قد ينظر السياسيون إلى أن الشعب الفنان يهدد سلطتهم، لكن هذا ليس بصحيح، لأن الشعب الفنان سوف يكون أكثر تحضّرا، وسوف ينقل هذا التحضّر في القول والفكر والسلوك إلى سياسييه، فيصبح السياسي متحضرا، وهنا يكون الفن قد بلغ أقصى مدياته في التأثير والتطوير والتغيير، فيتحول الإنسان من نزعته العدوانية إلى النزعة المتحضرة...
هناك من ينظر إلى الإبداع ومختلف الفنون بعين واحدة، وهناك من يستصغر هذه المفردات (إبداع، فكر، فنون)، سواء كان الأمر يبحث في معناها أو في مضمونها، وينكر بعضهم دور الفنون بشكل عام في تهذيب نوازع الإنسان المختلفة، حيث يسعى الإبداع وعديد من الفنون إلى جعل الإنسان أكثر جمالا ولطفا وتهذيبا وإنسانية وحتى إنتاجا.
ما هو الإبداع وما هي الفنون إذن؟، إنها ببساطة حقيقة الجمال، وحقيقة اللفظ المهذَّب اللطيف، وحقيقة الأفعال التي لا تقسو على الكائنات بأنواعها، وأولها وقد يكون أهمها الإنسان، فهل سمعتم مثلا أن مبدعا مفكرا أو فنانا حقيقيا صادقا ومعتدلا، أساء لآخرين، وانتقص منهم أو ألحق بهم الأذى النفسي والمعنوي والمادي واللفظي؟
إذا حدث ذلك من أي فنان أو من أي فرد يحسب نفسه على الإبداع والمبدعين، فهو ليس مبدعا ولا فنانا حقيقيا وإنما يكون قد حشر نفسه في هذا الصنف من التسميات السامية، التي لابد لمعانيها وأفعالها أن تنطبق واقعيا وفعليا، وتتجسد في شخصيته من خلال ما يخرج منه من أفعال وأقوال وتعاملات مع الآخرين، وأهمها فكره، والقيم التي يؤمن بها.
الإبداع يبني الشخصية المثمرة
لهذا السبب فإن الشعب المبدع والفنان، هو شعب مهذَّب متحضّر لطيف وإنساني، وهو شعب غير مسيء لا لنفسه، ولا لأفراده، ولا لغيره من الشعوب، بل الفائدة الأعظم تعود للشعب المبدع والفنان الملهم، وهو الذي يستفيد من هذه الصفة أكثر من غيره بكثير، فالفنانون والمبدعون هم أول من يستفيدوا من فنهم، بحيث يشذبون شخصياتهم وأفكارهم وسلوكياتهم، وهم أول من يقطف ثمار الفن والإبداع لصالحه، ومن ثم لصالح الآخرين.
كما أن الإبداع والفن يستحسن أن يتسم بالالتزام والقيم التي لا تسيء للناس، لا لأديانهم ولا لأعراقهم ولا لمعتقداتهم، ولا لألوانهم ولا للمبادئ التي يؤمنون بها وتترتب حياتهم استنادا لها.
هذه حقائق وليست كلمات إنشائية ندرجها هنا لنملأ الورقة بالكلمات، إنها حقائق أثبتها تاريخ الإبداع والفنون، وتاريخ الأمم والشعوب التي اثبتت بأنها الأكثر تحضّرا والأكثر تشبثا بالفنون الإنسانية كونها عاشت في واحة من الهدوء والاعتدال والجمال واللطف، لهذا نتساءل ومعنا آخرون، لماذا تُهمَل الفنون في بلادنا مع أهميتها الكبيرة في تهذيب الناس وتشذيبهم مما يلتصق بهم من عنف وجفاء وقسوة وتطرف وغياب للاعتدال؟
قد يعترض بعضهم ويقول: وهل نحن نعاني من صفة القسوة والجفاء وقلة السلوك والتصرف الدبلوماسي الذي يراعي مشاعر الآخرين وأذواقهم، هل أننا خشنون في تعاملاتنا اليومية وألفاظنا وأفكارنا، وأننا لا نهتم باللطف في الكلام والتعامل؟
الصحوة الإبداعية السياسية المزدوجة
الجواب يكمن في أعماق كل إنسان، وهو يؤمن بلا أدنى تردّد بأنه إذا فقد حسه الإنساني فهو متوحش، وفقدان الحس الإنساني يحدث بسبب فقدان الإنسان إلى لطف الاعتدال والدبلوماسية في التعامل ومقاطعة الفنون والإبداع والعمق، وعدم القدرة على تلطيف النفس وتهدئة القلب وصقل الكلمات، وتجميل الأقوال والأفعال تجاه نفسه أولا، وتجاه الآخرين.
لماذا نهمل الإبداع والفنون إذن؟، وهل يصح هذا الإهمال في بلد يُعَدّ من الحواضن الأولى تاريخيا للإبداعات المختلفة والأفكار النابضة بالنجاح؟، مطلوب صحوة إبداعية سياسية مزدوجة، ولكن لماذا الربط بين الإبداع والسياسة؟، الجواب لأن الاهتمام بالإبداع والفنون ودعمها (للأسف) مرتبط بقرار سياسي، ونعني بذلك اهتمام القادة السياسيين بدعم الفن والفنانين، وهذا غير حاصل في بلادنا، أليس كذلك؟
كما أننا بشكل عام نعيش في بيئة لا تشجع الإبداع ولا المبدعين، ليس في الكتابة وحدها أو أنواع الفنون، بل حتى الإبداع في الفكر أخذ يتراجع على الرغم من أنه العمود الفقري لصناعة حياة أفضل وإنسان متنور معتدل بعيد عن التطرف، لذلك لابد من إعادة النظر في هذا الإهمال المقصود أو غير المقصود للإبداع والفكر المعتدل والفنون أيضا، لأننا بحاجة قصوى للهدوء في اللفظ والتعامل، والاعتدال والدبلوماسية في كل شيء.
قد ينظر السياسيون إلى أن الشعب الفنان يهدد سلطتهم، لكن هذا ليس بصحيح، لأن الشعب الفنان سوف يكون أكثر تحضّرا، وسوف ينقل هذا التحضّر في القول والفكر والسلوك إلى سياسييه، فيصبح السياسي متحضرا، وهنا يكون الفن قد بلغ أقصى مدياته في التأثير والتطوير والتغيير، فيتحول الإنسان من نزعته العدوانية إلى النزعة المتحضرة التي تنقل الناس من شعوب مضطربة خائفة، إلى شعوب مكتنزة واثقة ومدعومة بالفنون العظيمة.
اضف تعليق