تداولت الثقافة والأدب العراقي مفهوم الجيل، ووضع بعض النقاد ملامح وسمات معينة لبعض الاجيال، في الشعر والقصة والتشكيل وسوى ذلك، فصارت هذه القضية أمر شبه متفق عليه، أي أن هناك من يعترض على هذا المفهوم ولا يعترف به، ويرى أن الادب ومنه الشعر غير خاضع لزمن محدد، ويأتي بالأدلة على ذلك عندما يؤكد مثلا أن هناك نماذج في الادب تفرض حضورها في كل العصور، ومع ذلك كانت اشكالية الاجيال مادة خصبة لبعض البحوث والكتابات النقدية التي تناولت الأدب العرقي (شعرا أو قصة أو رواية)، فضلا عن المنجز النقدي نفسه، بالاضافة الى التشكيليين، فهناك جيل الرواد، وسواه من الاجيال الاخرى.
وقد برز من أجيال الشعر في العراق، الجيل الستيني، وأثار جدلا واسعا حول تميزه عن الاجيال الاخرى، في التحديث والتمرد على السائد في الشكل والمحتوى وما شابه، واعترف معظم النقاد والمثقفين بأفضلية هذا الجيل على سواه من الاجيال الاخرى السابقة او اللاحقة، واشتعلت منافسات معروفة بين أجيال لاحقة، كالجيلين الثمانيني والتسعيني، وقد صارت لحالة التنافس وأحيانا (الصراع) مشهدا واضحا لهذه الاجيال، وأصدرت بعضها بيانات ادبية (شعرية، قصصية)، كلها تحاول ان تسبق الآخرين في التميز الفني، ولعلنا نتفق على أن هذه البيانات وما يتعلق بها، تأتي محاكاة وتشبّها بالمدارس الغربية التي سبقتنا في هذا المجال، فكانت تظهر بيانات وتولد جماعات كلها او معظمها، ينحو الى التمرد على الأنماط والأشكال والمضامين الادبية السائدة.
في العراق ظهرت حالة الصراع بين الاجيال، وأحيانا كانت تخف لتتحول الى حالة من التنافس الجاد، وقلما كانت تصل الى مستوى التعاون بين الاجيال، وصولا الى الراهن الثقافي، إذ يمكن لنا أن نلاحظ طبيعة العلاقات القائمة بين الاجيال السابقة واللاحقة، وعندما نحاول استكناه وفهم طبيعة تلك العلاقات الفعلية والمعرفية، فإننا لا شك سنلاحظ مثل هذه الافرازات التي تم ذكرها، فهناك بعض الاجيال تدّعي الأسبقية في الابداع، أو الاكتشاف والتطوير في الاجناس الادبية قبل سواها، وغالبا ما تستكثر على الاخرين منجزا ادبيا او ثقافيا مرموقا، يحدث هذا حتى على مستوى الافراد، فبعضهم قد يلغي الآخر، أو التقليل من حضوره وتأثيره وفاعليته، لاسيما اذا كان من جيل الشباب!.
ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان أغلب الذين يعانون من قضية الصراع بين الاجيال، هم النسغ الجديد، حيث يواجه الادباء والمثقفون الشباب مشكلات كثيرة، بعضها تعود الى وضع الكبار في التجربة معوقات تستهدف ما يقدمه الشباب من نتاجات ابداعية ثقافية، ربما يكون لها صدى وتأثيرا في حالة فسح المجال لها، بيد أنها لا تكون محط ترحيب المثقفين (القدماء)، فتحدث في مثل هذه الحالات قطيعة بين الجيلين (جيل الشباب ومن سبقهم)، ولعل الواقع يؤكد مثل هذه الصراعات الغير سليمة، فهناك (من المثقفين الاكبر في التجربة) يضعون المعوقات فعلا امام الشباب، ومثل هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مبدعين مثقفين فعلا، فالمبدع المثقف الراسخ لا يمكن أن يقف بوجه الشباب الجدد لسبب بسيط، أنه ينظر إليهم امتدادا له، أما الذين يحاربون النسغ الجديد، فهؤلاء مشكوك في ابداعهم ولا يمكن أن نعدّهم من المثقفين.
من جانب آخر لا يمكن أن نبرّئ الجيل الجديد من بعض الاشكاليات التي قد يثيرها مع الاجيال السابقة، من باب إثبات الوجود أو تحقيق الذات وما شابه، واذا كانت قضية البحث عن الانتماء والرسوخ واردة ومشروعة للجيل الشاب، ومن حقه أن يسعى في هذا الاتجاه، فإن المشكلة سوف تنعكس من الاسلوب الذي يستخدمه هؤلاء الشباب، إذ ربما ينطوي أحيانا على اعلان الصراع بدلا من التنافس، وهو أمر لا ينفع الثقافة والأدب بشيء، فالسبل المتاحة للتطور لن يكون ميدانها الصراع وإنما التنافس وفق ضوابط تحفظ للآخر مكانته ومنجزه، أما عندما يكون الاستفزاز والعجالة والتسرع والتهوّر احيانا طريقا لاثبات الذات الشابّة، فهذا الامر لا يمكن أن يلقى ترحيبا أو قبولا من الوسط الثقافي الادبي، وحتما ستكون هناك حالة صراع مستدامة بين السابق واللاحق، وهي لا تخدم أحدا بطبيعة الحال.
الخلاصة ليس هناك مفر من قبول العمل الجماعي وتشجيعه، لاسيما في الثقافة والفنون، ولابد من اعتماد التعاون والتنافس بين جميع الاجيال تحقيقا للفائدة الأكبر، حتى التنافس ينبغي أن يخضع للقيم والضوابط المتفق عليها، والتي تحكم وتنظّم العلاقات الثقافية المتوازنة بين الاجيال بعضها مع بعض، وبين الافراد وبعضهم على حد سواء، لأن الثقافة ليس امامها - حتى تكون سليمة ونافعة - سوى طريق التعامل السليم الذي يكمن في التنافس المحفِّز للجميع، بالاضافة الى التعاون المتبادَل، فهو اسلوب متوازن يرتقي بجميع الاجيال في وقت واحد، لذلك حتى ننهض بالثقافة والادب وحتى الفنون، ينبغي أن نتفق على التعاون والتنافس منهجا في علاقاتنا وأن نبعد الصراع عن طريقنا، تحقيقا للأهداف النبيلة للمنجز الثقافي الأدبي.
اضف تعليق