q

رشيد بوطيب

 

سيظل سؤال الحرية يشغل الخطاب الفلسفي المعاصر، ربما لأن الحرية كما كتب أدورنو في «الجدل السلبي»: «لم تتحقق سوى في البنية الفوقية». لكن الفيلسوف الألماني - الكوري الأصل بيونغ شول هان، يمضي أبعد من ذلك، في كتابه «السياسة النفسية». فقد تحولت الحرية، في رأيه، إلى شكل من أشكال القمع في العصر النيوليبرالي. فنحن نعتقد أنفسنا ذواتاً حرة، قادرة على خلق مشروعها وتحقيقه، لكنه مشروع يتأكد اليوم أنه يتحقّق ضد حريتنا. لقد تحررت الذات من قيود قديمة، لترتمي في أحضان قيود جديدة، لها علاقة بالإنتاجية.

الحرية نفسها أضحت تطالب بالقيود. فحرية «القدرة» تنتج من القيود أكثر مما كانت تنتجه حرية «الواجب». إذ للواجب حدود كما يكتب شول هان، أما القدرة فلا حدود لها، مؤكداً أن الأمراض النفسية كالاكتئاب والإرهاق تعبير عن أزمة عميقة للحرية. إننا أمام ذات منتجة، لا تحتاج الى من يستعبدها، لأنها تنتج عبوديتها بنفسها. وضد الأطروحة الهيغلية في «فينومينولوجيا الروح»، يرى هذا الفيلسوف أن العمل لا يحرر الذات، بل إنها تظل عبداً للعمل. إن الذات النيوليبرالية عاجزة عن بناء علاقة حرة من المصالح مع الآخرين. فقيمة مثل الصداقة تظل غائبة هنا. الحرية في معناها الإيتيمولوجي داخل اللغة الألمانية، تعني أن نكون عند الأصدقاء. فالحرية والصديق يمتلكان الجذر نفسه في اللغات الهندو ـ أوروبية. والحرية لا تتحقق إلا في العلاقة أو في الوجود مع الآخرين. لكن العزلة التي يضربها علينا النظام النيوليبرالي تهدد الحرية كما تهدد الصداقة، ومعهما بقية العلاقات الإنسانية.

بل إن ماركس نفسه، سيفهم الحرية في «الأيديولوجيا الألمانية» انطلاقاً من علاقة الذات بالآخرين. «إن الحرية الشخصية ممكنة فقط داخل الجماعة»، أما الحرية الفردية فهي في رأيه مجرد حيلة لرأس المال، يؤبد عبرها علاقته بنفسه واستمراريته. فالتنافس الحر بين الأفراد يساهم في تراكم رأس المال، ويؤبد عبوديتهم له. «فرأس المال يستغل حرية الأفراد ليواصل تقدّمه. ليس الأفراد من يملكون الحرية في المنافسة الحرة، لكنه رأس المال». فعبر الحرية الفردية، تتحقق حرية رأس المال.

إلى هذا الحد يتفق شول هان مع ماركس في تحليله الرأسمالية، لكنه يرفض أطروحة ماركس التي تقول أن التناقض الذي سيحدث بين قوى الإنتاج في مرحلة محددة من تطورها وعلاقات الإنتاج، سيساهم في تجاوز النظام الرأسمالي، معتبراً أن هذا التناقض نفسه ما سيمنح الرأسمالية القدرة على الاستمرار. إنه تناقض لا يمكن، في رأيه، تجاوزه.

لقد نجح النظام النيوليبرالي في استغلال الحرية لمصلحته، وفي هذا السياق يستغل كل ممارسات التعبير عن الحرية وأشكاله، في رأي الفيلسوف شول هان، مثل العواطف واللعب والتواصل. وهو نجح في ذلك لأنه لا يمارس سلطته، بل يترك الآخرين يمارسونها نيابة عنه، ظناً منهم أنهم لا يمارسون سوى حريتهم.

عزلة الذات هي ما يصنع شكل الإنتاج المعاصر، ومن الوهم أن نعتقد، مع أنطونيو نيغري، أن من شأن تعاون قوى مختلفة أن يضع حداً لهذه «الإمبراطورية الطفيلية». فالنظام النيوليبرالي لا يتحقق في إطار نظام طبقي في رأي شول هان. لكن ما لم يشر إليه هذا الفيلسوف، أن النيوليبرالية صدَّرت النظام الطبقي، وتناقضاته، إلى مجتمعات الأطراف، أو إلى طرد البروليتاريا إلى أماكن بعيدة يستهلك المركز ما تنتجه، لكن بعيداً من بؤس ظروف الإنتاج. أما في المركز، فإن النظام النيوليبرالي يحول استغلال الآخرين إلى استغلال للذات، سنجد له حضوراً لدى كل الطبقات الاجتماعية، وهو ما يجعل من الثورة الاجتماعية أمراً مستحيلاً، لأن الثورة تقوم دائماً على التمييز بين المستغِلين ومن يتم استغلالهم. كما أنه لا يمكن تشكل «جماعة سياسية» في ظل نظام يرسخ انعزالية الإنسان المنتج.

والعنف داخل النظام النيوليبرالي القائم على الاستغلال الذاتي، موجّه بالضرورة تجاه الذات نفسها. إنه ينتج الكآبة لا الثورة. ولا تعمل الذات على سد حاجياتها، لكن على سد حاجيات رأس المال، التي تعتقد خطأ أنها حاجياتها. ولهذا السبب أيضاً، يمكننا أن نفهم السياسة في ظل هذا النظام كيد طولى لرأس المال.

ومن أبرز ميكانيزمات السيطرة في ظل النظام النيوليبرالي، ما يسميه شول هان بديكتاتورية الشفافية. لقد تم الاحتفاء بالشبكة العنكبوتية في البداية كوسيلة للحرية غير المحدودة، لكن حرية التواصل ستتحول إلى مراقبة مطلقة، إذ الأمر يتعلق في النهاية بجمع ما أمكن من المعلومات. إننا أمام صيرورة تقوم على تجريد للإنسان من داخله، لأن داخل الإنسان يمثل عقبة أمام كل تواصل سريع. إن مجتمع الشفافية يتكون فقط من مشاهدين ومستهلكين، ويؤسس لديموقراطية يسميها شول هان بديموقراطية المشاهدين. والبيانات الضخمة هي في مثابة وسيلة سيكولوجية - سياسية، تسمح بالحصول على معرفة كاملة حول ديناميات التواصل الاجتماعي، وهي معرفة تمثل بدورها وسيلة للسيطرة تسمح بالتدخل في سيكولوجية الأفراد والتأثير فيها، بل إنها، عبر ذلك، تشكل حتى مستقبل الأفراد. إننا أمام سلطة لا تقوم على المنع والقمع، لكن على الإغراء، ولأنها بذلك تكون أكثر نجاعة. إنها سلطة لا مرئية، وأزمة الحرية اليوم تعود إلى أننا نواجه أساليب للسيطرة لا ترفض الحرية بل تستغلّها.

اضف تعليق