القرب من الله تعالى، ودرك بقاء لا فناء فيه، وعز لا ذل معه، وقرة عين أخفيت لا يعلمها أحد. والشيطان يدعوهم من طريق العجلة إلى ملك الدنيا الفاني، لعلمه بأن ما سمى ملك الدنيا، مع أنه لا يسلم ولا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول الهموم في التدبيرات...
ومن أنواع الرذائل ولوازمها المتعلقة بالقوة الغضبية، العجلة:
وهي المعنى الراتب في القلب، الباعث على الإقدام على الأمور بأول خاطر، من دون توقف واستبطاء في أتباعها والعمل بها. وقد عرفت أنه من لوازم ضعف النفس وصغرها، وهو من الأبواب العظيمة للشيطان، قد أهلك به كثيرا من الناس. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (العجلة من الشيطان، والتأني من الله). وقد خاطب الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) بقوله: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) طه 114. وقد روي: أنه لما ولد عيسى عليه السلام أتت الشياطين إبليس، فقالت: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها. فقال: هذا حادث قد حدث، مكانكم. فطار حتى جاء خافقي الأرض، فلم يجد شيئا، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد، وإذا الملائكة قد حفت حوله، فرجع إليهم، فقال: إن نبيا قد ولد البارحة. ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها، إلا هذا، فايأسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلة والخفة.
والظواهر في ذم العجلة أكثر من أن تحصى، ولذلك أفتى بعض علماء العامة بالمنع من التعجيل لمن خاف فوت صلاة الجمعة. والسر في شدة ذمها: أن الأعمال ينبغي أن تكون بعد المعرفة والبصيرة، وهما موقوفان على التأمل والمهلة، والعجلة تمنع من ذلك، فمن يستعجل في أمر يلقي الشيطان شره عليه من حيث لا يدري. والتجربة شاهدة بأن كل أمر يصدر على العجلة يوجب الندامة والخسران، وكل ما يصدر على التأني والتثبت لا تعرض بعده ندامة، بل يكون مرضيا، وبأن كل خفيف عجول ساقط عن العيون ولا وقع له عند القلوب.
والمتأمل في الأمور يعلم أن العجلة هو السبب الأعظم لتبديل نعيم الآخرة وملك الأبد بخسائس الدنيا ومزخرفاتها. وبيان ذلك: أنه لا ريب في أن أحب اللذات وألذها للنفس هو الغلبة والاستيلاء، لأنها من صفات الربوبية التي هي مطلوبة بالطبع للنفوس المجردة والسر فيه: أن كل معلول من سنخ علته، ويناسبها في صفاتها وآثارها، وغاية ابتهاجه أن يتصف بمثل كمالاتها، ولذا قيل: كل ما يصدر عن شيء لا يمكن أن يكون من جميع الجهات هو هو، ولا أن يكون من جميع الجهات ليس هو، بل من جهة هو هو ومن جهة ليس هو. وهذا معنى كلام قدماء الحكمة: (الممكن زوج تركيبي). ولا ريب في أن جميع الموجودات معلولة للواجب سبحانه، صادرة عن محض وجوده ومترشحة عن فيضه وجوده، فهو غاية الكل والكل طالبة نحو كمالاته، إلا أن ما هو في سلسلة الصدور إليه أقرب والواسطة بينهما أقل، تكون مناسبة له أتم وشوقه إلى الاتصاف بكماله أشد. ولا ريب في أن الذوات المجردة النورية التي هي من عالم الأمر مقتبسة من مشكاة نوره، فلها غاية القرب إليه في سلسلة الصدور، فتكون شديدة الشوق إلى الإتصاف بنحو كماله. والنفس الإنسانية لكونها منها ومن عالم الأمر - كما قال الله تعالى -: (قل الروح من أمر ربي) الإسراء 85. تكون مثلها في القرب إليه تعالى أو في المناسبة له، فلها غاية الشوق في الاتصاف بصفاته وكمالاته التي من جملتها الغلبة والاستعلاء، وليس ذلك مذموما، إذ ينبغي لكل عبد أن يطلب ملكا عظيما لا آخر له، وسعادة دائمية لا نفاد لها، وبقاء لا فناء فيه، وعزا لا ذل معه، وأمنا لا خوف فيه، وغنى لا فقر معه، وكمالا لا نقصان فيه.
وهذه كلها من أوصاف الربوبية وطالبها طالب للعلو والعز والكمال لا محالة. فالمذموم من الرئاسة والاستيلاء إنما هو الغلط الذي وقع للنفس بسبب تغرير المعين المبعد عن عالم الأمر، إذ حسدها على كونها من عالم الأمر، فأضلها وأغواها من طريق العجلة، فزين في نظره الملك الفاني المشوب بأنواع الآلام، لكونه عاجلا، وصده عن الملك المخلد الدائم الذي لا يشوبه كدر ولا يقطعه قاطع، لكونه آجلا.
