حدّقت في رأسه بإمعان وتبصّر..... نظرت الى كلّ الأبعاد والزوايا... الى الشكل والى الحجم وتساءلت مع النفس: كيف حوى هذا الصندوق الصغير عقلا كبيرا كهذا! ولماذا لا تتناسب عقول البشر مع حجوم رؤوسهم.....؟.
كان المتميّز الأول في مدرستنا المتوسطة ليس فقط في دراسته وصدارة درجاته، إنما أيضا بمواهبه وفنه وحسن سيرته ودماثة أخلاقه! يجتمع الطلاب حوله حينما يخط ويرسم فيبدون إعجابهم ودهشتهم بما يصنع، الأساتذة يلهجون بإسمه لأنه القدوة ومثار الإهتمام، ورغم تميّزه وإهتمام الآخرين به كان بسيطا متواضعا محبا للمساعدة ولخدمة الآخرين......
ساقتني الصدف أن أكون جنبه على نفس رحلة الدراسة فكنت أدقق فيه وألاحظه عن كثب، أتمحص في أسباب نبوغه.... كيف كان يجيب الأستاذ بلباقته وثقته العالية بالنفس، لا يتلكأ ولا ينسى.... إنما يتحدث بهدوء وإتقان فيثير إعجاب السامعين! كيف كان بنظرته الناعسة وبسمته الهادئة يناقش الاستاذ فيدحض ويؤكد.... ثم ألتقط الصور المركزة على يده الناعمة وأصابعه الهشة التي كانت تتراكب على جوانب القلم وهي ترسم فتصنع العجب.... وبكل دقة وإمعان كنت أقلّده فأمسك القلم كما كان يمسكه وأحاول أن أرسم ما رسم وأخطّ ما خطّ لكن دون جدوى.... رسومي تنقصها الروح ويهجرها الحراك..... فأشطب ما كنت أخط وأمزّق ما قد رسمت وأدرك أن المواهب عطاء إلهي مهما قلدناها لا ننجح.....
لم يتوقف طموحي عند هذا الحد فلهذا الطالب ميزات أخرى عسى أن أفلح في تقليد واحدة منها. كان يكتب الإنشاء بإسلوب طالما نال إعجاب مدرس اللغة العربية وأثار عنده الدهشة، فرحت أقرأ ما يكتب وأسأل الذات كيف حبك هذا الكلام وكيف أحسن الوصف والتصوير، فليس من المعقول أنه يعرف الكتابة منذ الولادة فان كان الرسم موهبة فلابد للكتابة ان تكون اكتساب.... لم أتردد حينها عن السؤال وعن البحث فسألته ذات مرّة: ما سر قوة اسلوبك في الكتابة ومن اين تأتي بهذه العبارات الجميلة يا صاحب المواهب؟.... لم يكن انانيا أو مترددا في الاجابة بل على عادته أعطاني النصح والارشاد بدون تثاقل وبلا إنفعال فأجابني بأن يجب عليّ أن أقرأ لعظماء الكتاب: جبران خليل جبران، المنفلوطي، نجيب محفوظ، جرجي زيدان، فيكتور هيجو، وتولستوي وغيرهم.... وفي اليوم التالي أتى بكتيّب لجبران خليل جبران فقال إقرأ.....
بدأت القراءة بنهم وإصرار، أنهي القصة الطويلة في يومين أو ثلاثة وابحث في زوايا المكتبات عن المزيد..... إنتبهت والدتي على هذه الظاهرة الغريبة التي لم تعهدها من قبل، فطالما غضبت وتذمرت من إهمالي وتمردي على القراءة حيث كان الكتاب عدوي اللدود الذي لا أطيق النظر الى وجهه القبيح!. كيف إنقلبت الصورة وتغيرت المعايير على حين غرة وما الذي جعل هذا الصبي الكاره للكتاب يقرأ ليل نهار.....؟
تساؤلات كنت أراها في عيون أمي دون ان تفصح بها لأنها لا تريد أن تحرك الساكن حفظا على الاستمرارية والبقاء على طبيعة الحال...... نعم كنت أكره المدرسة وأبغض الكتاب وأخشى المعلم، كل هؤلاء كانوا أعدائي وبواعث همومي وأشجاني....! كنت أسمع الأهل يتحدثون في بعض الأحيان عن هموم الدنيا الصعبة ومشكلاتها مع بعض الأصدقاء والزائرين، فكان لسان حالي يقول لهم: إرفعوا عني هم المدرسة والكتاب واتركوا لي كل همومكم.... كنت العن المدرسة صباح كل يوم والعن من أسسها وهندسها وبناها! فنصيبي منها كل يوم آثارا حمراء مطبوعة على راحة يدي يطبعها معلم العلوم بعصاته الغاضبة التي لا تفارقه حتى في الأعياد.... كان يشهرها ضدي عقوبة لإهمالي وتفاعلا مع عدم إكتراثي بدروسي وبواجباتي!
لم يكن موضوع الانشاء نهاية المطاف فعلي ان أدرك اسرار تميزه وتفوقه في الدراسة بشكل عام، لماذا يتميّز عني؟ فنحن نسكن نفس الزقاق ونعيش نفس الظروف.... فهو ليس أغنى مني وأنا لست أغنى منه، فالعازة تخنقه كما تخنقني..... غير أني سرعان ما أستدرك وأقول للنفس أن الذكاء لا تغازله ثروة ولا تستهويه سلطة ولا تؤثر فيه الأسماء.... فهو طرف محايد يؤثر ولا يتأثر..... يَصنع ولا يُصنع.... فما عليّ إلاّ أن أبحث عن أسباب أخرى غير ما أعتقد.... ربما هو الأولى في الاجابة عن تساؤلاتي المريرة...... كان جوابه مدهشا حينما سألته: كم ساعة تقرأ باليوم؟ فأجاب: عليك يا صديقي أن تسألني كم ساعة لا تقرأ في اليوم عندها سأجيب: أنا لا أقرا حينما أأكل ولا أقرأ حينما أنام.... هنا عرفت سر تخلفي وانكماشي وسبب صدارته وصعوده.... فما أن رجعت لداري إلاّ وطويت كل ما يلهي ويسحق الوقت.... أخفيت آلة العود الصغيرة التي كنت اعزف فيها وانا الحن بعض الاشعار، فككت عدسات التكبير التي حاولت أن أصنع منها سينما صغيرة ولم افلح، طويت المجلات والصور وأرجعت كاميرة التصوير الخالية من الفلم الى صندوقها، حتى مسجل الصوت، الذي إشتريته للتو ولأول مرة، اخفيته رغم أني كنت أستمع الى أناشيدي التي سجلتها بصوتي وكأنني أستمع لأحلى أغاني محمد عبد الوهاب أو أم كلثوم..... لم يبق أمامي غير كتبي ودفاتري وبدأت رحلة القراءة والدرس وصارت القراءة شر لابد منه وأصبح وقتي محسوبا منظما ورحت في تسابق مع الزمن، الساعة التي تضيع لا ترجع.... وخسارة الوقت هي خسارة في العمر.... صرت أحاسب النفس على كل لحظة تمر دون بناء ودون عمل!
بسرعة الضوء ارتفعت درجاتي في الدراسة كما ترتفع درجات المحرار حينما يغطس في ماء ساخن... فنلت إعجاب المدرسين ونافست في الصدارة صديقي ومعلمي الى الحد الذي ارتبك به الاساتذة وترددوا الى أيّ منا سيعطون المركز الأول، بل تشابهت الأمور عندهم حتى صاروا يسموني بإسمه ويسموه باسمي..... واستمرت رحلة النهوض فصرنا نحن الأثنين مثلا يقتدى به وانموذجا يشار له بالبنان...... واتذكر مرة أن أستاذ الجغرافية كان يتحدث للطلاب ويقول وهو يقلب في عينيه ويتمنطق بصوت فيه لون من الحدة والتحمس ويناطح رؤوس أصابع يده اليمنى باليسرى ويقول: لو كان جميع طلاب العراق كفلان وفلان لأخذ العراق يقفز قفزات حثيثة على البقعة...... وصار يقفز على البقعة أمام طلابه وهو يتكلم مما أثار موجة ضحك عارمة بين الطلاب في حينها....
رغم أن البعض وصف صعودي الى الصدارة بأنه بدافع الغيرة والتنافس إلاّ أنني كنت أجيب بأن الغيرة فطرة إنسانية صنعها الخالق عند الانسان من أجل التطور والبناء وهي صفة وميزة حضارية إنسانية حينما تكون بنّاءة ومثمرة. أما الغيرة المدمرة التي لا تحفز نحو التطور إنما تنصب على تدمير الطرف الآخر وإعاقة تقدمه فهي غيرة ممقوتة لا يرضاها الله ولا تنفع الناس والحضارة، فشتان بين الحالتين.... بين غيرة رحمانية وغيرة شيطانية. لم تتأثر صداقتنا الصادقة رغم التنافس الساخن بيننا بل توثقت وترسخت وصارت إنموذجا حيا يشار له.
لم تتوقف رحلة النهوض رغم انفصالنا عن البعض بسبب ظروف الحياة..... ففي الجامعة وفي الدراسات العليا كان صديقي بجانبي ليس بجسده إنما بكيانه وروحه ينافسني نحو العلاء، فلم أقبل إلاّ بالصدارة ولم اقنع الاّ بالتميّز ولم ارض إلاّ بالبروز ومهما كلف ذلك من ثمن.....
مضت الايام والسنون وانا خارج الوطن لكن الحب والذكرى والصداقة الحقة بقت داخل النفس وفي عمق الروح مهما طالت الفرقة ومهما ابتعد الزمن! وفي يوم من الايام اثار انتباهي حدث أرجعني الى أيامي الخوالي فرحت أتذكر التفاصيل..... بين طلاب الجامعة التي كنت أحاضر فيها إستوقفني نشاط طالبين متميزين عن غيرهم واللذين كانا يتنافسان في صدارة الدرجات الى حد التشابه مما جعلني امزج بين الاسماء فاسمّي احدهما باسم الآخر، تماما مثلما حصل لنا من قبل..... وفي مرة من المرات وبعدما مزجت بين الأسماء لم يستطع الطلبة مسك الأنفس فأجهشوا بالضحك مما دفعني هذا الى أن أقصص عليهم قصتي وأخبرهم بأن الأساتذة كانوا يمزجون بين إسمي واسم صديقي بسبب التشابه في المستويات......
وبينما كنت اسرد بعض التفاصيل لمحت إمارات الدهشة والتفاعل على وجه الطالبين المتميزين..... وحينما انهيت القصة قالا لي بأن قصتهما مطابقة تماما لقصتي وإنهما كانا يتنافسان منذ سنين الثانوية ويجلسان على نفس الرحلة الدراسية وتربطهما علاقة صداقة حميمة رغم التنافس الحاد بينهما على الصدارة والرقي.... إهتزت مشاعري واقشعر جلدي ورفعت رأسي صوب السماء أخاطب الخالق الكريم: سبحانك يا رب كيف تخلق المتشابهات......!
اضف تعليق