التعريف يسلط الضوء على فهم معنى مصطلح الانسان الرقمي لكنه لا يستطيع تفسير عملية التداخل والتبادل في الأدوار والاعمال بين الانسان والرقمنة التي تجاوزت كل الحدود والفواصل الزمانية والمكانية لأنها حولت المستخدم الى انسان رقمي يعيش في عالم افتراضي يختلف تماما عن الواقع او الانسان...

مقدمة

مصطلح "الانسان الرقمي" حديث نسبياً نشأ وعرف مع التوسع في استخدام التكنولوجيا في مختلف مفاصل حياة الانسان اليومية (البيت، المعمل، المدرسة، الشارع...الخ) منذ أواخر عقود القرن الماضي، وصولاً الى المرحلة التي تداخلت فيها هذه التكنولوجيا مع خصوصية الانسان كفرد ذابت فيه الفوارق بين التكنولوجيا الرقمية وحياته بكل تفاصيلها وانفعالاتها النفسية وقيمها المعنوية (الروحية) والمادية والتي بدأ مفعولها في بداية القرن (21) مع انطلاق مواقع ماي سبيس وفيسبوك وما تبعها من مواقع أخرى (تويتر، واتساب، سناب شات، انستغرام، تلغرام...الخ).

ويعرّف "الإنسان الرقمي" بانه "الشخص الذي ولد خلال طفرة التكنولوجيا أو بعدها وتفاعل مع التكنولوجيا الرقمية منذ سن مبكرة، ولديه قدر كبير من الإلمام بهذه المفاهيم"، بديلاً عن ذلك قد يطلق هذا المصطلح على الأشخاص الذين ولدوا خلال الستينيات أو بعدها، حيث بدأت التكنولوجيا بالظهور في ذلك الوقت، لكن غالباً هذا المصطلح يركز على الأشخاص الذين نشؤوا مع التكنولوجيا التي انتشرت في الجزء الأخير من القرن العشرين واستمرت بالتطور حتى يومنا هذا، بعض الأحاديث والنقاشات تصف الإنسان الرقمي بالشخص الذي يفهم قيمة التكنولوجيا الرقمية ويستخدمها للبحث والسعي لإيجاد فرص ينفذها ويكون لها تأثير.

"أما مصطلح (المهاجر الرقمي) فهو من ولد قبل وجود هذه التقنية الرقمية لكنه آمن وصدق بها وبتأثيرها في المستقبل البعيد".

التعريف يسلط الضوء على فهم معنى مصطلح "الانسان الرقمي" لكنه لا يستطيع تفسير عملية التداخل والتبادل في الأدوار والاعمال بين الانسان والرقمنة التي تجاوزت كل الحدود والفواصل الزمانية والمكانية لأنها ببساطة حولت المستخدم الى انسان رقمي يعيش في عالم افتراضي يختلف تماما عن الواقع او الانسان وقيمته الحقيقة.

يقول المؤلف الامريكي "نيل بوستمان" إن التكنولوجيا ليست محايدة، يعني أن منافعها وأضرارها ليست متوقفة على استخدام الناس لها، لكن استخدامات أي تكنولوجيا تتوقف بشكل كبير على هيكل هذه التكنولوجيا ذاتها، فوظائفها مستمدة من تركيبها، التكنولوجيا ما إن يتم إقرارها حتى تفعل ما صممت لفعله، ووظيفتنا أن نفهم هذا التصميم.

"في كل تكنولوجيا يكمن تحيز أيديولوجي، أي ميل لتكوين العالم على أساس دون أساس آخر، تضخيم شعور أو مهارة أو موقف بشكل أكبر من مثيله".

