q

لويس إقليمس

 

ليس للثقافة والمثقف من حدود، تماماً كما في العِلم. فالعالِم مَن لا يرضى بما حصل عليه من تعليم أولّي أو لنقل أساسيّ في تربية نفسه وعقله ومختلف جوانب حياته. فهو شخصٌ غير اعتياديّ يغوص في شغفه بالنهل ممّا يتيسرُ تحت أيديه وبما يستنير عقلُه وترتاح له نفسُه من علوم وبحوث ومستجّدات. فيمضي في مشواره سابراً غورَ بطون الكتب، محلّلًا ومقارنا وكاشفا ومقدِّما زبدة ما يصل إليه، للقارئ والمستمع والمطالع والباحث.

صنوُه الآخر، إنْ لمْ يكن أكثرَ منه التصاقاً بالمجتمع والإنسان والنظام العام، المثقّفُ الذي لا يرضى بما حصل عليه من ثقافة عامّة، مجتمعية ودينية وأخلاقية وأدبية وحتى سياسية واقتصادية، بل يتعمّق في هذه جميعا ويقدّم طروحاتٍ وأفكارا ويستعرضُ آراءً للمناقشة والمقارنة والمقاربة بهدف إيجاد أرضية جيدة للحوار والنقاش والتفاهم من أجل خلق مجتمع متوازن ومتزن وقابل للتعايش بين المجموعات التي قد تختلف في الدين والمعتقد والمذهب والرأي، لكنها ينبغي أن يجمعَها حبُ الوطن واحترام الآخر وتقبّل النفس البشرية مهما كان نوع الاختلاف معها ومع منهجها الشخصي والمجتمعي والديني والفكريّ. فالمثقف دارسٌ موضوعيٌّ وباحثٌ وكاتبٌ وناشرٌ، لا يقبل المجاملة والمواربة والمسايَرة على حساب حقوق المجتمع الذي يعيشُ فيه والنظام السياسيّ والاجتماعيّ الذي يُسيّرُ الحياة، بهدى الله الخالق أم برفض قوانين السماء السمحاء. وهذه من أهمّ ما يمكن أن يكون عليها المثقف المخلص لمبادئه والأمين على ما يعتقدُ به من سلوكيات صائبة تفيد المجتمع والدولة. وإلاّ ما فائدة ثقافته، إذا سايرَ اشكالَ الفسادَ وسكتَ عن الجرم والمجرمين، وتغاضى عن أخطاء المجتمع والسياسة، وامتدح فلانا تكسبا غيرَ مسوَّغٍ، أو قدحَ آخرَ انتقاما وتهتّكا من غير مبرّر. وهو يفعل هذا في أكثر الأحيان، في غياب أية حصانة أو حماية سياسية أو اجتماعية. فهناكَ مّن يستطيع تحمّلَ وزرَ فعلِه الجَسور حينَ يكشف عن مواقع الخلل أو الفساد أو يعطي رأياً يخالفُ السائدَ في حكم السياسة والمجتمع والدّين والمعتقد. وبالعكس، هناكَ مَن لا طاقةَ له بما يلقاهُ من لومٍ وتعرِّضٍ لشتى المضار والتهديدات التي قد تستهدف حياتَه أو أفرادَ عائلته أو مصالحَه أو وجودَه كمواطن وكإنسان له كلّ الحق في التعبير عن نفسه وفكره ورأيه، مهما اختلف مع الآخرين الذين لا يستحبّون النقد ولا يقبلون بالإشارة لأفعالهم الشائنة أو سلوكياتهم الشاذّة وسط المجتمع.

قد يذهب تركيزي نحو ما يمكن للمثقف السياسيّ أن يحملَه من معطيات وآراء وأفكار في هذه الأيام الحرجة الصعبة والمليئة بالمعاناة والخبرات المتعددة، السلبية المؤلمة منها أكثر من الإيجابية المفرحة. فمن شأن هذا النوع من أركان الحياة، يمكن أن يكون له تأثيرُه المباشر في مجرى الحياة اليومية للمواطن. لكنَّ ذلك لا يسدّ الطريق أمام النتاجات الأدبية أيضًا التي لا تقلّ أهميةً، شعرا ونثرا وقصة وروايةً، للنخبة التي بإمكانها هي الأخرى معالجة مواقع الخلل في المجتمع ونظامه السياسيّ الذي يسعى جاهدا لأسرِ هذه الفئة المثقفة في خانة قوقعة المنافع الضيقة والمصالح الطائفية والفئوية.

