آراء وافكار - مقالات الكتاب

التسويق في التنظيمات الارهابية

(هيئة تحرير الشام) انموذجًا

تحولت الهيئة فكرياً ومنهجياً بل حتى في آليات عملها وتحقيق اهدافها وفق خطية تسويقية ذات تخطيط استراتيجي بعيد المدى ولعل ذلك لم يأتي من فراغ او وفق مزاجيات قيادتها وانما نتيجة عوامل محلية واقليمية وعالمية، منها الجهود الدولية لمكافحة الارهاب العالمي والمصالح المتحققة لها في حال...

تعتمد التنظيمات الارهابية على التسويق لنفسها سواء سياسياً او شعبياً وبخاصة التي جعلت من الجهاد ركناً اساسياً في أدبياتها وبالتالي وضعت استراتيجيتها في اقامة الدولة الاسلامية على اساس ذلك، فتنظيم القاعدة الارهابي الذي ظهر علانية الى الساحة الدولية والاقليمية والمحلية خلال فترة الغزو السوفيتي لأفغانستان 1989-1990م رغم ان الاتحاد السوفيتي كان حينها في بدايات تفككه كاتحاد ومن ثم انسحابه من افغانستان، الا ان التنظيم جعل منه حجة للظهور ومن ثم اقامة دولته المعهودة من اجل الكسب البشري والمادي.

 والدليل على ذلك هو انسحاب السوفييت كان حاضراً في ذلك الوقت ومن ثم انتفاء الحاجة الى وجود التنظيم الارهابي من الاساس، الا ان استمراريته في محاربة العدو البعيد ومن ثم التوجه للعدو القريب كانت بدوافع وعوامل عديدة دولية واقليمية متحكمة ودافعة وممولة له مادياً وعسكرياً وفكرياً وغيره.

 لذا فإن التحول في استراتيجية التنظيم الارهابي من محاربة السوفييت الى الولايات المتحدة الداعمة له في البدايات ومن ثم القيام بهجمات الحادي عشر من سبتمبر على برج التجارة العالمي واتخاذها ذريعة من الولايات المتحدة الامريكية للتدخل في الدول وتحقيق مصالحها بصورة اسهل من السابق بحجة محاربة الارهاب ومن ثم تمكين حركة طالبان التي كانت يوما ما منظمة ارهابية في افغانستان وغيرها، من الشواهد كلها تتدلل على ان التنظيمات الارهابية صناعـة دولية لتحقيق الاهداف بالوكالــــــة بكلفة اسهل وبحجة اكبر للتدخل في شؤون الدول وتغيير انظمتها السياسية بما يخدم مصالح الدول القائمة بها.

 لذا يعد تنظيم القاعدة بمثابة الاساس لمعظم التنظيمات الارهابية الحالية سواء فكرياً او بنيوياً الا ان التحولات في القيادة للتنظيم واختلاف الاستراتيجيات لديها والرغبة في تحقيق المصالح والمغانم ومدى الابتعاد والاقتراب من الدول الداعمة والممولة وغيرها من العوامل، اسهمت في حدوث انشقاقات في المستوى الاول لتنظيم القاعدة الارهابي، ابتداءً من انشقاق تنظيم داعش الارهابي وظهوره كتنظيم يسعى الى اقامة الدولة الاسلامية وفق استراتيجيته المبنية على محاربة العدو القريب بدلاً من البعيد، ومن ثم حدوث انشقاقات في بنية تنظيم داعش الارهابي على مختلف المستويات نتيجة عوامل متعددة، منها ما يتعلق ببنية التنظيم الداخلية ومنها بالبيئة الاقليمية والدولية جميعها اظهرت تنظيمات ارهابية كانت في الاساس جزء من القاعدة ومن ثم داعش الارهابين ومن ثم الرجوع فكرياً للقاعدة الام ومن ذلك جبهة النصرة التي تم تغير اسمها واستراتيجيتها من والى نتيجة اسباب داخلية وخارجية متعلقة بالتنظيم.

