوء السياسي الذي تتبناه السياسات الأميركية لغرض إسقاط أو استبدال أنظمة بعينها لا تحظى برضا أميركا.

وطبيعة هكذا مجتمع تتعدد فيه الهويات والأعراق والقوميات يرافقه دائما تعدد الثقافات والتقاليد والعادات حتى يبدو وكأنه عالم مصغر للمجتمعات البشرية وهو لا شك في ذلك تعبير عن القوة الاجتماعية التي تمتلكها تلك الحضارة الأميركية، وليس ذلك إلا تعبيرا عن حقيقة تاريخية–اجتماعية هو أن الاقوياء-الأثرياء لا يخشون الاختلافات لأن مصادر القوة وقواعد الحماية الذاتية متوفرة لهؤلاء الأقوياء الأثرياء، وتلك هي الحقيقة في تفسير وشرح تمسك الأنظمة القوية ذاتيا بالديمقراطية وملحقاتها في حقوق الإنسان والمساواة والتداول السلمي للسلطة، وتعتمد هذه الإدارة الديمقراطية المتوفرة على القوة ذاتيا على فسح المجال أمام كل الثقافات حتى تبدو وكأنها لا تراهن على خطوط عامة في ثقافة معينة من أجل ترويج فكرة قبول الثقافات على اختلافها وتعددها لغرض استقطاب رضا تلك المجتمعات المهاجرة والقادمة على طول الزمن الى أميركا.

ولكن تظل الثقافة الدينية-المسيحية والاجتماعية للمهاجرين الأوائل وزعمائهم الدينين والسياسيين ممن يطلق عليهم الآباء المؤسسون هي الثقافة الأكثر تجذرا في أرض الولايات المتحدة الأميركية بعد إن أزاحت شعوب وثقافات السكان الأصليين الى الهامش واستحوذت على متون ومراكز الحياة الأميركية الجديدة.

وتقوم تلك الثقافة على أربعة أسس هي أهمية الرجل الأبيض وتفوقه الذاتي والألفية الخلاصية وهي توقعات قيام المسيح على رأس كل ألف عام والشرط التوراتي في عودة اليهود الى أرض الميعاد في فلسطين والمحافظة على نظام الأسرة، وتشكل تلك الأسس الأربعة أحد أهم مقومات نجاح الانتخابات الأميركية في جانب حملاتها الدعائية والثقافية أو التثقيفية فالمرشح الأميركي لمنصب الرئاسة لا يكاد أن يتخلى عن دعم إسرائيل بالمطلق ولكن تتفاوت المواقف بالنسبة للمرشحين حول نظام الأسرة لا سيما في ما يتعلق بمسألة الاجهاض ومسألة التحول الجنسي وقد لعبت تلك المسألتين دورا مهما في نجاح وخسارة المرشح الرئاسي الأميركي.

طبعا هذا لا يعني توقف النجاح الرئاسي الأميركي على ذلك العمود الاجتماعي أو الشرط الثقافي هذا ولكنه يضاف كعامل مساعد ذا أولوية قصوى في تسيير البرامج الانتخابية ونجاحها، وغالبا ما تعتمد البرامج الانتخابية الأميركية على الملفات الاقتصادية والصحية والتعليمية والسياسات الداخلية ولا تولي اهتماما كبيرا للسياسات الخارجية باستثناء الدعم الأميركي للكيان الإسرائيلي.

 ولكن في الانتخابات الأميركية الأخيرة بدت المسألة الاجتماعية الأسرية والأخلاقية تتصدر شروط النجاح وإمكانيات الفوز الانتخابي الأميركي في المنافسة الانتخابية بين كاميلا هاريس ودونالد ترامب بالنسبة للأميركيين المواطنين وليس المهاجرين الذين كانت لهم اسباب ودوافع أخرى في تحديد موقفهم الانتخابي، وقد جاءت تلك الحملة أيضا تحمل نوعا من التنافس الحاد بين اتجاهين سياسيين واجتماعيين انقسمت خلالهما أميركا بشكل حاد بين الاتجاه اليميني المحافظ المنغلق على التقاليد الأميركية البروتستانتية الذي يمثله خط ترامب والاتجاه اليساري المنفتح على تطورات وأفكار عالم ما بعد الحداثة الذي يدع الأشياء لا معيار لها سوى الذات الفردية التي تذكرنا بالسفسطائية الإغريقية العتيقة ويمثله خط هاريس ومن خلفها الحزب الديمقراطي.

لقد تناول عدد كبير من المحللين والمراقبين السياسيين والإعلاميين عوامل خسارة هاريس ونجاح ترامب بعد انتهاء الانتخابات وفوز ترامب بمنصب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، علما أنه لم تكن هناك مؤشرات واضحة على الفوز الجمهوري في هذه الانتخابات بسبب النشاط الدعائي المحموم لمرشحة الديمقراطي هاريس ونجاحها في الظهور الإعلامي والتنافسي رغم المدة القصيرة التي قضتها في تلك المشاركة التنافسية ولكنها استطاعت أن تحصل على نسب في استطلاعات الرأي ضمنت لها تفوقا على ترامب وقلصت نسب تفوقه على بايدن المرشح السابق للحزب الديمقراطي، كما أنها تفوقت على ترامب في المناظرة التلفزيونية التي شجعتها أكثر في التقدم نحو الفوز الرئاسي، ورغم ذلك لم يتكهن أحد من المحللين والمراقبين بفوزها مما يعني أن هناك عدم ثقة واضحة في فوزها، وشخصيا كنت أفسر ذلك بعدم وجود سابقة في تاريخ أميركا باستحواذ امرأة على منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية وهو أحد سمات الثقافة الأميركية التقليدية، لكن هناك عدد من الأسباب الرئيسية والمهمة في خسارة هاريس هذه الانتخابات الرئاسية وقد تحدث أخيرا عنها وبعد فرز النتائج وفوز ترامب عدد من المحللين والمراقبين الأميركيين، وفي هذا يقول كاتب العمود الشهير مايكل هيرش مجلة "فورين أفيرز".

(أهم هذه النقاط أن هاريس وحزبها فشلوا في استعادة ثقة الطبقة العاملة، كما فشلت في تقديم رسالة متماسكة حول كيف أنها ستكون أفضل من ترامب، بعد أن أمضت الكثير من الوقت في القول إن ترامب غير لائق للرئاسة، كما فشلت في إيجاد طريقة رشيقة سياسيا لإبعاد نفسها عن رئيسها الذي لا يحظى بشعبية)، وفي إشارة مهمة جدا الى تأثيرات الثقافات التقليدية الأميركية والمعبر عنها ثقافيا وإعلاميا بالثقافات المحافظة ذكر هيرش (لعبت القضايا الثقافية دورا أكبر بكثير مما كانت عليه منذ فترة طويلة لدرجة أنها ربما تفوقت على القضايا الاقتصادية بعبارة أخرى كان الاستيلاء على الحزب الديمقراطي من قِبل ما يُسمى بقضايا الاستيقاظ التقدمية مدمرا لحملة هاريس، خاصة أن ترامب والجمهوريين نجحوا في رسمها على أنها يسارية محضة)، وثقافة الاستيقاظ هي الثقافة التي تركّز على قضايا المتحولين جنسيا ومختلف الحريات وفق هيرش.

وهناك مسألة مهمة أخرى في أسباب خسارة هاريس هو اصطفاف الملياردير ايلون ماسك الى جانب ترامب وتخليه عن دعم وتأييد الحزب الديمقراطي ورغم القطيعة السابقة بينه وبين ترامب واتهامه بكلمات وأوصاف محرجة لترامب فقد قال عنه أنه (أكبر سنا من يكون رئيس شركة فكيف يكون رئيس الولايات المتحدة)، بينما قال عنه ترامب (إنه فوضوي) وقد كان ترامب يعارض عمل شركات ماسك في انتاج السيارات الكهربائية إلا إنه أخيرا تحول الى تأييد ترامب وتبني سياساته الثقافية المحافظة، وأسباب التحول الفاجيء ذلك هو نقد ماسك لسياسات الحزب الديمقراطي في ما أسماه هيرش "الاستيقاظ الجنسي" التي تسببت في أزمة أسرية واجهت أسرة ماسك فقد أصر ابنه على التحول الأنثوي وأثار حفيظة أبيه ماسك الذي وقف عاجزا عن ردع ابنه مما جعله يسخط على توجهات وأفكار الحزب الديمقراطي الداعم لعمليات التحول الجنسي لاسيما مرشحة الحزب هاريس، وبنوع من الثأر من سياسات هذا الحزب ومرشحته أعلن انضمامه الى ترشيح ترامب ودعم حملته الانتخابية ماليا وإعلاميا.

 لقد رأى ماسك وفق الكاتب محمد عزت (أن التحول الجنسي فيروس يتغلغل في العقل البشري ويدمره في النهاية تماما كما حدث من وجهة نظره مع ابنه الذي يعتقد أنه فقده ومن ثم فإن دونالد ترامب، والجمهوريين بشكل عام، صاروا يمثلون له الحصن ضد انتشار هذه الأفكار التي تهدد المجتمع، خاصة أن ترامب له تصريحات ومواقف عديدة معارضة بشدة للتحول الجنسي ولأفكار الهويات الجنسية).

بل الأكثر رثاثة في سياسات هاريس والتي كانت بحد ذاتها عاملا مهما وأساسيا في سقوطها الانتخابي هو تبني سياسات دعم الشاذين جنسيا وأخلاقيا والذين يطلق عليهم المثليين في سياساتها الخارجية مما يدعها تشكل خطرا اجتماعيا وثقافيا على شعوب وثقافات عانت ولازالت تعاني من آثار الهيمنة الأميركية، فقد ذكر المرشح لمنصب نائب الرئيس الأمريكي عن الحزب الديمقراطي تيم والز حاكم ولاية مينيسوتا (إن نائبة الرئيس كامالا هاريس تعتبر المسائل المتعلقة بالمثليين أولوية في السياسة الخارجية)، وذكر أيضا إبّان الحملة الانتخابية (يجب أن أخبركم أنها تعتبر مراعاة حقوق الإنسان لأنصار مجتمع المثليين حول العالم أولوية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، يجب أن نكون الدولة التي تأخذ في يدها زمام المبادرة في هذا المجال)، وقد أشار التقرير الصحفي على موقع آر تي –روسيا اليوم- (أن كامالا هاريس، تتهم منافسها في الانتخابات الرئاسية دونالد ترامب وحزبه بمحاولة تقليص حقوق مجتمع الميم، وتحت قيادة الرئيس الحالي جو بايدن دافعت هاريس عن حقوق المتحولين جنسيا، حيث ألغت الإدارة الأمريكية أمرا كان يمنعهم من الخدمة العسكرية).

ولعل الأصول التي تنحدر عنها هاريس والتي يبدو أنها لم تتمكن من خلالها تحديد هويتها الاجتماعية–الثقافية تؤثر الى حد بعيد في رؤيتها وقناعتها السياسية تجاه المسائل الإنسانية–الأخلاقية الكبرى، فقد كانت تتجنب دائما الحديث عن هويتها العرقية وتعلل ذلك بأنها تركز على القيم الشخصية مما يدعها تنغلق في فهم شخصيتها في مفهوم الذات الفردية اللامنتمية، فقد ذكر موقع أكسيوس (أن المرشحة الديمقراطية للرئاسة كامالا هاريس تتبع في حملتها الانتخابية نهجا يركز على "إبراز قيمها" الشخصية مع الابتعاد عن التطرق المباشر لهويتها العرقية أو جنسها).

 وفي دلالة واضحة على تراجع مفاهيم القيم التقليدية الاجتماعية والأخلاقية في منظومتها الفكرية والثقافية أجابت في فبراير 2019م إبان ترشحها للرئاسة بالانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي على سؤال مجلة "ذا رووت" عما إذا كانت تعتقد أن "العمل في الجنس ينبغي إلغاء تجريمه فأجابت (نعم أعتقد ذلك... يجب علينا حقا أن نفكر في أنه لا يمكننا تجريم السلوك الرضائي طالما لم يتعرض أي شخص للأذى).

 طبعا علينا التنويه أن مثل هذه اليقينيات الأيدلوجية ذات المنحى المعادي للقيم العليا والفضائل الإنسانية التي طورتها البشرية اجتماعيا وأخلاقيا عبر تاريخ من الرقي الإنساني الاجتماعي والأخلاقي إن معاداتها والعمل على تقنين مخالفاتها وتشريع ما يكون على الضد منها تسهم الى حد بعيد في إلغاء الجانب الإنساني وصياغاته في الرحمة الإنسانية مما يدع هاريس وجزبها بل وأميركا عامة في سياساتها تقف وبلا قلب رحيم وبلا عاطفة خيرة نبيلة الى جانب كيان الشر في إسرائيل في ممارساتها اللإنسانية ضد الشعب الفلسطيني مما جعل العرب والمسلمين يدلون بأصواتهم على الضد من هاريس وحزبها الديمقراطي ليشكل هذه الموقف العربي والمسلم أحد اسباب هزيمة وخسارة هاريس في الانتخابات الأميركية الأخيرة. 

مما يضعنا أمام سؤال ثقافي وأخلاقي حول خسارة كاميلا هاريس – خسارة انتخابات أم خسارة قيم؟

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2024

http://shrsc.com

اضف تعليق