يلجأ المراهقون وأطفال المدارس إلى منصات التواصل الاجتماعي من أجل التنفيس عن شعورهم بالمعاناة الاقتصادية والاجتماعية، ما يجعلهم فريسةً لمشاعر الخزي والدونية وتضخيم الذات والنرجسية، اذ يعتقد المراهقون أن الحياة الافتراضية على منصات التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها يمكن أن تمثل بديلًا للعالم الحقيقي...
بقلم: تامر الهلالي
على مدى العقود الماضية، تسارعت وتيرة استخدام "الإنترنت" ومنصات التواصل الاجتماعي بصورة ظهرت معها مصطلحات جديدة مثل "فيسبوك" و"واتساب" و"إنستجرام" و"تويتر"، ولم يتوقف الأمر عند حدود تلك المصطلحات "الوظيفية" التي دخلت القاموس اليومي لمستخدمي "الشبكة العنكوبتية"، بل صاحبَها أيضًا مصطلحات اجتماعية ونفسية أهمها "إدمان مواقع التواصل الاجتماعي".
يشير "إدمان مواقع التواصل الاجتماعي" (PSMU)، وغيره من المصطلحات مثل "استخدام الإنترنت الإشكالي" و"اضطراب إدمان الإنترنت"، إلى إفراط الأشخاص في استخدام الإنترنت وقضاء معظم أوقاتهم في استخدامه في أشياء غير مفيدة، ما يُسبب لهم اضطرابًا سلوكيًّا يؤثر على حياتهم الاجتماعية ويمنعهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي.
وبالرغم من أن "إدمان مواقع التواصل الاجتماعي" غير معترَف به رسميًّا باعتباره "إدمانًا سلوكيًّا"، إلا أن الإفراط في استخدام الإنترنت يُعَدُّ من أهم القضايا التي تؤثر على الشباب بدنيًّا وذهنيًّا"، في حين تشير بعض التقديرات إلى أن عدد مَن يعانون من "إدمان مواقع التواصل الاجتماعي" يُقدر بأكثر من 210 ملايين شخص في جميع أنحاء العالم، ويتزايد العدد بمرور الوقت.
وبلغة الأرقام، فإن "56.8% من إجمالي سكان العالم ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعني أن حوالي 4.48 مليارات شخص يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم، وأن أكثر من نصف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و12 عامًا لديهم ملفات تعريف شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن معظم منصات وسائل التواصل الاجتماعي لديها حد أدنى للسن يبلغ 13 عامًا أو أكثر.
الفوارق الاجتماعية
ووفق دراسة حديثة أجراها فريقٌ بحثي دولي من جامعات كندية وإيطالية وهولندية وألمانية، فإن "الفوارق الاجتماعية تدخل ضمن عوامل تنامي إدمان مواقع التواصل الاجتماعي بين المراهقين وطلاب المدارس المنتمين إلى الطبقات الأقل من حيث المستوى الاجتماعي مقارنةً بغيرهم".
وأوضحت الدراسة التي نشرتها دورية "إنفورميشن كوميونيكيشن آند سوسايتي" (Information Communication & Society)، أن "المراهقين الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية تعاني من الحرمان الاقتصادي يكونون أكثر تعرُّضًا للاستخدام الإشكالي لوسائل التواصل وإدمان استخدامها، وأن دعم الأسرة والأقران يؤثر بالإيجاب كعامل وقائي لتفادي تلك المشكلة، في حين تُسهم المستويات المنخفضة من دعم الأسرة إسهامًا واضحًا في تفاقُم الأزمة".
شملت عينة البحث 179 ألفًا و49 طفلًا من 40 دولة ضمت معظم الدول الأوروبية إضافةً إلى كندا، وتراوحت أعمار المشاركين بين 11 و13 و15 عامًا، وتم استقاء الأدلة والبيانات من دراسة دولية تُجريها منظمة الصحة العالمية كل أربع سنوات عن السلوك الصحي لدى الأطفال في سن المدرسة.
وطلب الباحثون من الأطفال إكمال استبانات من أجل تحديد السلوك الشبيه بالإدمان المرتبط بوسائل التواصل الاجتماعي، وتم ملء الاستبانات دون الكشف عن هوية الأطفال في وجود إشراف في الفصل من قِبل مدرس أو محاور مدرب.
وتم تصنيف كل طفل أبلغ عن ستة عناصر أو أكثر على أنه يعاني من "إدمان مواقع التواصل الاجتماعي"، ومن أهم هذه العناصر الشعور بالدونية عند عدم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والفشل في قضاء وقت أقل في استخدام منصات التواصل الاجتماعي، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للهروب من المشاعر السلبية.
ولجأ الباحثون إلى التعرُّف على الحالة الاجتماعية للأطفال المشاركين من خلال أسئلة الأصول المادية لأسرهم، مثل امتلاك الأسرة لسيارة وعدد الحمامات الموجودة في منازلهم، وعدد الإجازات العائلية التي قضتها أُسرهم خارج البلاد في العام السابق على بدء الدراسة، وربط الباحثون كل هذه العوامل بالمقاييس الدولية لثروات الدول التي ينتمي إليها الأطفال، والدعم الاجتماعي الذي تحصل عليه أسر الأطفال، ودرجة المساعدة المقدمة من الأقارب والأصدقاء، إضافةً إلى نسبة السكان الذين يستخدمون الإنترنت في كل بلد.