 وتجدر الإشارة إلى أنّ اسم جبهة النصرة مأخوذ من أحد النداءات التي يوجهها في نهاية كتابه الموسوم (أهل السنة في الشام في مواجهة النصيرية والصليبية واليهود)، "من الشام المباركة في مطلع الستينات كانت بداية انطلاق الجهاد، وفيها ازدهرت في الثمانينات، واليها تعود اليوم إن شاء الله، فالنصرة النصرة يا إخوة الجهاد".

 اذ لم يكن تنظيم جبهة النصرة سابقاً والذي تشكل عام 2011م الا كفرع لتنظيم داعش الارهابي التابع اساساً لتنظيم القاعدة الإرهابي، الا ان انفصال الاول عن الثاني جعل من الهيئة ترجع الى القاعدة (الثاني) ومن ثم الاستقلال عنهما كلياً في عام 2016م وليتم تسميتها فيما بعد (بفتح الشام) ومن ثم الاتحاد مع تنظيمات وفصائل اخرى لتكوين ما يعرف اليوم بــ(هيئة تحرير الشام) في عام 2017م بقيادة ابو محمد الجولاني الذي كان الساعد الايمن لزعيم داعش الارهابي والذي بدوره كان جزءاً من القاعدة، مما يدلل على وجود اختلافات بنيوية بين التنظيمات الثلاث.

 الا انها كانت في الغالب نتيجة تحكم مجموعة عوامل فيها منها التحولات على الساحة الدولية والاقليمية والهزيمة العسكرية التي تعرض لها تنظيم داعش الارهابي في العراق عام 2017م وفي سوريا في عام 2019م وتوالي القيادات نتيجة مقتل ابو بكر البغدادي ومن ثم ابو ابراهيم القرشي ومن بعده ابو الحسن القرشي ومن ثم ابو الحسين والتي لم تستطيع الاستمرار لأكثر من أشهر، كلها عوامل دافعة الى تغيير استراتيجية جبهة النصرة والتحول الى المحلي.

 اذ تحولت الهيئة فكرياً ومنهجياً بل حتى في آليات عملها وتحقيق اهدافها وفق خطية تسويقية ذات تخطيط استراتيجي بعيد المدى ولعل ذلك لم يأتي من فراغ او وفق مزاجيات قيادتها وانما نتيجة عوامل محلية واقليمية وعالمية، منها الجهود الدولية لمكافحة الارهاب العالمي والمصالح المتحققة لها في حال القبول بها كحركة مسلحة محلية، فضلاً عن الدعم الاقليمي لها من قبل تركيا مثلاً والتبادل الاستخباري معها في تصفية خصومها وبخاصة تنظيم داعش الارهابي ومقتل زعميه ابو الحسين القرشي خير مثال على ذلك، كذلك هناك تجربة ناجحة في نظر الهيئة والمتمثلة في حركة طالبان وكيف تغيرت استراتيجيتها وآلياتها ومن ثم توصلت الى الحكم مرة اخرى في افغانستان في عام 2021م بعد الحكم الاول في عام 1996م باتفاق وتعاون دولي.

اذ استمرت محاولات الجبهة بالتنحي عن الاساليب الجهادية العنفية والسير بأتجاه السلمية (الاقل وطأه من نظيراتها) ومنها على سبيل المثال لا الحصر المرونة في تطبيق المصالح والأحكام الشرعية، كما أنها لا تسعى لأخذ البيعة أو فرض سيطرتها على باقي الكتائب، وأنّ الجولاني سعى لإنشاء "مجلس شورى المجاهدين" لمنع حصر قيادة الجبهة بشخص واحد هو "الأمير" على التنظيمات الجهادية التقليدية.

