من الأمور التي تم رصدها في عالم الطباعة، كثرة دور النشر في العراق وفي سواه من البلدان القريبة منه، ومع هذه الكثرة تحوّل هدف الطباعة من نشر الفكر والآداب كهدف أول لتلك الدور، إلى هدف ربحي أو مادي بحت، فصار الهمّ الأول لأصحاب دور النشر ليس الفكر الجيد...
في عالم اليوم الإلكتروني، أخذت الكثير من المجلّات والدوريّات والصحف المهمة تنقرض تباعا من الناحية الورقية، ومعظمها أما تحوّل من الطباعة الورقية إلى الإلكترونية، أو غادر هذه المهنة التي كانت فيما سبق من علامات التمدّن والتقدم والافتخار.
يتذكر المهتمون بالمطبوعات، سواء كانوا مفكرين أو أدباء أو مثقفين، المقولة ذائعة الصيت: (مصر تكتب، وبيروت تطبع، والعراق يقرأ)، وهي تدل على أهمية ثلاث حقائق في حياة الناس، الكتابة، الطباعة، والقراءة، لكن في عالم اليوم لم يعد لهذه المقولة وجودا، لأسباب عديدة، أولها كما يرى المعنيون أن الطباعة الورقية تضاءلت إلى أضعاف ما كانت عليه في السابق، وأن هيمنة العرض والتوصيل الإلكتروني قلبت المعادلة والأفضلية بين المطبوعات الورقية والكتابات عبر المواقع الإلكترونية.
مع هذا الواقع الكتابي الذي فرض نفسه في عالم الطباعة، لا يزال للمطبوع الورقي تأثيره وحضوره، لاسيما لدى المؤلفين والكتّاب في مختلف فنون الكتابة، فمعارض الكتب العالمية والعربية لا تزال تُقام سنويا وبشكل دوري، ولا تزال هناك أعداد كبيرة تزور هذه المعارض، وأيضا لا تزال نسبة اقتناء المطبوع الورقي كبيرة، وهناك من يتباهى بشرائه كتبا ورقية أكثر، وبعضهم يتفاخر بأنه اشترى الكتب الأغلى.
ولعل الاهتمام بالمكتبات البيتية الخاصة، وعرضها على الآخرين في مواقع التواصل وسواها، يمثل دليلا واضحا على حضور المطبوع الورقي بين الناس، كما أن المؤلفين يطمحون ويسعون دائما إلى تحويل مؤلَّفاتهم إلى ورقية، ويتباهون بذلك على الرغم من أنهم يمتلكون طبعات إلكترونية، ولا تزال دور الطباعة منتشرة في بلدان العالم وفي الكثير من العواصم والمدن العربية وبعضها لا يزال يحتفظ بضوابط نشر صارمة.
الربح المادي على حساب الأفكار
من الأمور التي تم رصدها في عالم الطباعة، كثرة دور النشر في العراق وفي سواه من البلدان القريبة منه، ومع هذه الكثرة تحوّل هدف الطباعة من نشر الفكر والآداب كهدف أول لتلك الدور، إلى هدف ربحي أو مادي بحت، فصار الهمّ الأول لأصحاب دور النشر ليس الفكر الجيد، ولا الآداب والفلسفات المؤثرة، وإنما تصدّر هدفهم المادي الربحي جميع الأهداف الأخرى، ولا مغالاة في رأينا هذا، لأننا نمتلك الأدلة التي تثبت ذلك.
هنا لابد من القول أن كثرة دور النشر لاسيما الأهلية منها ليس ظاهرة سيئة، على العكس من ذلك، فهذا هو المطلوب لكسر الحصار الذي غالبا ما تفرضه المطابع الرسمية أو الحكومية على حرية الفكر والرأي، فالأنظمة السياسية وحكوماتها محددة بضوابط وتابوات لا يجوز عبورها، خاصة تلك التي تهدد عروشها وامتيازاتها.
الأنظمة الدكتاتورية على مر الزمن، تمتلك ما يسمى بمقص الرقيب، وهو يمتلك صلاحيات مطلقة في قص النصوص من جذورها ورفضها بشكل تام، أو العبث بأفكارها كما يشاء، أو قص الأجنحة التي تحلّق بالنص خارج السرب، أو خارج التوجيهات الحكومية السلطوية.
لهذا من الأفضل أن تتوافر دور نشر أهلية تابعة للقطاع الخاص، كي تخرج نصوص الكتاب والمفكرين والفلاسفة كما هي، كاملة غير منقوصة، كذلك من الناحية الاقتصادية هناك أفضلية تُمنَح لهذا النوع من دور النشر، من خلال مشاركة الأثرياء والقطاع الخاص في تطوير قطاع الطباعة بشكل طبيعي ودونما ضغوط أو تدخلات فكرية وأيديولوجية، وفي هذه الحالة تتطور دور الطباعة وتدخل سوق المنافسة وتتقن صناعة ما يسمى بـ (النجم).
كيف تحتفظ دور النشر بمكانتها؟
ليس هنالك خطأ في هذا المسار، إذا تم وفق ضوابط يلتزم بها مالكو دور النشر، لكن الذي يحدث اليوم في دور النشر يشبه الفوضى، فضلا عن التركيز المفرط على الأرباح المادية، وإهمال الجوانب الأخرى للمطبوعات، خاصة المضمون الفكري والإبداعي للكتاب، فهناك دور نشر تشبه الدكاكين التي تبيع كل شيء، الصالح والطالح، ولا يعنيها المضمون أو الأفكار التي يطرحها المضمون، المهم لدى أصحابها أو مالكيها الأرباح التي يجنيها.
هذه النقطة أو هذا الخلل بالذات أطاح بتلك القيمة الكبيرة التي كانت تمتلكها دار النشر والطباعة، وغيّر نظرة الناس إليها، صحيح هناك دور نشر لا تزال تحافظ على مكانتها، ولا تنشر لكل من هبّ ودب، وتضع ضوابط الجودة المطلوبة ولا تتهاون في هذا الجانب، لكنها قليلة جدا، أما دور النشر المتهافتة على الربح المادي دونما مراعاة للمضامين وأصالة الإبداع، فإنها تشكل الأغلبية الساحقة، وهذا أحد أخطر عيوب دور النشر والطباعة.
ما هو المطلوب لتصحيح هذا الاختلال الواضح؟، الجواب ليس عسيرا، الكل يعرف الحل المناسب، ولكن المسألة تتعلق بالالتزام والتطبيق، يجب أن توضع ضوابط نشر على المطبوعات، ليس بمعنى الرقيب والمقص، ولكن لا يصح طبع الرثّ والمسيء بأي حال، لأن القضية تتعلق بقيمة الفكر وقيمة الكتاب وقيمة الكاتب أو المؤلِّف أيضا.
الربحية المادية هدف مشروع، بل ولا غنى عنه لتطوير قطاع الطباعة والنشر الأهلي، ومن الأفضل أن نستفيد من تجارب الغرب في صناعة الكتاب والكتّاب النجوم، حيث تُباع ملايين النسخ الورقية أو الإلكترونية للروايات والمؤلَّفات الإبداعية المتميزة، ولكن وضع الضوابط التي تحفظ قيمة الفكر والأدب والفلسفة والأفكار، أمر يجب التمسك به، وعدم التنازل عنه لتحقيق أرباح غير صحيحة لمالكي دور الطباعة والنشر.
اضف تعليق