يطرح الشعر أسئلة تحفز الأفكار فردية كانت أو جماعية، ويحاول كذلك الإجابة على هذه التساؤلات وتصورات عن الحلول المقدمة لمعالجة المشكل الإنساني. لقد خلد التأريخ الكثير من الأعمال الشعرية كونها عبرت عن تطلعات وهموم الإنسان لتكون مرآة لزمانها ومكانها، فاتحاد الأديب مع واقعه ومحيطه ينتج إرثاً فكرياً مهماً يعيد به بناء المنظومة المجتمعية بفنون من السحر والبيان مايشكل مادة دسمة لكل من يبحث ويخوض في الأدب على تعدد أجناسه ومسمياته.
والحديث عن الشعر بهذه العمومية لاينفصل عن الأشعار التي اتخذت من الفكر الإسلامي منطلقاً لمساراتها الفنية وصولاً إلى نقطة تأصيل الكتابة الأدبية في المنظور الديني الذي لم يغفل عن دورها في الوقوف بوجه التيارات والإتجاهات المرتكزة أدبياً على المفاهيم المادية الداعية لانحلال الفرد القابع في فراغ معرفي وفصله عن تراث أمته وهويته، لذلك كان من الطبيعي أن يخرج من عباءة الفكر الإسلامي رجالٌ أدباء أخذوا على عاتقهم مهمة ترسيخ الوعي عبر قنوات الأدب فظلوا نماذج مضيئة مازال نتاجها محفوراً في ذاكرة التلقي، ومنهم آية الله الشهيد الإمام السيد حسن الشيرازي (قدس سره) والذي قدم بمنتجه الشعري عالي اللغة والمضامين متبنياته الإسلامية والإنسانية كنموذج ناصع للأدب الملتزم الهادف دون أن يغفل الجوانب الفنية.
وتبدو متبنيات السيد حسن الشيرازي واضحة في قصائده خصوصاٍ من جانب العقيدة الراسخة فهو سليل العائلة المشهود بعطائها العلمي والفكري المضيء، فنراه يرد شعراً على الإفتراءات الكثيرة على الرسول صلوات الله عليه وآله وأقربائه مضمناً رده بمفردات عصرية:
أَوَ أنتَ تذهبُ للجنانِ ووالد
المختار والكرار للنيرانِ
فتنافر الأضداد قاعدة فهل
نسخت هنا فتناسخَ الضدّانِ1
ومن جانب آخر يؤكد على قيمة الإنسان المسلم المتحرر من أشكال الفساد والمؤمن بعقيدته التي ميزته عن سائر المخلوقات ولنقرأ مثلاً:
آمنتُ أني مسلمُ
فلقد قرأتُ الكونَ سِفْراً واضحاً يتكلمُ
فإذا الوجود مُعَلّمُ
كيفَ الهروبُ إلى الضلالةِ والحقائقُ تحكم2
أنت الجنانُ إذا أردتَ وإن أردتَ جهنمُ
نلحظ هنا -خصوصاً في الجملة الأخيرة- تناصاً مع الآية القرآنية (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا) فقدمها الإمام الشيرازي بقالب شعري وجمالي.
وتنفث قصائده هم الإنسان الشرقي المستلب الإرادة والمتقلب بين الأفكار الملآى بالخديعة وليس لها من هم سوى مصادرته وقطعه عن تراثه وجذوره بعناوين متعددة لإيصاله لنقطة اللامعنى:
ماقيمة الافكار إن… تصحو على خلأ الدهاءِ
ومعادلات هواجسٍ… تطفو بلا ألفٍ وياءِ3
أو نجده يصدر هذه الهواجس بتراكيب وانزياحات تستفز التأمل والأسئلة معلناً تماهي خطه الشعري مع متبنيات الحداثة الشعرية شكلاً ومضموناً:
هل تتكسّرُ فيك الألوانُ على شَبَقِ الأطلالْ؟
وتصبُّ العذراء بتولتها في أقفالْ؟
فالقلبُ الهاربُ من تابوتِ بني عمران فضاءْ
وبقايا الليل الوسنى في كبد الشمسِ نداءْ
والبترول يهرول عافيةً في خُيلاء الأعداءْ4
في هذا المقطع من قصيدة (بقايا) ينطلق الإمام الشيرازي لآفاقِ الحداثة مستثمراً موروثه الإسلامي ومخزونه القرآني حيث نجد رموز (العذراء/البتول/تابوت بني عمران) ليقدم وسائل توصيل شعرية بصيغة استفهام تارة (هل تتكسر فيك الألوان)، وبتعريف جازم تارة أخرى (وبقايا الليل الوسنى…. الخ) قبل أن يطلق نبوءته الرائعة التي تمثل أس مشكلة الوجود البشري بصورة تبعث على الدهشة كما في صورة (البترول يهرول عافية).
وفي مكان آخر يقدم الحكمة التي تحث الإنسان على الزهد في ملذات الدنيا، وغالباً ماتقدم أشعار الحكمة والنصح بلغة مباشرة وتقريرية أحياناً -عدا استثناءات معروفة في الشعر العربي- إلا أن الإمام الشيرازي يقدمها على طبق جانح بالمخيال دون ان يقفز على وحدة الموضوع:
لَوْ أكلتَ الشمسَ خبزاً وعصرتَ البدرَ ماءْ
لَو شربتَ البحرَ خمراً في رؤى كل النساءْ
ثم ماذا؟ طالما أنك والدنيا هباءْ 5
ويمكن إجمال الخصائص الأسلوبية والموضوعية لتجربة الإمام حسن الشيرازي بالأبعاد التالية:
أولاً/الرمز
الرمز لغة: "تصويت باللسان، كالهمس، أو قيل هو الإشارة بالشفتين أو الحاجبين، والرمز في اللغة كل ما أشرت اليه مما يبان بلفظ أو أي شيء أشرت عليه بيد أو عين" 6
والرمز إصطلاحاً: " هو الدلالة على ماوراء المعنى الظاهري مع اعتبار المعنى الظاهري مقصود أيضاً " 7
والرمز في الشعر العربي كان ترساً ودرعاً يلجأ إليه الشاعر في ثورته على الواقع الفاسد، فلم تنحصر غايته في حقائق الوجود بل نظر إليه على ضوء مايوحي من معان إنسانية واجتماعية.8
وعندما نبحث في تعامل الإمام الشيرازي مع الرمز الشعري تتوضح لنا ماهية الرمز عنده كمنظومة تتناول شخصيات وطقوس دينية استوحاها في قصائده مستنداً نشأته في الأوساط العلمية والفكرية وفي بعض الأحيان يقدم الرمز بحالة من المناجاة الذاتية المتخيلة بفنية عالية:
أترى تأريخ العنقودِ يغالبُ ساقيةَ السكرانْ
أم ينتفض الدرهمُ في حنجرة النهمانْ
حتماً فغلات الموج سترتطم الساحل بالحيتانْ
وتبرر شنق الساحر بالثعبانْ 9
أكثر من تأويل يتخفى وراء المعنى في هذا المقطع الشعري مما يؤكد أن الإمام الشيرازي يقدم دلالات عديدة ومستحدثة لرموزه مؤصلاً تجربته الشعرية وفق متبنياته ومعاييره الإسلامية بشكل ينحو منحى الفرادة.
اضف تعليق