ممّا لاشكَّ فيه، أنَّ الكثيرين يرون في المثقف، مرآةً للمجتمع وانعكاسا لصورته، أيًّا كان نتاجُه الفكري أو الأدبيّ أو السياسيّ أو الإعلاميّ. فلا حضارة لمجتمع أو لكيان دولة من دون ثقافة ومثقفين يعكسون صورتَه، سلبا أو إيجابا. فالجانب السيّء أو السالب يزولُ ولا يبقى ولا يدوم. بينما الإيجابيّ منه هو الذي يُتحدّث عنه على المنابر وفي الساحات والأزقة، حتى لو كانَ قاسيا وفيه نبرة نقد للإصلاح والتنبيه من خطورة المضيّ في دهاليز السيّئات والمفاسد والسلبيّات. وهذا دور المثقّف الحقيقيّ الذي ينبغي أن يأخذَ دورَه في البلد والمجتمع، وسطَ أصوات الهرج والمرج وطغيان الفساد في الصفوة السياسية الحاكمة ومَن لبسوا عباءة الدّين لتحصين النفس ونيل شيءٍ من القدسية على أفعالهم التي يشوبها الكثير من الفساد، وذلك سعيًا وراء التغطية عليها وعلى ما يتصرّف به الأتباع ضمن ذات الدائرة. وبالرغم من كلّ ما يحصل وما يجري، فأصوات المثقفين عندنا، ما تزال غافية وليست على قدر المسؤولية الوطنية والاجتماعية والإنسانية والأخلاقية التي ينبغي أن تكون عليها.

قد تكون أشكال الخوف والتهديد والحيطة والحذر احيانا، من بين ما يحاول أن يستتر به المثقّف الحريص، حفاظا على حياته ولقمة عيشِه وأمانِ أهله وعائلته. وفي هذا قد يكون على حقّ في جانب من جزئيات الحيطة والحذر هذه، في بلد فقدَ الأمنَ والوئام والعيش السلميّ، وباتَ مرتعًا لعصاباتٍ وأنواعِ الميليشيات التي استقوت بمؤسساتها الحزبية والعشائرية ومن داعميها من متنفذين في الدولة وممّن تسربلوا بالإسلام السياسيّ لإضفاء هالة من القدسية والتحصين على سلوكياتهم الصارخة والمتناقضة مع أقوالهم ونصائحهم. فهؤلاء لم يتركوا مجالاً للمؤسسات المجتمعية الرصينة كي تحقّق الوفاق والإخاء والوئام في صفوف المجتمع المتناقض الشخصية، ولا أجازوا فسحةً للقضاء والعدل ليأخذا مجراهما بسبب حالة الفلتان الأمنيّ واستقواء الكثير من الأحزاب والتنظيمات غير القانونية وغير الشرعية وغير الدستورية على الساحة العراقية. فالفصل العشائريّ مثلاً، أصبحَ ركنا أساسيا في حلّ النزاعات وفي عقد صفقاتٍ لمساومات مشبوهة. والسبب في ذلك كلّه، ضعف الدولة ومؤسّساتُها وفقدان الثقة بالقضاء الخاضع للتوافق بين الكتل السياسية، ما جعلَه أسيرا لهذه التوافقات وتحت رحمة خانة المحاصصة التي تسيّدت الموقف العدليّ وطغت مساوماتُها على الدستور والقانون.

وبالتالي يقف المثقف أمامَ خيارات ثلاثة: إمّا اقتحامَ مسرح السياسة والمجتمع من أبوابه الواسعة وعرض ما لديه من رؤية وفكر وحلول وتحليل لواقع حياة الناس ومصيرهم. أو لجم الفكر والكلمة وكسر القلم خوفا على حياته ومستقبله ولقمة عيشه مع أهله. أمّا الثالث، وهو الأخطر، مسايرة الجانب السلبيّ في حياة الناس والنظام السياسيّ ومجاملة الساسة ومَن في السلطة على حساب الحق والكلمة الرصينة والرؤية السديدة، أي ببساطة المساومة على هيبة الوطن وحقوق مواطنيه من دون تمييز.

