إذ إنَّ العالم الافتراضي لا يراعي سلّم الأولويات في البناء الثقافي، فالشخص عليه أن يراعي تخصصه الذي اختاره أو دائرة الحركة والتأثير التي يسعى لها أو يتصل بها ويحدد مساره بعيداً عن الفوضى المعرفية أو العشوائية، وهو ما يضبط بوصلة التوسع المعرفي وإلا سيكون المنتج المعرفي أو الثقافي هشّ تغلب عليه السطحية والسذاجة...
يتفق الجميع أنَّ التراكم المعرفي سمة ايجابية، وهو أمر ضروري؛ فقد يسهم بخلق وانتاج مسار جديد للمعرفة الإنسانية وتحقيق إنجازات فعلية. ويتميز الفرد ذو التراكم المعرفي بالقبول والعلمية والموضوعية في الطرح والبحث، وتتسم المجتمعات التي تستفيد من تراكمها المعرفي أو التراكم المعرفي العالمي بقدرتها على تغيير واقع حالها الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي وغيره؛ لأنَّ الأصل في مفهوم التراكم المعرفي هو القدرة على انتاجها وحفظها وتيسير سبل تناقلها.
لكن هذا التراكم المعرفي قد يولد إشكالات أو خللاً ما، من أبرزها:
أوَّلاً: يتمثل في كيفية توظيف هذه المعرفة على أرض الواقع لخدمة البشرية وتطورها؛ فالذي يحدث أنَّها غالباً ما يتم تداولها بعيداً عن الواقع.
ثانياً: قد يخلق التراكم تخمة معرفية أو تضخماً معرفياً، أي أنَّ التحصيل المعرفي لقضية ما يصبح أكبر من القدر المطلوب للشخص المعني بالمعرفة، وهي من الظواهر التي انطلقت متزامنة مع عصر توفر المعلومات بيسر عبر الوسائط الإلكترونية. وتشير الإحصاءات إلى أنَّ المعلومات العامة تتضاعف كلّ سنتين ونصف ممَّا يؤدي إلى فقدان النقد والتحليل حيث أنّ تخمة المعلومات وطريقة العرض لا تتيح الفرصة لوضعها في ميزان التقييم أو معارضتها.
فبالتالي قد تتسبب التخمة المعرفية بما يلي:
- عدم إضافتها لتعلم جديد ومعرفة جديدة.
- تؤدي إلى حدوث ما يسمَّى بالفوضى المعرفية.
فالفوضى المعرفية ناجمة عن تدفق كمية مفرطة من المعلومات بشأن مشكلة ما، ممَّا يجعل حلّ تلك المشكلة أكثر صعوبة، بسبب نشر التضليل المعلوماتي والشائعات المرافقة لهذا التدفق لاسيما في الأزمات وأثناء فترة الطوارئ كما حدث في الأزمة الصحية العالمية (فايروس كورونا)، وهذه الفوضى ستعيق الاستجابة الفعالة؛ وتؤدي إلى حالة من الارتباك وعدم الثقة عند الناس. وتُظهر الأبحاث أنَّ كم المعلومات وشدَّة تدفقها غير القائم على الأدلة عبر منصات التواصل الاجتماعي كان سريعاً ومحموماً وبوتيرة أعلى من انتشار الموثوق منها عبر المنصات نفسها.
لقد أتاحت وسائل التواصل للجميع قول ما يريدون ونشر ما يريدون، وفتحت تلك الوسائل نوافذ المعرفة بكافة أشكالها بحيث أصبح امتلاك المعلومة متاحاً للجميع وطرحها متاح للجميع دون قيد التخصص والممارسة، كما أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي لم تقتصر على أنّها آلية نشر وكسب معلومة بل أصبحت مرجعاً فكرياً وثقافياً للمعرفة، وهذا الأمر صنع ثقافة الفوضى، وفوضى الثقافة.
إذ إنَّ العالم الافتراضي لا يراعي سلّم الأولويات في البناء الثقافي، فالشخص عليه أن يراعي تخصصه الذي اختاره أو دائرة الحركة والتأثير التي يسعى لها أو يتصل بها ويحدد مساره بعيداً عن الفوضى المعرفية أو العشوائية، وهو ما يضبط بوصلة التوسع المعرفي وإلا سيكون المنتج المعرفي أو الثقافي هشّ تغلب عليه السطحية والسذاجة.
اضف تعليق