والمسكين المخذول ابن آدم لما خلق عجولا راغبا في العاجلة، لما جاءه المطرود من عالم الأمر، وتوسل إليه بواسطة العجلة التي في طبعه، واستغواه بالعاجلة، وأمال قلبه إلى عدم الاعتناء بالآجلة، وزين له الحاضرة، ووعده بالغرور وبالتمني على الله في باب الآخرة، فانخدع بغروره واشتغل بطلب ملك الدنيا ومزخرفاتها مع فنائها، وترك سلطنة الآخرة مع بقائها، ولم يتأمل المسكين في أن ملك الدنيا ورئاستها ليس كمالا ولا علوا واستيلاء في الحقيقة، بل هو صفة نقض يصده عن الكمال الحقيقي والرئاسة المعنوية.
مثال ذلك: أنه لا ريب في أن الحب والعشق صفة كمال، ولكن إذا وقع في موقعه، وذلك إذا كان المحبوب شريفا كاملا في ذاته وصفاته، فحب الله سبحانه أشرف الصفات الكمالية، وحب الجمادات وخسائس الحيوانات أخس الرذائل النفسية، فكل من كان جاهلا بحقائق الأمور ينخدع بغروره، ويختار الملك العاجل الفاني على السلطنة الآجلة الباقية،
وأما العالم الموفق فلا يتدلى بحبل غروره، إذ علم مداخل مكره، فأعرض عن العاجلة واختار الآجلة. ولما استطار مكر اللعين في كافة الخلق، أرسل الله إليهم الأنبياء، واشتغلوا بدعوتهم من الملك المجازي الذي لا أصل له ولا دوام أن سلم إلى الملك الحقيقي الذي لا زوال له أصلا، فنادوا فيهم: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) التوبة 38. وذموا من اختار العاجلة الفانية على الآخرة الباقية، كما قال سبحانه: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) (الدهر 27. وقال: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) القيامة 20 - 21.
فالغرض من بعثة الرسل ليس إلا دعوة الخلق إلى الملك المخلد، ليكونوا ملوكا في الآخرة بسبب القرب من الله تعالى، ودرك بقاء لا فناء فيه، وعز لا ذل معه، وقرة عين أخفيت لا يعلمها أحد. والشيطان يدعوهم من طريق العجلة إلى ملك الدنيا الفاني، لعلمه بأن ما سمى ملك الدنيا، مع أنه لا يسلم ولا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول الهموم في التدبيرات، يفوت به ملك الآخرة، إذ الدنيا والآخرة ضرتان.
بل يفوت به الملك الحاضرة الذي هو الزهد في الدنيا، إذ معناه أن يملك العبد شهوته وغضبه، فينقادان لباعث الذين وإشارة الإيمان. وهذا ملك بالاستحقاق، إذ به يصير صاحبه حرا، وباستيلاء الشهوة يصير عبدا لبطنه وفرجه وسائر أعضائه، فيكون مسخرا مثل البهيمة، مملوكا يسخره زمام الشهوة، أخذ المخنقة إلى حيث يريد ويهوى. فما أعظم اغترار الإنسان، إذ ظن أنه ينال الملك بأن يصير مملوكا، وينال الربوبية بأن يصير عبدا. ومثل هذا هل يكون إلا معكوسا في الدنيا منكوسا في الآخرة؟. فقد ظهر أن منشأ الخسران في الدنيا والآخرة هو العجلة.
والطريق في علاجها: أن يتذكر فسادها، وسوء عاقبتها، وإيجابها للخفة والمهانة عند الناس، وتأديتها إلى الندامة والخسران. ثم يتذكر شرافة الوقار الذي هو ضده، وكونه صفة الأنبياء والأخيار، فيوطن نفسه على ألا يرتكب فعلا إلا بعد التأمل والمهلة، ولا يترك الطمأنينة والسكون باطنا وظاهرا في جميع أفعاله وسكناته، فإذا فعل ذلك مدة، ولو بالتكلف والتعمل، يصير ذلك عادة له، فتزول عنه هذه الصفة، وتحدث صفة الوقار والسكينة.
الأناة والتوقف والوقار والسكينة
ضد العجلة (الأناة)، وهو المعنى الراتب في القلب، الباعث على الاحتياط في الأمور والنظر فيها، والتأني في أتباعها والعمل بها. ثم (التوقف) قريب من التأني والأناة، والفرق بينهما: أن التوقف هو السكون قبل الدخول في الأمور حتى يستبين له رشدها، والتأني سكون وطمأنينة بعد الدخول فيها، حتى يؤدي لكل جزء منها حقه، وضد التوقف والتعسف.
و(الوقار) يتناول الأناة والتوقف كليهما، فهو طمأنينة النفس وسكونها في الأقوال والأفعال والحركات قبل الدخول فيها وبعده. وهو من نتائج قوة النفس وكبرها. وما قل من الفضائل النفسانية أن يبلغ مرتبته في الشرافة، ولذا يمدح به الأنبياء والأصفياء، وورد في الأخبار: إن المؤمن متصف به البتة. فينبغي لكل مؤمن أن يتكلف آثاره في الحركات والأفعال، حتى يصير بالتدريج ملكة، وتكلف الطمأنينة في الأفعال والحركات قبل أن تصير ملكة يختص باسم الوقار، وإذا صارت ملكة سميت سكينة، إذ هي طمأنينة الباطن، والوقار اطمئنان الظاهر.
اضف تعليق