لكن إذا ألقينا نظرة فاحصة على تداعيات قرار ترامب هذا، نرى أنّه قد يؤديّ إلى نتيجة مختلفة تماماً “لدولة إيران المعتدة بنفسها”. وفي الواقع، يساعد قراره هذا على دفع إيران نحو إطار سلطويّ أكثر – داخلياً وجيوسياسياً – حاجباً بذلك آمال الإيرانيين في مستقبل أفضل. على الصعيد...
علي فتح الله نجاد
عندما أعلن دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة الأحادي الجانب من الاتّفاق النووي الإيراني، برّر قراره بأنّه يخدم تطلعات الإيرانيين للعيش بسلام ورفاهية. إذ قال الرئيس: “الشعب هو الذي يقرر مستقبل إيران، إنه الوريث الشرعي لثقافة غنية وأرض قديمة، ويستحقّ وطناً يحقق أحلامه”. لكن إذا ألقينا نظرة فاحصة على تداعيات قرار ترامب هذا، نرى أنّه قد يؤديّ إلى نتيجة مختلفة تماماً “لدولة إيران المعتدة بنفسها”. وفي الواقع، يساعد قراره هذا على دفع إيران نحو إطار سلطويّ أكثر – داخلياً وجيوسياسياً – حاجباً بذلك آمال الإيرانيين في مستقبل أفضل.
على الصعيد الاقتصاديّ، ستعزّز إعادة فرض العقوبات الأمريكية التي تستهدف نظام إيران الماليّ ومبيعات النفط سيطرةَ المتشدّدين الإيرانيين. فمع تحوّل قنوات التجارة القانونية إلى قنوات غير قانونية مرّة أخرى، سيزدهر اقتصاد الظل في إيران كما حصل في ظلّ “العقوبات المعيقة” في خلال عهدي بوش وأوباما. ومن المعتقد أنّ الكيانات شبه الحكومية التابعة للحرس الثوري الإيرانيّ والتكتلات التي تعمل باسم أساسات دينية تسيطر على معظم الاقتصاد الإيرانيّ. وستتمكّن هذه المنظّمات والشركات من استغلال قنواتها غير الشرعية والطرق السرية لاستيراد السلع الضرورية. وبالتالي، ستستفيد مجموعات السوق الأسود بشكلٍ كبير من الإيرانيين العاديين بسبب الأسعار المرتفعة. وبالإضافة إلى ذلك، ستعرقل هذه السّلع المهرّبة والأسعارُ المرتفعة بشكل خياليٍّ القطاعَ الخاصّ الإيرانيّ الناشئ. وإنّه لأمر مؤسف، لأنّه كان من الممكن أن ينمو قطاع مصرفيّ شفافّ في أعقاب تعاملات إدارة روحاني مع أوروبا، ممّا شكّل عائق لهيمنة تلك الكيانات السياسية والاقتصادية.
وصحيح أنّ هذه الكيانات شبه الحكومية والحكومية قد استفادت بشكلٍ حصريّ من فوائد الاتّفاق الإيراني الاقتصادية. فمثلاً، أعيدت مليارات الأصول المجمّدة التي ملأت جيوب طهران واستُثمرت في سياسات محلية توسعية. لكن، نظراً لأن معظم هذه الأموال قد أُنفِق، لم يعد يرى بعض المتشدّدين أيّ فائدة للبقاء في الاتّفاق.
وسياسياً، أُهينت إدارة روحاني من قرار ترامب. وقد أصبح من السهل للمتشدّدين الإيرانيين التابعين لحرس الثورة الإسلامية والمرشد الأعلى، خامنئي، أن يدينوا سذاجة الإدارة وفشلها الذريع في التوصّل إلى الفوائد المرجوّة من الاتّفاق. برّر المتشدّدون لأنفسهم تحذيرهم المتواصل من عدم إمكانية الاعتماد على أمريكا. وكذلك، مع إضعاف الحكومة وتصاعد المتشدّدين، قد يوسّع حرس الثورة الإسلامية سيطرتهم في القوات المسلّحة وأجهزة الاستخبارات والقضاء والاقتصاد لتصل إلى النظام السياسي. ومنذ قيام الثورة في بداية العام، أخذ الحديث عن “حكومة شبه عسكرية” ضجّة أكبر في إيران. وقد ساهم احتمال إعادة فرض العقوبات في تسجيل هبوط قياسي للعملة الإيرانيّة، ممّا أدّى إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض الطلب، ونتج عن هذا عددٌ كبيرٌ من الاحتجاجات والإضرابات في خلال الأيام الماضية بين التجّار، مع إغلاق سوق طهران الكبير. وقد زادت الأزمة الاقتصادية للبلاد في خلال الأشهر القليلة الماضية من حدّة نقاش النخبة بين مختلف الأوساط السياسية حول احتمال انقلاب عسكري كآخر حلّ لمنع انهيار البلاد وانتشار الفوضى. وفي الواقع، قد تشكّل سياسات إدارة ترامب وخطابها حول “تغيير النظام” في ايران، نتيجة ذلك، وسيطاً لمثل هذا التطوّر الهائل في إيران.
