الكتاب لم يعد خير جليس، ومن ينجوا من الموت في غيابت المعارض في الموسم الحالي، فقد يكون الضحية الاكيدة في المواسم القادمة، وتبقى رصاصات الإهمال والجهل المجتمعي تصيب العنوانين وتحولها الى مِدادٍ لأكبر ملحمة شعبية لحرق النتاجات الأدبية التي أصبحت المعارض الأخيرة خير شاهد عليها...
قلة الإقبال على شراء الكتب في العراق يجعلك امام مقاربة كبيرة مع المشاهد المأساوية التي ظهرت في البلاد بعد تغيير النظام، حيث عثرت الجماهير على ما يسمى بالمقابر الجماعية التي تعني دفن الأجساد مع بعضها بشكل جماعي، فاليوم ربما تتكرر هذه الحالة مع النتاجات الأدبية، وربما يكون العراق ومع كثرة معارض الكتاب بلد المقابر الأدبية.
المتجول داخل المعارض الأدبية التي تقام في العاصمة بغداد والنجف وكربلاء، ذهابا الى شمال البلاد حيث معرض أربيل الدولي للكتاب، يلاحظ شحة واضحة في الشراء، وكأن الجميع خارج في نزهة للاطلاع فقط، وبذلك تتحول تلك المعارض الى مقابر تشيع لها المئات من الكتب سنويا حتى تحولت البلاد الى مقبرة كبيرة لوأد الثقافة.
شيء محزن ان قبور الادبيات محفورة وجاهزة في بلد كان محط العلم والعلماء، في بلد تفجرت على يده الحضارة بحدود 5000 سنة قبل الميلاد وانتهى بالحقبة الزمنية التي ابتدع فيها الإنسان العراقي الكتابة لأول مرة في تاريخ الإنسانية في الربع الأخير من الألف الرابع قبل الميلاد.
نعم هكذا كانت بلاد الرافدين التي سارت بخطى ثابتة صوب الرقي والتقدم الكبيرين، حيث ساهمت تلك البلاد باختراع وتطور اغلب العلوم الإنسانية، بلد له الفضل على سائر البشرية، وضع المسلات القانونية وحل القوانين الرياضية، مساهمته في الكيمياء لا يمكن ان تحجب وفضله على علم الفيزياء لا ينكر.
اما في العقود الأخيرة أصبحنا كل يوم نشيع مشروع ثقافي الى مثواه الأخير، فلم يعد بلدنا موطنا للعلوم، ولم نر سيابا جديدا ولا نازك للملائكة نأنس بشعرهم وتطيب النفوس لسماعهم، وقد تكون هذه هي المشكلة العصرية التي تعاني منها جميع المجتمعات الإنسانية، فالانحسار الذي أصاب القراءة غريب ولا يجد أحد تفسيرا له.
صلينا صلاة الغائب على اغلب المشروعات الأدبية، وذاتهم المصلون عادوا لاحتساء القهوة امام شاشات التلفاز والتصفح على شاشات الالواح الذكية والهواتف النقالة، ولم تعد الجريدة باللونين الأسود والأبيض هي من تمكث طويلا بين يدي الفرد، وكأنها مرافقه الوحيد في زمن مليء بالتخلي.
لا نضع اللوم وحده على الافراد في الانحسار الثقافي الكبير الذي تشهده جميع المدن العراقية الا ما رحم ربي، فلا يوج مثلا في أي مدينة بيت ثقافي او مكان يحتضن النشاطات الثقافية، كتوقيع كتاب او رواية، او ابلاغ الجماهير بصدور العدد الجديد من مجلتهم او جريدتهم المفضلة.
غياب كل ذلك أدى ومن المتوقع ان يؤدي الى مزيد من التراجع الثقافي والمعرفي لدى شريحة عريضة من الجمهور الذي انشغل بشكل او بآخر بالأوضاع المعيشية والمشاكل الحياتية الأخرى، وقد يكون العراق من أكثر البلدان التي عانت ولا تزال تعاني من الاضطرابات الداخلية وعدم الاستقرار على جميع المستويات.
الحروب اخذت مآخذها والجوع والحرمان رسم بطريقته الخاصة ملامح الافراد الذين يخرجون أيام معدودات لاماكن العمل (المسطر)، ويعودون بخفي حنين، كل ذلك جعل مجرد الحديث في الثقافة واقتناء الكتب نوع من أنواع الترف الإنساني.
أضف الى ما تقدم وقعت إدارات جميع المعارض بخطأ جسيم لا نجد لغاية الآن إجابة مقنعه له، الخطأ يتمثل بتنظيم ثلاثة معارض في وقت واحد، ففي النجف الاشرف فتح معرض الكتاب ذراعيه لاستقبال الزائرين، وفي كربلاء امتزجت مراسم الزيارة للأضرحة المقدسة مع التجول في أروقة معرضها الدولي للكتاب، اما معرض بغداد فهو الآخر يستقبل الضيوف وكأن حملته الغيرة من معرضي النجف وكربلاء.
التوقيتات من اهم الأشياء التي يجب مراعاتها في مثل هذه الفعاليات الثقافية، ويجب ان يضع في الحسبان الحالة الاقتصادية للفرد ومدى قدرته الشرائية لاسيما وان المعارض أقيمت في أسبوع او أسبوعين، فهل يمكن لقارئ ان يذهب الى بغداد يوم الجمعة ويتمشى السبت في كربلاء وينهي ظهيرة الاحد في النجف؟
ان حصل فهو شيء مرهق بالنسبة للقارئ او الفرد المتمكن، فما بالك بمن لا يملك حتى أجور التنقل بين المحافظات، إذا أقيمت المعارض في أيام متقاربة!
الكتاب لم يعد خير جليس، ومن ينجوا من الموت في غيابت المعارض في الموسم الحالي، فقد يكون الضحية الاكيدة في المواسم القادمة، وتبقى رصاصات الإهمال والجهل المجتمعي تصيب العنوانين وتحولها الى مِدادٍ لأكبر ملحمة شعبية لحرق النتاجات الأدبية التي أصبحت المعارض الأخيرة خير شاهد عليها.
اضف تعليق