 اذ يشير الكاتب حمزة المصطفى في بحثه الموسوم جبهة النصرة لأهل الشام: من التأسيس إلى الانقسام المنشور في سلسلة دراسات (سياسات عربية) العدد الخامس من قبل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات "ان الجبهة استطاعت التمايز عن باقي ألوية المعارضة وكتائبها في ما يتعلق بالعلاقة مع المجتمعات المحلية التي تتنشر فيها من أجل تأمين "الاستقرار الأمني" وحاجات الناس، وابتعدت عن سلوكيات الحركات الجهادية التقليدية مثل تطبيق الحدود الإسلاميّة، انطلاقًا من اجتهاد فقهي ينص على أنه "في الحروب لا تطبق الحدود"، وبناء عليه، فإنّ النصرة لم تظهر تجاهلًا متعمدًا للحياة البشرية، فهي لم تنشر مقاطع توضح تطبيق الحدود أو قطع الرؤوس والأيادي والإعدامات بحق المدنيين".

 اذ ان الجولاني سعى الى تغير الصورة النمطية للجهاد التقليدي المبني على العنف بعدما لاحظ عدم فائدته وفشله في تحقيق اهدافه سواء من قبل تنظيم القاعدة الذي يدين له فكرياً او تنظيم داعش الذي فشل هو الاخر في اقامة دولته على ارض الواقع، فضلاً عن المنافع والمصالح المتحققة للجبهة في حال تبني اللاعنف وتكوين منطقة ذاتية يسيطر عليها مدعومة من اطراف دولية واقليمية ومحاولة من الجبهة لإقناع الاطراف التي وضعتها على لائحة الارهاب بأنها ليست شكلاً تقليدياً للجهاد العالمي او المحلي، ولا تستهدف العدو القريب او البعيد بل هي نصرة لأهل الشام فقط وفي حدود جغرافية معينة، بل ان ذلك التغيير سيسهم في استقطاب المزيد من المؤيدين للهيئة سواء من حيث التجنيد البشري او الدعم المادي والفكري وهي عناصر اساسية لديمومة واستمرارية الهيئة في تحقيق اهدافها على مختلف المجالات، فضلاً عن ذلك فإن هذا الامر سيجنبها التعرض للضربات الدولية سواء من قبل التحالف الدولي او غيره مثلما تعرض تنظيمي القاعدة وداعش لتلك الضربات بخاصة قادته.

 فالتسويق الذي اعتمده زعيم الهيئة الجولاني من خلال التحولات الكثيرة سواء على مستوى الهيئة والتسمية او على المستوى الشخصي المتعلق بأساليبه وتعاطيه مع المتغيرات على الساحة السورية بخاصة والاقليمية والدولية بعامة، فالخطابات التي كانت ضد تركيا ووصفها بأنها عصا الغرب في المنطقة او تكفيره للحكومات العربية والنظام الايراني التي كانت حاضرة في المرحلة الاولى من بدايات الجبهة (الهيئة فيما بعد) غابت تماماً في المرحلة الحالية بل ان البعض من تلك الاطراف اضحت شريكاً له في الساحة القتالية وتصفية خصومه وبخاصة تنظيم داعش وتركيا خير دليل وبرهان على ذلك، وتدلل هذه الرسائل ان الجولاني ادرك خطورة الموقف في ادلب بخاصة مما يستدعي القيام بخطوات تسويقية داخل المجتمع السوري لتثبيت اقدام الهيئة.

 خلاصة القول ان التنظيمات الارهابية منذ نشأتها ادركت اهمية التسويق على المستويات المحلية والاقليمية والدولية لمنتجاتها سواء القيادية او العمليات والاهداف المبتغاة لما يحققه من اهداف تكتيكية لديمومة عملها الحالي وكسب المزيد من الدعم البشري والمادي والفكري فضلاً عن اهداف استراتيجية تتمثل في اقامة الدولة الاسلامية المنشودة بالنسبة للقاعدة وداعش الارهابين، واقامة منطقة ذاتية مستقلة بالنسبة لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، فكساد منتجات القاعدة اولاً واكسباير منتجات تنظيم داعش لما فيها من دموية ووحشية ثانياً لم يعد التسويق بمختلف اشكاله نافعاً، ليجد الجولاني الارضية المناسبة والتوقيت المناسب لتسويق الهيئة بالشكل السلمي اللاعنفي المعتدل مما يسهم في استمرارية الهيئة وزيادة مقبوليتها على الساحة المحلية والاقليمية والدولية.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق