الأسرة الحديثة مصطلح يسعى لمواكبة ما يحدث من تطور في المجال الاجتماعي (الأسري) بمعنى أدق، وهناك سمات تستجد في حياة الأسرة وتضفي عليها العوالم الافتراضية الالكترونية والاستعمالات الحديثة للتواصل والترابط والتعاطي مع الإعلام، لكن في موضوعنا هذا نحاول أن نبحث في إمكانية تجهيز حالة من الموازنة بين حركة الأسرة الحديثة واستخدامها للوسائل التكنولوجية الحديثة من ناحية، وإمكانية بقاء العلاقات بين أعضائها قائمة متواصلة غير معرّضة للعزلة الجبرية التي تحدث نتيجة التعامل مع الوسائل العلاقاتية الحديثة.
يأتي في علم الاجتماع أن الأسرة (أو العائلة) هي الخلية الأساسية في المجتمع وأهم جماعاته الأولية، تتكون الأسرة من أفراد تربط بينهم صلة القرابة والرحم، وتساهم الأسرة في النشاط الاجتماعي في كل جوانبه المادية والروحية والعقائدية والاقتصادية، وللأسرة حقوق مثل: حق الصحة، وحق التعلم، وحق السكن الآمن، كما للأسرة واجبات مثل: نقل التراث واللغة عبر الأجيال، والوظيفة.
في هذا الاستطلاع نسعى للعثور على وسائط رأي متجانسة لا يلغي بعضها البعض، وقد جمعنا عينات متناقضة من المجتمع، فالموضوع يتعلق بالأسرة الحديثة وأعضائها بصورة أخص، نريد أن نستفهم المتناقضين في النظرة الى موضوع التعامل مع وسائل التوصيل الإلكتروني الحديث، وما هو أثرها على حقيقة العلاقات الأسرية وهل تراجع مستواها الحميم، أم أنها (العلاقة بين أعضاء الأسرة الحديثة) لا تزال صامدة على الرغم من تسلل أجهزة الموبايل والحاسوب واللابتوب والستلايت وأنواع أجهزة التواصل الحديثة، هل أنها عزلت أعضاء الأسرة عن بعضهم، وهل يعيش اليوم كل شخص في زنزانة حديدية تفصله عن عوالم الآخرين وتحبسه في عالمه الافتراضي فقط؟.
انتخبنا مجموعة من العناصر التي تدخل في بناء الأسرة، كالأبناء والآباء والأمهات، واستشرناهم عن حدة القطيعة التي يمكن أن تصنعها وسائل التكنولوجيا اليوم، ثم سألنا عناصر منتخبة من الوسط المشرف على النشاط الأسري، واستفسرنا منهم عن إمكانية المواءمة بين (الأسرة الحديثة التي تقتني جميع الأجهزة الالكترونية وتتعامل عبرها مع الآخرين)، وبين البقاء في إطار علاقات أسرية متلازمة متقاربة ومتداخلة في الواقع الأسري؟.
تأثير أجهزة التواصل الحديثة
كان الشق الأول للاستطلاع من حصة الأب حيدر النصراوي كي يجيب عن تأثير أجهزة التواصل الحديثة على العلاقات الأسرية وما الفارق بين الأمس واليوم حول العلاقات في الأسرة الواحدة، وقبل أن يجيب الأب حيدر أطلق تنهيدة عميقة كأنه يستذكر الأيام الخوالي وهو يعيش في كنف والديه، فقال: ليس هناك أوجه مقارنة بين علاقات الأمس واليوم في الأسرة الواحدة، فأنا شخصيا لم أعد أحظى برؤية عائلتي مجتمعة إلا ما ندر، وعلى طول الوقت نعاني أنا وأم أولادي من العزلة، وأحيانا عندما نجبر الأولاد على الجلوس معنا وقتا قصيرا، فإنهم يجلسون معنا صامتين، ثم سرعان ما ينشغل كل منهم مع الصديق الحميم الذي يحمله معه (الموبايل) وأنا وأمهم نتابعهم وهم يتضاحكون مع الشاشة ولا يثير وجودنا بينهم أي تأثير أو ردة فعل، بعد ذلك يتسللون خارج غرفة الجلوس دون أي اعتراض من قبلنا، لأن حضورهم وغيابهم سواء.
الابن (محمد مرتضى أحمد 17 سنة) يتذمر من مطالب أمه وأبيه حول البقاء في البيت أطول مدة ممكنة، فهو يقول أن ساعات النهار لا تكفي لنشاطاته، نصف النهار في المدرسة ونصف ما تبقى منه للدراسة وتحضير الواجبات، ثم الرياضة ولعب كرة القدم مع الأصدقاء، بعدة فترة الراحة والاستجمام والذهاب الى (كوفي شوب أو مقهى) ثم العودة الى البيت متعبا، فيلجأ الى سريره لينام فورا بعد أن يتناول وجبة سريعة دائما يجدها مهيّأة له من قبل أمه التي تعرف ماذا يفضل من أصناف الطعام بدقة عجيبة، وآخر شيء يطالعه شاشة الموبايل ثم ينام، فلا يبقى وقت شاغر لتبادل الآراء وتمتين العلاقات مع أعضاء الأسرة، وكأن أفراد العائلة الواحدة يعيشون في فندق وليس في بيت يجمعهم مع بعضهم سنوات طويلة، فتبقى حاجة الأم والأب لأبنائهم واضحة من خلال الألم الذي نراه في وجوههم والكلمات المتأسفة التي تصدر من قلوبهم وأفواههم، ولكن هذا هو الحال، وهذه هي طبيعة العصر التي لا يمكننا التغلب عليها!.
ثم جاء الدور على أحد أطباء النفس الذي تعاني عيادته من الفراغ، على الرغم من أنه اختار عيادته في مكان مهم من العاصمة، ومع أنه يقع في مجمع يضم عددا من العيادات، يقول دكتور إحسان أكثر من حالة توحّد تأتيني مع مرضى يعانون من القطيعة ليس مع الأسرة فقط وإنما مع أقرب الأصدقاء والعالم الخارجي، والسبب يبدأ بشكل طبيعي حيث يشعر الإنسان في عدم الحاجة للآخرين والشعور بالضيق منهم ولا يحب الاختلاط بهم ولا الحديث ولا تبادل الحور ولا حتى كلمة واحدة، يزداد الأمر سوءا عندما يكون الإنسان غير قادر على الانسجام حتى مع أفراد عائلته، ومن أهم أسباب هذه الظاهر موجة التكنولوجيا الحديثة في وسائل التوصيل وتهيئة عقلية الشباب بصورة خاصة الى استبدال العلاقات الواقعية بالعلاقات في شبكات التواصل، وما يضاعف طوق العزلة عندما يهمل الناس أبناءهم لأسباب عديدة منها ضغوط الحياة وهموم العيش وموجة الحر التي تجعل الإنسان يفكر بنفسه أولا، فحتى الأسرة لا تمد يد العون الى أبنائها وبعضهم يتعامل مع عزلة الأبناء بأنها شيء طبيعي، لكنه ليس كذلك، لأن النتائج في نهاية المطاف هي تعطيل قدرات الشاب كليا.
الأبناء يعتنون بأنفسهم فقط!!
أم رحمن امرأة في عقدها السادس، تقول عن أبنائها بأنهم لا يعتنون إلا بأنفسهم فقط، أهملوا أباهم وأهملوني، حتى الحاجيات البسيطة التي نطلبها منهم لا يجلبونها لنا، تصوّر مثلا حين نطلب بعض الدواء من الصيدلة، فيتهرب الأبناء ويأتون بالحجج المختلفة، فلجأ الى شباب غرباء، وأما عن الجلوس مع بعض فهذا لا يحدث في غرفة الجلوس إلا نادرا، حتى تناول الطعام يتم بشكل فردي، فأنا أقوم بإعداد الطعام وأفرش سفرة الأكل ولكن لا احد يأكل معنا، يريد الأبناء أن يبقون في أماكن خاصة بهم، يبقون ساعات طويلة، لا نراهم فقط عندما يخرجون الى الحمام او يذهبون الى الثلاجة لشرب الماء، في السابق كان أهلنا يجتمعون في جلسات يومية طويلة، أبونا يحكي لنا القصص والنوادر، نتبادل النكت الحلوة، الوقت كان يمضي جميلا في تلك الأيام، أما الآن فنحن نعيش العزلة الجبرية، لأن أبناءنا يعيشون لأنفسهم فقط، حتى أنني كرهت الموبايل لأنه سرق مني أولادي.
وحين استفسرنا من الباحثة (هدى عبد الأمير عباس) وهي إحدى الباحثات المهتمات بتأثير تكنولوجيا الاتصالات الحديثة على العلاقات الأسرية، قالت إن ظاهرة العزلة الاجتماعية ليست جديدة، كانت في السابق تحدث على نطاق ضيق، أما اليوم فأصبحت تتسارع في الحدوث بسبب تمكين الأفراد من الاتصال مع بعضهم عبر الانترنيت والموبايل، لقد ساهمت هذه الأدوات في تسريع وتيرة الحركة البشرية في العمل والبناء والتجارة ولكنها من ناحية أخرى قدمت الأعذار والقدرة على الانعزال العائلي أو خارج العائلة، فالجلوس في المقهى مثلا لا يعني كالسابق إقامة حوارات مباشرة بين مجموعة من الأفراد وسماع ضجيج أصواتهم وآرائهم المتناقضة التي تنتهي الى نتائج ترضي الجميع، أما اليوم فالمقهى ممتلئ بالزبائن لكن كل فرد يعيش عالمه الخاص بمعزل عن الآخرين، وفي الحديث عن الحلول، فإنها صعبة ولا يمكن أن تعود عجلة العلاقات الى الوراء، ولا يمكن إلغاء تكنولوجيا الاتصال، ولكن قد يكون من المفيد تذكير الأفراد والأولاد دائما بأهمية العلاقات الأسرية أو العلاقات مع المحيط الخارجي، ويجب الموازنة في هذا المجال، لأن العزلة في العائلة أو خارجها لها نتائج نفسية وعقلية غير حسنة وربما تتفاقم مع الوقت فتقصي الإنسان عن عائلته ومحيطه دون أن يشعر بذلك.
اضف تعليق