"في كل وسيلة نخترعها هناك فكرة كامنة تتجاوز وظيفة تلك الآلة نفسها، الساعة، مثلا، غيرت مفهوم الناس للوقت، فالعالم المصنوع من الدقائق والثواني يختلف عن العالم المصنوع من الفصول والشمس، لقد أدت الساعة لتحويل وجهة النشاط الإنساني وربما علمتهم عدم توقير الطبيعة، واختراع النظارة في القرن الثاني عشر لم يؤد فقط لتحسين الإبصار وإنما لتعليم الناس فكرة جديدة وهي أن هبات الطبيعة أو صروف الدهر ليست نهائية، وأن أجسادنا وعقولنا قابلة للتحسين".

ومثلما سهلت هذه التكنولوجيا والآلات المرتبطة بها انتقال حياة الانسان نحو الأفضل في جانبها الحياتي المادي، وفي مجالات وقطاعات مختلفة كالنقل والصحة والتعليم والرفاه الاقتصادي وسرعة انجاز العمل واختصار الجهد والوقت، فإن أثرها السلبي على قيمة الإنسان وترابط الإنسانية بمعناها الاعم كان حاداً ومزعجاً الى مستوى كبير ومؤثر حتى على القرارات الشخصية التي يقوم باتخاذها الانسان بحسب ما تؤكده أبحاث الطبيب النفسي "غراهام ديفي" المختص في دراسة القلق وأثر الأخبار السيئة في حياة الأفراد، ومفادها أن ردود الأفعال على الأخبار السلبية تنتقل من مجرد كونها انفعالًا مؤقتًا إلى عامل مؤثر في قرارات الفرد الشخصية وحياته الخاصة.

الاحتياج الى الرقمنة في حياتنا العملية والإنتاجية ساهمت بفائدة كبيرة في صناعة الحضارة والتطور الذي شهدته البشرية في العقود الأخيرة، لكن أثرها على إنسانية الإنسان وروحه كان مدمراً، لان الانسان لا يعرف بجانبه المادي وكما يقول المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله): "قيمة الإنسان ترتبط بروحه ونفسه أولاً، لا ببدنه المادي فحسب، والإنسان الجامد يكون حجر عثرة أمام كل انطلاق".

لذلك فان فكرة التلاعب بقيم الانسان الأخلاقية والمعنوية القائمة على الفطرة السليمة التي جبل عليها من خلال "وسائل تواصل اجتماعي افتراضي" تعتمد على تغذية الانسان قيم وعادات واخلاق ومفاهيم جديدة ذات صبغة رقمية أدت الى ضمور انساني وروحي كبير على المستوى العالمي أدى الى ارتفاع في مستوى خطابات الكراهية والعنف والشعوبية والتميز العرقي والمصالح الخاصة والالحاد ومحاربة الأديان التي جاءت بالأساس للقضاء على التفكير المحدود كما يقول المرجع الشيرازي (رحمه الله): "تقوم الأديان السماوية على مصلحة الإنسان، لذلك فإن للأديان وخصوصاً الإسلام القدرة على اقتلاع جذور الأفكار الضيقة المبنية على مصلحة القوم أو الفئة أو العرق أو اللغة أو الجغرافية، وبالدين تكونت أمم عامرة وقامت حضارات زاهرة".

ان قيمة الانسان بإنسانيته وليس برقمنة افعاله وانفعالاته وتصرفاته، او التصرف وفق ما تمليه عليه تكنولوجيا العالم الافتراضي التي يتفاعل معها بعيداً عن مشاعره وانسانيته التي ينبغي ان تكون في مقدمة افعاله وردودها، وهو ما يشير اليه المرجع الشيرازي: "الإنسانية وحدة واحدة، واللازم على الإنسان خدمة الإنسان الآخر مهما كان لونه وعقيدته واتجاهه"، كما "يجب أن ينظر الإنسان إلى أخيه الإنسان بعين إنسانية، فيساعده بأقصى ما يتمكن، ويخفف عنه المآسي، وينقذه من الأخطار، ومن أشد الأخطار فتكاً على الإنسان والمجتمع العقائد الخرافية والأفكار الهدامة".