هذه الرؤية وهذه الحال قد تسري على عموم منطقة الشرق والبلدان الإسلامية التي تفتقر إلى وسائل الديمقراطية البنّاءة الحقيقة، وترفض منح مساحة الحرية لمواطنيها، بسبب طبيعة الاستبداد وأساليب القمع والترهيب التي تتبعها أنظمة المنطقة من دون استثناء. كما أنّ الأنظمة الثيوقراطية التي ولّدتها الظروف الجيوسياسية بدعم من أيادي دول كبرى وأدواتها بهدف الإبقاء على تخلّف شعوب المنطقة ضمن دائرة المحرّم والمقدّس، ليس لها الاستعداد الحقيقي للقبول بالحوار وتقبّل الآخر المختلف، حتى لو كان من نفس الدّين والمذهب، فكم بالأحرى إذا كان خارجَ هذه الدائرة؟

مشكلة المثقف إذن اليوم، عويصة وكبيرة، لكونها مسؤولية أخلاقية أيضًا، إضافةً لكونها مسألة تخصّ مجتمع وناس ونظام ومصير ومستقبل شعوب. هناك مَن سلّمَ أمرَه للأقدار غير مكترثٍ بما قد ينتج عن أفكاره وكتاباته وطروحاته الاقتحامية الشجاعة وسط الفوضى التي يعيشها البلد والمجتمع. فالنظام السياسيّ القائم على الطائفية والمذهبية في البلد لا يتيح دوما للمثقف الحرّ الصادق كي يعبّر عن آرائه بحرية وواقعية وبصدق المواطنة المطلوبة، بسبب من ثقافة القهر والتملّك والتخلّف عن الجاهلية المتوارثة عبر الأجيال والتي لا تقبل الحوار والرأي الآخر. فتغييبُ هذه الطبقة من المفكرين وسط المجتمع، فيه الكثير من الظلم والضرر على المجتمع ونظامه السياسيّ. فهي صمّام الأمان في حياة المجتمعات، ولا تقلّ أهمية عن الدور الذي تقوم به المؤسسات الأمنية في أيّ نظام، والتي من أولى مهماتها الحفاظ على أمن الوطن والمواطن من عبث العابثين وفساد المفسدين. ذلك لأنَّ تأمين الفكر المجتمعي التعايشي الصحيح لدى الإنسان السويّ، هو بحدّ ذاته من أكبر التحديات المعاصرة التي تواجه مجتمعاتنا التراثية الملتزمة بالميراث الديني والمعتقديّ والمواسميّ المذهبي أكثر من العصرنة والحداثة والتطوّر بسبب طبيعة هذه المجتمعات التقليدية التي تأبى الانسلاخ عن جِلد الدّين والتديّن التقليديّ الذي يقدّس العمامة ومُرتَديها وملتحف عباءة الإسلام السياسيّ والدعويّ لتحقيق منافع حزبية وشخصية وفئوية وطائفية. فهؤلاء على دومًا على حق وإنْ أخطأوا، ولا يسمحُ أتباعُهم ومقلّدوهم بتوجيه اللّوم والانتقاد إليهم لاكتسابهم درجة العصمة بحسب اعتقادهم، حتى لو اصطفّوا في خانة الفساد والخطأ والمراءاة أمام الله والناس.

لذا، ومن منطلق الإيمان بدور الثقافة والمثقف التنويري للمجتمع، لا بدّ من كسر حاجز عدم الثقة والتشكيك بقدرة هذا النوع من المثقف الوطنيّ على توجيه المجتمع وفق ما تتطلبه الحياة اليومية العادية والمتزنة للمواطن كما يراها بعين متفائلة وبرؤية إصلاحية، والمساهمة برسم مستقبله ضمن مجتمع منفتح قابل للتطوير والإبداع الفكري والاجتماعي والدينيّ الذي يقبل باختلاف الآخر عنه وباختلاف فكره وعقيدته ورؤيته للأمور. ومن دون الإيمان بقدرة المثقف على خلق بيئة سليمة مشهودٍ لها بالانفتاح الإيجابيّ على كلّ تطوّر فكريّ وعلميّ واجتماعيّ، تبقى الجهود متعثرة والدوائر المعنية تدور في فلك الإداريات والتوجيهات السياسية التي لا تخرج عن نطاق المنافع الضيقة لفئات بعيدة عن أوجه الثقافة، التي جلُّ همّها الامتيازات وتكميم الأفواه وجرّ المثقّف نحو الترّهات بدلاً من تهيئة كلّ أنوان الإبداع في وجهه ورسالته.

