ان العراق يمتلك جميع مقومات وعوامل الجذب السياحي، وهو ما لايمتلكه غيره من البلدان، والمتمثلة بتنوعه الجغرافي والبيئي، وبمواقعه الآثارية المنشرة في كافة أرجاء البلاد، بالإضافة الى السياحة الدينية والترفيهية، وهو بذلك يمتلك قطاعاً سياحياً متكاملاً، لهذا يجب التركيز على الخطط الستراتيجية، وبناء منظومة سياحية متكاملة...
قبل أن تكون السياحة بمفهومها الشمولي رافد أساسي من روافد الأنشطة الاقتصادية للكثير من دول العالم، فهي نشاط ثقافي في الدرجة الأولى، وتعتبر السياحة الأثرية هي الأخرى شكل من أشكال السياحة الثقافية. وهنا نحاول التركيز على السياحة كمفهوم ثقافي قبل ان تكون مورد مادي وترفيهي، بكل ما تعنيه الثقافة من شمولية وأسس معرفية.
وضمن هذا المفهوم يدخل موضوع الآثار كعلم (الأركيولوجيا) مختص بدراسة وتوثيق البقايا المادية التي خلفها الأنسان ضمن مفهوم السياحة الثقافية. وكان الاهتمام بموضوع الآثار قد بدأ مبكراً في هذه البلاد، فمنذ بداية القرن التاسع عشر جرت أولى عمليات البحث عن الآثار العراقية من قبل مؤسسات وجمعيات عالمية، قبل أن تبدأ مرحلة القرن العشرين الميلادي التي نشطت بها البعثات الأجنبية العاملة في العراق، حيث اتسمت أعمالها الآثارية بالتنظيم والدقة مقارنةً مع الأعمال السابقة، الأمر الذي مهد لنشوء علم الآثار في العراق.
إن التغير الذي حصل على المستوى السياسي في العراق بعد إعلان الحكم الوطني فيه عام 1921م، والذي ألقى بظلاله على الجانب الآثاري في البلد، فسرعان ما تشكلت وعلى مراحل متطورة، أول دائرة وطنية حكومية تعنى بشؤون الآثار، وأول قانون خاص بالآثار، عَقب ذلك تأسيس قسم أكاديمي يُعّنىَ بتدريس علم الآثار، الأمر الذي مهد للأيدي والخبرات الوطنية مهمة النهوض والارتقاء بالجانب الآثاري والمضي بمسيرة تطويره في العراق، حيث تم تأسيس قسم الآثار في كلية الآدب في عام 1951 أي قبل تأسيس جامعة بغداد في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وكان لأساتذة وطلبة هذا القسم الدور الابرز في الكشف عن أهم المواقع الأثرية بالأشتراك مع البعثات العالمية.
أردنا من خلال هذا الاستهلال التعريفي والتاريخي للسياحة والآثار تسليط الضوء على واقع السياحة في البلاد، وحالة التخلف والاهمال الذي يشهده هذ القطاع الحيوي، وكذلك غياب مفهوم الثقافة السياحية لدى جهات متعددة بما فيهم الجهة المعنية بإدارة هذا الملف.
وهنا أستشهد بموقف تعرض له أحد الأصدقاء أثناء زيارته مع عائلته للمواقع الأثرية في مدينة الناصرية، وبالتحديد من قبل السيطرة التي تقع عند مدخل المدينة، عندما أستوقفهم أحد المنتسبين لهذه السيطرة ليسألهم السؤال التقليدي المثوارث عبر الأجيال، والذي أصبح بمثابة ماركة مسجلة وهو ( منين جاي وين رايح) وعندما أخبره بأنه جاء من أحدى المحافظات قاصداً مدينة أور وبعض المواقع الأثرية في المدينة، أجابه هذا المنتسب بكل برود (وين رايح هنَّ أحجارات مطشرة محد أيكلبهن) ، ربما يكون هذه الموقف شخصي من قبل أنسان بسيط ، لكن الأدهى والأمر ان بعض الجهات وفي مواقع مهمة في مؤسسات الدولة من يعتقد بمفهوم ( الحجارات المطشرة) ويتعامل مع آثار العراق بكل ما تمثله من عمق تاريخي، وأرث حضاري بهذه النظرة السطحية.
كما ان هناك جهات تحاول إيجاد تصادم بين النشاط الثقافي للسياحة وبين المعتقدات الدينية، من خلال خلط مفاهيمي وتأويل خاطئ لبعض النصوص الدينية، وهي تحث على عدم الاهتمام بالآثار ووجوب الابتعاد عنها أو التباكي عليها، مع ان هناك الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة تأمر الناس بالسير والسياحة في الأرض، والتفكر في آثار الماضين من الأمم الغابرة، المدفونة تحت التراب أو الباقية على ظهر الأرض ، وأن يتخذوا من كلّ ذلك العظة والعبرة، بالإضافة الى القصص والروايات التاريخية التي وردت أيضاً في القرآن الكريم وهي تتحدث عن الأقوام السابقة، وعن مواقع المدن، ومن سكنها وما حلّ بها، كما توجد أكثر من دعوة الى ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي باعتبار ذلك أمر ضروري لفهم الحقائق والوقائع ، ناهيك عن أن الآثار المتبقية من الأُمم والعهود السابقة هي بمثابة وثائق تاريخية حية، و تعطينا من الحقائق والأسرار أكثر ممّا يعطينا التاريخ المدون. كما وقف كبار الشعراء على الأطلال والآثار، واستوحوا منها الدروس والعبر من خلال قصائدهم الطللية، ولقد لخص أحدهم هذه الحقيقة بقوله (ان آثارنا تدل علينا ــــ فانظروا بعدنا إلى الآثارِ).
ان القصد من طرح هذه الحقائق التاريخية هو للتأكيد على أهمية الآثار والسياحة عموماً على مكانة الأمم ثقافياً، واقتصاديا، واجتماعياً، بعد أن باتت الأنشطة السياحية ليست مجرد أنشطة للترويح وأنما صناعة قائمة بذاتها ومورداً مهماً في تحقيق التنمية المستدامة للكثير من الدول المتقدمة والنامية.
وقد أُتيحث أكثر من فرصة تاريخية للجهات المعنية للترويج للمواقع السياحية والأثرية في البلاد، منها ما تمثل برحلة حَج بابا الفاتيكان للعراق، وأقامته للقداس البابوي في مدينة أور التاريخية، حيث لم يتم استغلال هذا الحدث التاريخي بالشكل الأمثل، مثلما تم تفويت فرصة أدراج الأهوار العراقية ضمن لائحة التراث العالمي. ولهذا علينا تقييم هذه الأخفاقات قبل القيام بأي خطوة لاحقة، والأستفادة من تجارب الأخرين في هذا المجال، لا سيما التجربة المصرية، في مسألة الترويج والتسويق لحضارتهم ومواقعهم الآثرية والسياحية عبر وسائل كثيرة ومتعددة ، والكيفية التي يتم فيها جذب السواح من كافة أصقاع العالم، حتى باتت واردات السياحة في مصر تفوق واردات قناة السويس بأضعاف، مع العلم أن الحضارة العراقية هي أقدم عصراً، وأكثر عمقاً وأتساعاً من الحضارة المصرية، لا أقول ذلك بدافع الأنحياز العاطفي، وأنما الحقائق التاريخية والدراسات الموضوعية تشهد بذلك، وهذا ليس أنتقاصاً من عظمة الحضارة المصرية ، فهي توأم الحضارة العراقية في الشرق الأدنى القديم.
مانريد قوله، أن العراق يمتلك جميع مقومات وعوامل الجذب السياحي، وهو ما لايمتلكه غيره من البلدان، والمتمثلة بتنوعه الجغرافي والبيئي، وبمواقعه الآثارية المنشرة في كافة أرجاء البلاد، بالإضافة الى السياحة الدينية والترفيهية، وهو بذلك يمتلك قطاعاً سياحياً متكاملاً، لهذا يجب التركيز على الخطط الستراتيجية، وبناء منظومة سياحية متكاملة، للنهوض بهذا القطاع الحيوي، ونعتقد ان هذا لن يتحقق ألا بتحويل مفهوم السياحة الى ثقافة مجتمعية، والى مقاربة معرفية، عندها يختفي مفهوم (الحجارات المطشرة) من أذهان الكثير.
اضف تعليق