توجّهات إيران الجيوسياسية: النظر إلى الشرق – أو إلى أوروبا؟
جيوسياسياً، قد تقوم طهران في نهاية المطاف بإحياء سياسة عهد أحمدي نجاد تحت شعار “أنظر إلى الشرق”، من خلال توطيد العلاقات مع روسيا والصين سياسياً واقتصادياً. وسيتضمّن ذلك أيضاً إقامة تحالف اقتصادي-سياسي سلطويّ بين الحكم المتشدّد في إيران وتلك القوى، المرسّخة مثلاً في الغرفة التجارية والصناعية الإيرانية-الصينيّة (ICCCI). وقد يؤدّي مثل هذا التوجّه نحو الشرق إلى ارتفاع شديد في حجم التجارة بين هذه الأنظمة الأوتوقراطية، ما يؤدّي إلى إغراق السوق الإيرانية مرّة أخرى بالمنتجات الصينية الرخيصة على حساب الإنتاج المحليّ والوظائف في إيران. ولكن، حتّى الإيرانيون المتشددون غير قادرين على غضّ النظر عن الغرب بأكمله. لذلك، لجأ خامنئي إلى أوروبا لمساعدته على إنقاذ الاتّفاق الإيرانيّ، علماً أنّ أوروبا أدّت دوراً أساسياً في تحويل المال والمكانة السياسية لكافّة نخبة الجمهورية الإسلامية.
انتهاك تطلعات الإيرانيين الديمقراطية: خطوة ترامب تتعارض مع نواياه المعلنة
عندما تُجمع التداعيات السياسية والاقتصادية، من المرجّح أن تتكرّر الديناميكية نفسها التي حصلت في ظلّ عهد الرئيس بوش. ومن المتوقّع أن تتّسع الهوة بين الدولة السلطوية الإيرانية والمجتمع المدني بعد أن كانت في حالة ركود في مرحلة ما بعد الاتّفاق، لكن هذه المرة لخدمة نظام فقد معظم شرعيته. وفي خلال التحرّك الأخضر الإيراني في العام 2009، دعا قسمٌ كبيرٌ من الطبقة الوسطى إلى التشكيك في شرعية النظام السياسي. لكن، في خلال اضطرابات 2017/2018، عبّر فقراء الطبقة الوسطى في إيران – الذين يُعتبَرون تاريخياً قاعدة النظام الاجتماعية – والشباب عن غضبٍ شعبيّ غير مسبوق إزاء كافّة فصائل النظام. وبالرغم من غياب التغطية الإعلامية، استمرّت الاحتجاجات على جبهات عدّة وبأشكال مبتكرة، جامعةً الشكاوى الراسخة الاجتماعية-الاقتصادية والسياسيّة التي أشعلتها وغذّتها المأساة الاقتصاديّة والسلطوية السياسية والكوارث البيئية في ايران.
وفي ظلّ هذه الظروف، ستزيد الاحتجاجات والإضرابات، لكن سيكون من السهل قمعها هذه المرّة، بما أنّ النظام سيصف المحتجّين والمعارضين بأنهم عملاء لسياسة ترامب التي تدّعي بتغيير النظام. وعلاوةً على ذلك، ستكون ادّعاءات النظام هذه أسهل نظراّ لتعاطف مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتن، العلني مع عقيدة المعارضة الإيرانية الاستبدادية، المعروفة باسم منظمة مجاهدي خلق الإيرانية. ففي الواقع، أُعلن مؤخّراً أنّ القضاء الإيراني والأجهزة الأمنية الإيرانية “ستواجه بحزم” المتظاهرين لأسباب تتعلّق بالأمن القومي لتعاونهم المزعوم مع الأجندة الأمريكية والإسرائيلية.
ومع إعادة فرض عقوبات قاسية التي من المرجّح أن تفقر المجتمع الإيراني – الذي يعيش معظم أفراده على خطّ الفقر– قد يتحوّل النشاط السياسي إلى رفاهية يمكن لعدد أقل من الناس ممارستها. بمعنى آخر، لا يتزامن قرار ترامب مع أكبر تحدٍّ في تاريخ الجمهورية الإسلامية الذي بدأ منذ حوالي أربعين عاماً فحسب، بل يؤدّي في نهاية الأمر دوراً في استمراريّتها. وبعبارة أخرى، من غير المرجّح أن تتحقّق آمال إدارة ترامب في أن تؤدّي سياستها الجديدة إزاء إيران إلى انهيار الجمهورية الإسلامية من الداخل.
والأهمّ هو أنّ تقويض ترامب للاتّفاق النووي قد ثبّط الوقت الذي تحتاج إليه المجموعات الإيرانية المعارضة للجمهورية الإسلامية من أجل تنظيم نفسها في أعقاب الثورة. وتضمّ المعارضة الإيرانية الداخلية الطبقة الوسطى المطالِبة بالديمقراطية والطبقة الفقيرة التي تطالب بالعدالة الاجتماعية. ولم تتمكّن المجموعات المعارضة المحلية والمنفية من تجاوز تفكّكها ومن صياغة برنامج أو بيان مشترك للتحرّك السياسي. إذ أحبط ترامب بشكل فعّال فرصتها التاريخية هذه.
وبالتالي، تشكل خطوة ترامب ضرراً لتطلّعات الإيرانيين على كافّة الجبهات المحتملة. ونتيجة لذلك، من المرجّح أن تتفاقم مأساة الشعب الاجتماعية-الاقتصادية، فيما تقترب إيران إلى نظام حاكم ذات طابع عسكري.
كذلك، صرّح ترامب، في خطاب انسحابه من الاتّفاق: “لقد مضى حوالي 40 عاماً منذ أن استولت هذه الديكتاتوريةُ على السلطة وأخذها شعباً فخوراً رهينةً لها”. وإذا جمعنا كلّ هذه العوامل، نرى أنّ التداعيات تتعارض مع توقّعات ترامب لمستقبل إيران. وعوضاً عن ذلك، ستتمكّن الجمهورية الإيرانية من الاستمرار في ممارسة كلّ ما اشتكى منه ترامب بسهولة أكبر.
اضف تعليق