واليوم، إضافة للأنشطة الكثيرة التي تتعاطاها الثقافة والمثقفون في الحياة اليومية والإجرائية للمواطن بالتصدّي لكلّ السلبيات التي تعصف بالمجتمع، يبرز دورهما في كيفية محاربة آفة التخلّف الحديثة – القديمة، المتمثلة بالفكر الأصوليّ المتطرّف الذي ينخر مجتمعاتنا منذ الثمانينيات من القرن الماضي، بسبب تنامي المدّ الأصوليّ نتيجة للسلبيات الكثيرة التي تركتها العولمة وما يدور في دوائرها المشبوهة، والتي ساهمت في جزءٍ منها المناهج التعليمية المتخلفة. فقد ساهمت هذه الأخيرة بمحدودية الثقافة في الفكر وغذّت الأصوليات وخلقت طبقاتٍ واسعة من حاملي الفكر المتطرّف الذين تحرّكوا بكلّ حرية في حواضن جاهزة لها، هيّأتها في معظمها دوائرُ خارجية لأهداف معروفة سلفًا. فهذه ترفض أيَّ انفتاح نحو التغيير في السلوكيات والإجراءات اليومية في الحياة. بل، إنّها المحرّض الأساس لرفض أية مبادرة لإصلاح المجتمعات بسبب حالة الانكفاء والنزعة الدينية المنعزلة والطائفية المتزمّتة التي حصرت الفكر والحركة والرؤية في سلّة متهرّئة من قيمٍ وتقاليد وأحاديث مشكوكٍ في صحّة ورودها، بل في وجودها أصلاً. والفكر التدميريّ الذي تحملُه منظمات متشددة في عصر العولمة والحداثة والعصرنة وفق هذا الأساسة ، ليس من السهل القضاءُ عليه ومصادر تمويله إلاّ بتوحيد الجهود الدولية للتعريف بأضرارِه وخطورة اتساعه، باعتباره سرطانًا سريع الانتشار، لو طالَ بقاؤُه واشتدّ عزمُه وقويت أدواته صعبَ معالجتُه وتقويضُه وتحجيمُه.

من هنا، لا بدّ أن تحظى المناهج عموما، بثقافة تجيزُ تقييم ومراجعة وتحليل البالي منها والذي يقتل ولا يحيي، يجرح ولا يضمّد، يكسر ولا يُصلح. فالفكر الذي تزرعُه المناهج في معظم بلدان المنطقة، ومنها بلدنا العراق، فكرٌ تدميريّ لبنيان الإنسان والوطن والمجتمعات التي تتهافت أحيانًا مرغمة على قبول الموجود والمطروح بسبب تأثيرات مدارس منغلقة على الفكر ومراجع تقليدية لا تقبل بالتطوّر ومراجعة الذات من أجل إدراك الحقيقة والوقوف على الصحيح منها دون المشكوك بها. وقد ساهمت في جزءٍ كبيرٍ من هذه الثقافة التدميرية، أحزاب الإسلام السياسيّ التي استأثرت بالسلطة في عدد من دول المنطقة، باستغلالها للدّين وتأثير المراجع من أجل كسب الأتباع وإبقاء الصورة القاتمة للدّين الحنيف وحصرِه بالأسلوب المنحرف والشاذّ الذي قدّمه الإرهاب وتنظيماتُه للمجتمع. بل تحومُ شكوكٌ عملية وفعلية بمشاركة عناصر من هذه الأحزاب في جزئيات من الأعمال الإرهابية التي طالت شعوبا ومكوّناتٍ وأشخاصًا فيها. وسوف تكشف الأيام والتاريخ الشيءَ الكثير من هذه الاتهامات التي ترد بين الفينة والفينة على لسان مشاركين في السلطة وشخصيات سياسية وأركان نافذة في الأحزاب والتنظيمات.

اضف تعليق