الحرمان وعدم المساواة
خلص الباحثون في الدراسة، التي تُعد الأولى من نوعها، إلى وجود صلة بين عدم المساواة الاقتصادية و"إدمان مواقع التواصل الاجتماعي"، واستخدام تطبيقات المراسلة الفورية مثل إنستجرام وفيسبوك وواتساب في أوساط التلاميذ، مؤكدين أن "الوضع يصبح أسوأ في المدارس التي تتجلى فيها عناصر الثروة والفروق الاجتماعية بين زملاء الدراسة".
وأظهرت النتائج كذلك أن "المراهقين الذين كانوا أكثر حرمانًا نسبيًّا من زملائهم في المدرسة، والذين التحقوا بمدارس غير متكافئة اقتصاديًّا، كانوا أكثر تعرُّضًا للإبلاغ عن معاناتهم من إدمان مواقع التواصل الاجتماعي".
ووجد الباحثون أن "الوضع يصير أسوأ بكثير في حجرات الدراسة التي تظهر فيها الفوارق الاجتماعية بين الأطفال، وأن الأطفال الذين يعانون من الحرمان يلجأون إلى مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التنفيس عن مشاعرهم السلبية أو الهروب منها، وتخفيف العواقب السلبية لشعورهم بالحرمان بصورة نسبية".
واستنتجت الدراسة أن "حصول الأطفال الذين يعانون من الحرمان على مستويات منخفضة من دعم الأصدقاء أدى إلى تزايُد الارتباط بين شعور هؤلاء الأطفال بالحرمان النسبي وإدمانهم لمنصات التواصل الاجتماعي، وفي المقابل، فإن حصول هؤلاء الأطفال على مستويات عالية من دعم الأصدقاء يمكن أن يخفف عواقب عدم شعورهم بالمساواة".
أعراض سلبية
وتشمل أعراض "إدمان مواقع التواصل الاجتماعي" بعض الأنماط السلبية، مثل عدم القدرة على تقليل وقت الشاشة، أو الكذب على الأصدقاء والعائلة بشأن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وفق الدراسة.
ورأى الباحثون أنه "يجب على صانعي السياسات والمسؤولين في المدارس اتخاذ إجراءات للحد من آثار عدم المساواة الاقتصادية ومكافحة أنماط سوء التكيُّف المنعكس في استخدام المراهقين لوسائل التواصل الاجتماعي".
من جهتها، توضح "ميكيلا لينزي" -الباحثة في قسم علم النفس التنموي والاجتماعي في جامعة بادوفا الإيطالية، والمشارِكة في الدراسة- أن "الفكرة الأساسية التي تربط بين عدم المساواة وإدمان مواقع التواصل الاجتماعي لها علاقة بعمليات المقارنات الاجتماعية".
تقول "لينزي" في تصريحات لـ"للعلم": انطلقنا من الأدبيات المكثفة حول العواقب السلبية لعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى الدولة وآثارها على الصحة البدنية والعقلية للمراهقين، مثل الأعراض النفسية، والنشاط البدني الأقل، والسلوكيات المحفوفة بالمخاطر، والتنمر، ووجدنا أن أحد التفسيرات الرئيسية لهذه الآثار السلبية أنه في السياقات التي تكون فيها التفاوتات في الثروة أكثر وضوحًا، يصبح الوضع الاجتماعي والاقتصادي بارزًا جدًّا، ويميل كثيرٌ من الناس إلى تفسيره على أنه مرادف لقيمة الشخص، ومن المرجح أن يُجريَ الأفراد مقارناتٍ مع ذويهم، ويمكن أن يؤدي القلق بشأن الحالة الاجتماعية إلى عواقب سيئة، منها الشعور بالخزي والدونية، أو تضخيم الذات بشكل مصطنع.
التعلُّم الاجتماعي والعاطفي
تضيف "لينزي": نظرًا إلى أن المقارنة الاجتماعية شائعةٌ جدًّا على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد اعتقدنا أن عدم المساواة قد يكون لها أيضًا عواقب ضارة تؤدي إلى إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، فقد يستخدم المراهقون وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها وسيلةً للتنفيس عن مشاعرهم السلبية أو الهروب منها، وقد يكون لديهم دافعٌ أكبر لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي من أجل إيجاد مقارنات اجتماعية بديلة أو قدوة ملهِمة، وقد يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي من أجل تقديم نسخة محسّنة من حياتهم، وقد تؤدي كل هذه العمليات (التي يجب تقييمها في البحث المستقبلي) إلى استخدامٍ غير منظم وإشكالي لوسائل التواصل الاجتماعي.
وتتابع: تمثل المدرسة أحد السياقات الرئيسية للتدخلات التي ينبغي ربطها بالسياسات التي تستهدف الحد من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى الدول، ويجب أن تعتمد المدارس على التدخُّلات التي تتبنى التعلم الاجتماعي والعاطفي بهدف تطوير الوعي الذاتي والكفاءة الذاتية والمهارات الاجتماعية الضرورية للتعلُّم والصحة النفسية، ونظرًا إلى الدور المهم لدعم الأصدقاء، يجب على المعلِّمين تبنِّي تقنيات التدريس التعاوني من أجل تعزيز التماسُك الاجتماعي داخل الفصل الدراسي والمدرسة، جنبًا إلى جنبٍ مع التدريب على المهارات الرقمية.
تحقيقات ودعاوى قضائية
من جهته، يرى فادي رمزي -المتخصص في مجالات التسويق الإلكتروني والإعلام الرقمي- أن مُخرَجات الدراسة تُعد تأكيدًا وتوثيقًا علميًّا لما صرحت به فرانسيس هوجين، عالِمة البيانات ومهندسة البرمجيات الأمريكية ومديرة المنتجات في فيسبوك، حين أدلت بتصريحات عن أثر استخدام منصات فيسبوك وإنستجرام على المراهقين ضمن تحقيق داخلي أجرته شركة ميتا بلاتفورمز التي تملك منصات فيسبوك وإنستجرام، ومن بين ما ذكرته أن وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر سلبًا على صحة المراهقين وخاصةً الإناث، وبشكل خاص فيما يتعلق بثقتهن بمظهرهن ورضاهن عنه من عدمه، ما دفع الشركة إلى تعليق إصدار نسخة إنستجرام خاصة بالأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 سنين و12 سنة، لكنه كان تعليقًا مؤقتًا، وهناك العديد من الدعاوى القضائية التي تربط وسائل التواصل الاجتماعي بمشكلات الصحة العقلية لدى الأطفال؛ إذ زعمت الدعاوى القضائية أن "إنستجرام" –على سبيل المثال- تَسبَّب في إدمان أطفالهم لتلك الخدمة وإصابتهم بالاكتئاب والقلق وفقدان الشهية.
كما اتهمت تحقيقات وشكاوى منصة "إنستجرام" بالتأثير سلبًا على الصحة النفسية والجسدية لكثيرٍ من المراهقين، وأنه يمثل ضغوطًا تتعلق بمقارنة أنماط الحياة وصورة الجسد ويؤدي في بعض الأحيان إلى إصابتهم باضطرابات في تناوُل الطعام وصولًا إلى الأفكار الانتحارية، واتهمت إحدى الدعاوى شركة "ميتا بلاتفورمز" بالمساهمة في انتحار فتاة تبلغ من العمر 11 عامًا.
كما نوهت الدعاوى بأن شركة "ميتا بلاتفورمز" على علمٍ بأن بعض المستخدمين أصبحوا مدمنين لخدماتها، وأن الشركة فشلت في التحقُّق من أعمار المستخدمين، وفشلت في حماية القُصَّر من الرسائل الجنسية.
يقول "رمزي" في تصريحات لـ"للعلم": يعتقد المستخدمون وبخاصة المراهقين أن الحياة الافتراضية على منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن تمثل بديلًا للعالم الحقيقي وأنها وسائل آمنة للتعبير عن شخصياتهم، لكن الخوارزميات التي تتبعها المنصات لا ترى الأشخاص سوى أرقام يبنون عليها خوارزميات تستهدف الربح.
مقاييس علمية سليمة
بدوره، يرى أحمد عصمت –المدير التنفيذي لمنتدى الإسكندرية للإعلام، والخبير المتخصص في تكنولوجيا الإعلام والتحول الرقمي- أن الدراسة تمثل خطوةً مهمةً في البحث في هذا المجال؛ لأنها متعددة المحاور واعتمدت على مقاييس علمية سليمة.
يقول "عصمت" في تصريحات لـ"للعلم": يُحسب للدراسة ربطها بين إدمان مواقع التواصل الاجتماعي والوضع الاقتصادي والاجتماعي، ليس فقط على مستوى فردي، بل من خلال سياق المدرسة أيضًا، كما ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك باستقصاء تأثير التفاوت الاقتصادي داخل حجرات الدراسة.
ويؤكد "عصمت" صعوبة تعميم نتائج الدراسة على بلدان أخرى، مضيفًا: للأسف لم تشمل الدراسة بلادًا ناميةً أو فقيرة، لكن يبقى من الممكن إجراء دراسات مطابقة تستخدم النهج البحثي المتميز نفسه في بلدان أخرى.
وكانت دراسة سابقة، أُجريت على عينةٍ بلغت 154 ألفًا و981 مراهقًا من 29 دولةً في أوروبا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط، قد ربطت بين "إدمان مواقع التواصل الاجتماعي" وتراجُع معدلات الرفاهية، في حين أكدت دراسة أخرى أهمية التدخل المبكر من قِبل مسؤولي المدارس لمواجهة إدمان الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعي.
اضف تعليق