على مدى السنوات الماضية، أصبحت المنشورات والتعليقات والصور ومقاطع الفيديو التي تتم مشاركتها عبر منصات التواصل الاجتماعي جزءًا من حياتنا اليومية؛ إذ يقوم مئات الآلاف -وأحيانًا الملايين- بمشاركة المنشور أو الصورة أو مقطع الفيديو، فهل فكر أحدنا في مدى صحة ودقة المحتوى الذي قام بمشاركته؟ وهل هذا المحتوى صائب أم لا...
بقلم: محمد أبو زيد
على مدى السنوات الماضية، أصبحت المنشورات والتعليقات والصور ومقاطع الفيديو التي تتم مشاركتها عبر منصات التواصل الاجتماعي جزءًا من حياتنا اليومية؛ إذ يقوم مئات الآلاف -وأحيانًا الملايين- بمشاركة المنشور أو الصورة أو مقطع الفيديو، فهل فكر أحدنا في مدى صحة ودقة المحتوى الذي قام بمشاركته؟ وهل هذا المحتوى صائب أم لا؟! سؤال يطرح نفسه بقوة بعدما باتت مواقع التواصل الاجتماعي البديل الأول والأقوى للإعلام التقليدي؛ فقد أصبح لمنصات التواصل الاجتماعي تأثيرٌ أٌقوى من الإعلام التقليدي، حتى أصبحت المصدر الأول للأخبار.
ومع تغوُّل السوشيال ميديا والهيمنة الكاملة لها على أنماط الحياة، زادت مخاطر نشر المعلومات والصور ومقاطع الفيديو المضللة، وبات الملايين حول العالم يخضعون لتأثيرات منصات التواصل الاجتماعي المختلفة ويقومون بمشاركة منشورات ومقاطع فيديو دون التأكد من صحتها أو دقتها أو تاريخ حدوثها.
من هنا تأت أهمية الدراسات التي تتناول دور وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) في حياة الشعوب، وتكشف مخاطرها على الحياة النفسية والاجتماعية للبشر.
ميول شخصية
في السياق، كشفت دراسة حديثة نشرتها دورية "ساينس أدفانسز" (Science Advances) أن احتمالية مشاركة المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي قد تتداخل مع ميل المستخدم إلى إصدار أحكام غير دقيقة حول ما إذا كان هذا المحتوى صائبًا أم خطأً.
تشير الدراسة إلى أن "هناك قلقًا واسع النطاق بشأن المعلومات المضللة (معتقدات زائفة مدفوعة في الأصل بالدعاية ونشر المعلومات المضلِّلة عن عمد)؛ إذ يتم تداول هذه المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، ما قد يجعل الناس عرضةً لتأثير الادعاءات الكاذبة".
وتحذر الدراسة من أن بيئة وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون لها آثارٌ نفسية تجعل المستخدمين أكثر تعرضًا لتصديق الادعاءات الكاذبة، مضيفةً أن "الدراسات السابقة حذرت من أن الطبيعة السريعة والعاطفية غالبًا لوسائل التواصل الاجتماعي قد تقلل من احتمالية تمييز المستخدم بين الصواب والخطأ".
دقة المحتوى
زود الباحثون المشاركين في الدراسة بصور وأخبار سياسية وصور وأخبار أخرى تتعلق بجائحة "كوفيد-19"، وطرح الباحثون سلسلةً متنوعةً من الأسئلة على المشاركين في الدراسة حول تصوُّرهم لدقة المحتوى وما إذا كانوا سيشاركونه أو يتفاعلون معه على وسائل التواصل الاجتماعي أم لا، ووجد الباحثون أن "المشاركين الذين أبدوا عزمهم على مشاركة المحتوى كانوا أسوأ في تمييز الحق من الباطل، وأنهم أكثر تعرضًا لتصديق الادعاءات الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي".
ولفتت الدراسة إلى أن "المشاركين كانوا مشتتين للغاية، وأنهم أعطوا الأولوية لمشاركة المحتوى على صفحاتهم مقارنةً ببحثهم عن مدى دقة هذا المحتوى وصحته، وأنهم لا يتنبهون إلى دقة المحتوى عند تحديد ما يشاركونه، وأن ميولهم إلى الدقة والتحقق تكون أسوأ عندما يفكرون أيضًا فيما يجب مشاركته".
وأضافت الدراسة أن "كثيرين ينتقدون مواقع التواصل الاجتماعي ويصفونها بأنها باتت تمثل تهديدًا للمجتمعات الحديثة أكثر من كونها أداةً لتعزيز الذكاء الجماعي والعمل، وأن الناس أصبحوا أكثر تعرضًا للوقوع في حب الأخبار المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي مقارنةً بالمصادر الأخرى للأخبار ومنها وسائل الإعلام الاحترافية".
الجودة المعرفية
تحذر الدراسة من أن "بيئات وسائل التواصل الاجتماعي غالبًا ما تفتقر إلى إشارات بارزة إلى الجودة المعرفية للمحتوى، على عكس الوسائط التقليدية، مثل الصحف والتلفزيون والمواقع الإخبارية، التي ترشح المحتوى بشكل طبيعي للتأكد من صحته من خلال مراجعته أكثر من مرة، بينما يمكن لأي شخص مشاركة أي منشور حتى ولو كانت كل المعلومات الموجودة فيه خطأ".
ونوهت الدراسة بأن النتائج التي توصلت إليها يمكن أن تساعد في منع انتشار المعلومات المضلِّلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك عبر مجموعة واسعة من منصات المشاركة الأخرى عبر الإنترنت، مثل وسائل الإعلام.
يقول جوردون بيني كوك، أستاذ مشارك في العلوم السلوكية في جامعة "ريجينا" الكندية، والمشارك في الدراسة: أجرينا تجارب عبر الإنترنت بمشاركة 3157 أمريكيًّا، ولم تتطرق الدراسة إلى الآثار النفسية والاجتماعية الضارة لمواقع التواصل الاجتماعي فقط، ولكنها توصلت إلى نتائج مهمة تفيد بأن الذين يشاركون المحتوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي هم الأقل حرصًا على الدقة والأقل حرصًا على معرفة ما إذا كان المنشور الذي بين أيديهم صحيحًا أم لا".
يضيف "بيني كوك" في تصريحات لـ"للعلم": سبق أن شاركت في دراسة مماثلة عام 2020 لمعرفة اتجاهات مستخدمي مواقع التواصل فيما يتعلق بمشاركة المحتوى، ووجدت تلك الدراسة أيضًا أن مستخدمي مواقع التواصل لا يتنبهون إلى الدقة عند مشاركة عدد كبير من المنشورات.
ويتابع: في هذه الدراسة تم إمداد المشاركين بصور وأخبار عن "كوفيد-19"، وأخبار أخرى ذات طابع سياسي، ووجدنا أن الأشخاص الذين أبدوا رغبتهم في مشاركة تلك المنشورات هم الأقل بحثًا عن مدى دقة المحتوى الموجود بين أيديهم وصحته.
المستوى التعليمي
وردًّا على سؤال لمجلة "للعلم" حول ما إذا كان للمستوى التعليمي دورٌ في مدى تفاعل الشخص مع منشور غير دقيق على مواقع التواصل الاجتماعي عبر مشاركته لهذا المحتوى، يقول "بيني كوك": نعم يمكن أن يكون لمستوى التعليم والدرجة العلمية تأثيرٌ على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بمشاركتهم للأخبار غير الدقيقة والوقوع في فخ نشر منشورات غير صحيحة ومضللة؛ فالأشخاص الذين لديهم مستوى تعليمي أفضل ودرجة علمية أعلى قد يتمتعون بمزيد من المهارات التي تساعدهم على التحقق من صحة المصادر والأخبار قبل مشاركتها، أما الأشخاص الذين لديهم مستوى تعليمي أقل فقد يعانون من صعوبة تحديد مصادر المعلومات الموثوقة.
من جهته، يتفق محمد السيد أحمد -أستاذ علم الاجتماع السياسي، ووكيل المعهد العالي للخدمة الاجتماعية في مصر- مع ما ذهبت إليه الدراسة.
يقول "أحمد" في تصريحات لـ"للعلم": أعتقد أن مَن يشاركون المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي يتعاملون -غالبًا- مع هذه المواقع كنوع من التسلية وليس بهدف الحصول على معلومات دقيقة، وهناك عدد كبير من مستخدمي مواقع التواصل لا يسعون إلى التحقق من صدق المعلومة أو كذبها، لذلك نجدهم أكثر ميلًا إلى عملية مشاركة المحتوى المنشور أصلًا بدلًا من إنتاج محتوى خاص بهم.
تشكيل الوعي
يضيف "أحمد": أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي إحدى أهم أدوات تشكيل الوعي في العصر الحديث؛ فالأشخاص يتلقون المعلومات والمعارف التي تمثل المادة الخام الأولية لتشكيل الوعي عبر مواقع التواصل الاجتماعي وليس من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية كما كان يحدث في الماضي، لذلك يجب البحث عن حلول واقعية لقضية نشر المحتوى الزائف عبر مواقع التواصل حتى يتشكل وعي حقيقي؛ لأن ترك هذه المواقع وعدم توعية الأشخاص بخطورة ما يُنشر عليها يدفعنا إلى الهاوية لأن قوى الشر تستخدمها لنشر الأكاذيب من أجل تشكيل وعي زائف.
وعن دور المستوى التعليمي في إيجاد تفاوُت بين الأفراد في مشاركتهم لمنشورات غير دقيقة عبر مواقع التواصل، يقول "أحمد": التعليم والدرجة العلمية من أهم المؤثرات التي يمكن أن تؤدي دورًا في مشاركة مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي لمنشورات غير دقيقة؛ لأن المستوى التعليمي من المفترض أن يعكس مستوىً ثقافيًّا ينمُّ عن اكتساب وعي يمكِّن أصحابه من التمييز واستخدام العقل في التعامل مع المنشور، وبالتالي يجعل الشخص يفكر كثيرًا في مضمون المنشور ويحاول التأكُّد من مصادره حتى يتمكَّن من معرفة مدى صحته قبل أن يقوم بمشاركته.
ويتابع: انخفاض المستوى التعليمي غالبًا ما يصاحبه تراجُع في مستوى الوعي وعدم إخضاع النصوص المنشورة لعين العقل، وإعادة نشر المحتوى دون تمحيص أو تأكُّد من مضمونها ومدى مصداقيتها.
دور المؤسسات
وعن كيفية التأثير الإيجابي في سلوك مستخدمي التواصل الاجتماعي لكي يحجموا عن مشاركة منشورات غير دقيقة أو يقللوا منها، يرى "أحمد" أن "هذا الأمر ربما يأتي عن طريق حملات توعية كبيرة لنشر الوعي وتأكيد خطورة هذه المواقع التي لا تستطيع الحكومات التحكم في المعلومات التي تنشرها".
يؤكد "أحمد" ضرورة أداء مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة أدوارها في عملية تشكيل الوعي، مضيفًا: يجب على الأسرة والمدرسة والجامعة والمؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام تكثيف جهودها عبر مشروع توعوي حقيقي لتحذير مستخدمي مواقع التواصل من التعامل مع المعلومات المنشورة على أنها حقائق، وأن عليهم التشكك من كل خبر منشور فيها واعتباره مكذوبًا حتى يتم التأكد من صحته".
من جهتها، توضح مي مصطفى -أستاذ الإعلام في أكاديمية أخبار اليوم- أن "نشر المعلومات المضلِّلة والمحتوى المكذوب ظاهرة موجودة منذ فترات طويلة، وهي مرتبطة في الأساس بالصحافة الصفراء التي طالما اعتمدت على نشر أخبار غير دقيقة".
تقول "مصطفى" في تصريحات لـ"للعلم": تتمثل أهم عوامل انتشار المحتوى المضلِّل وغير الدقيق عبر مواقع التواصل في استخدام عناوين مثيرة وصادمة، واللعب على قيم إخبارية سلبية واستمالات عاطفية، وهو ما يُسهم في مشاركة المحتوى والحكم عليه بالعاطفة وليس العقل، كما أن أوقات الأزمات والحروب تزيد مساحة نشر المعلومات والصور والأخبار والمحتوى المضلل وغير الحقيقي.
فخ المشاركة
تتفق "مصطفى" مع الآراء السابقة التي ترى أن مستوى التعليم يؤدي إلى الاختلاف بين الأشخاص في مشاركتهم لمنشورات غير حقيقية عبر مواقع التواصل، مضيفةً: كلما ارتقت الدرجة العلمية، زادت قدرة الشخص على التحقُّق من المعلومة وتقصِّيها قبل نشرها، لكن هذا لا يمنع أن هناك أشخاصًا حاصلين على درجات علمية عالية يقعون في فخ مشاركة منشورات غير حقيقية.
وعن كيفية معالجة هذه الأزمة، تقول "مصطفى": تتمتع مواقع التواصل بآليات تمكِّنها من التحقق من المعلومة بالإضافة إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يمكن عن طريقها منع انتشار المحتوى المضلِّل، وتشير دراسة نشرتها دورية "فسيولوجي ساينس" إلى أن "توعية المشاركين بضرورة الدقة في الحكم على المحتوى والعناوين ضاعفت ثلاث مرات من قدرة الخاضعين للدراسة على التمييز بين المحتوى الحقيقي والمكذوب".
اضف تعليق