لقد شاهد الجميع عندما حلت ازمة فايروس كورونا COVID-19)) كيف برزت الحاجة الى الإنسانية في التعامل العالمي مع هذه الازمة المرعبة، وكيف فشلت دول ومؤسسات وافراد في التعاطي معها وفق المفهوم الأخلاقي بعيداً عن المادية والمصالح الشخصية الضيقة، خصوصاً وان المعدن الحقيقي يظهر في الأوقات الاستثنائية ومن دون التأثر بالدعاية والاعلانات والترويج الوهمي للواقع: "ليتذكر الإنسان أنه رهين عمله، وأن أعماله ستعرض في الآخرة أمام الملأ، فما يخبئه الإنسان سيظهر إن عاجلاً أو آجلاً".

الخلاصة

الخلاصة تكمن في الحاجة الفعلية الى إعادة النظر بمجمل النشاطات الرقمية التي يركز عليها الانسان في حياته اليومية وخصوصاً بما يتعلق بأنشطته الاجتماعية التي تحولت الى عالم افتراضي سلب الواقعية منها بصورة كبيرة حتى تحولت الى ثقافة رقمية راسخة لا يمكن التخلص منها او تحجيمها بسهولة، وقد أشار المرجع الراحل الى حقيقة هذا التغيير الثقافي بالقول: "ترسم الثقافة اتجاه الإنسان، إن خيراً فخير، أو شراً فشر، وإن التغيير الثقافي يفتح نافذة واسعة على التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي"، وبالتالي فان هذا التغيير اثر سلباً على قيم الإنسانية ومعاني الخير فيها إضافة الى التغيير الحاصل في المجالات الأخرى.

وكما انه "لا يكون الإنسان من اليوم الأول عادلاً كاملاً أو زاهداً كاملاً أو شجاعاً كاملاً أو كريماً كاملاً أو عالماً كاملاً وإنما يصل إلى القمة تدريجياً"، فان التغيير والعودة الى الإنسانية بمعناها الحقيقي بعيداً عن الواقع الافتراضي ورقمنة الحياة تحتاج ايضاً الى التدرج في الصعود الى القمة الأخلاقية مجدداً من خلال:

1. العمل على الفصل بين فوائد التكنولوجيا ومضارها والفصل بينهما وتحديده ونشره بين المستخدمين على نطاق واسع وفق حملة إنسانية عالمية.

2. ينبغي المقارنة بين الاشاعة والكذب والعنف والبغض والحقد والكراهية والعنصرية والالحاد والعزلة والكأبة، والتي تعتبر كأدوات تستخدم من خلال الواقع الافتراضي لتمزيق التواصل البشري بمعناه الإنساني وتحويل البشر الى مجتمعات مغلقة تحكمها الكراهية والمصالح الضيقة، وبين الواقع الاجتماعي الحقيقي العابر للحدود الذي تحكمه القيم الإنسانية والأخلاقية الفطرية القائمة على التعاون والاخاء والمحبة والسلام ونبذ العنف.

3. تكاتف الجهود الإنسانية للعودة الى الفطرة السليمة في التواصل الاجتماعي وان لا يبقى الانسان رهينا للاستبداد الرقمي والواقع الافتراضي الذي ألغى المصلحة العامة واستبدلها بالمصالح الخاصة بل وضيق التواصل الاجتماعي الحقيقي حتى داخل الاسرة الواحدة.

4. تقسيم الأجيال بين "رقمي" و "مهاجر" زاد من التباعد الأخلاقي والترابط الإنساني بين الشباب وكبار السن وبالتالي خلق فجوة اجتماعية ذات اثار مدمرة، وعلى المصلحين وقادة المجتمع والمفكرين والمثقفين الاهتمام بهذا الواقع ومحاولة رأب الصدع ومعالجة الاثار الاجتماعية الناتجة عنه.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2020Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق