q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

روح التاريخ

الدراسات التاريخية وجدلية البناء الحضاري (8)

مقدمة في مناهج البحث التاريخي

يبحث المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه (فلسفة التاريخ) "عناصر روح التاريخ"، في مدركات روح التاريخ، وهي التعبير عند المجدد الباحث، عن قوانين فلسفة التاريخ، إذ تبين العناوين الفرعية لهذا الفصل، ثنائية "الفطرة والعقل"، وتأثير المادة التاريخية وعقلية المؤرخ، في الوصول الى حقيقة روح التاريخ، وإدراك القوانين والعوامل الفاعلة فيها.

والى ذلك يشير المبحث الافتتاحي، الى تفريع الإدراكات الفاعلة في فلسفة التاريخ، الى إدراك عن طريق الحواس، أو الإدراكات الحسّية، وهي ما يتماهى والمنهج الحسّي "الإمبريقي Empirical method "، وفيه استدلال من مقولة العالم الفيلسوف "إبن سينا"، "من فقد حسّا فقدْ فقدَ علما"، ومن ثم الإدراكات من جهة التفكّر والتعقّل، وبما يتماهى والمقاربة الذهنية، أو المنهج العقلي Mental approach.

ويستدل المبحث، الى التكاملية التوافقية، بين العلم والدين، في التلاحك الوظيفي، بين الدالّتين في كل منهما، بعكس معطيات الصراع التاريخي، بين العلم والكنيسة، الذي شهده المجتمع، قبيل عهد النهضة الأوربية، بما يعبر عنه بالصراع بين الأفكار التقليدية والأفكار الزمنية.

جدلية القول بفلسفة التاريخ من رفضها

وفي هذا الجزء من البحث، يتوضح السجال بين القائلين بالروح العامة للتاريخ، والرافضين لها، وينتهي الباحث المجدد، الى الميل لوجود الروح العامة للتاريخ، والفلسفة التحليلية للمفردات التي يجمعها شيء واحد، ولكنها بشرائط، يتطلب توفرها لتحقيق النتيجة، بمعنى لتستقم قوانين الفلسفة، في قراءتها للوقائع، حيث أن المصادفات، لا تمنع الروح العامة، وأنها نسبية وليست مطلقة، كما في فلسفة العلوم الأخرى، إذ أن أدوات فلسفة التاريخ، هي ذاتها في الروح العامة للتحليل، في سائر العلوم غير الطبيعية.

ومن المنهجية العلمية، يخلص الى أن العلوم الطبيعية وسواها، تقوم على منطق الكليات دائماً، بينما يقوم التاريخ، على منطق الكليات بشرائطها، فهنا مقاربة منطقية بين فلسفة العلم، والروح العامة للتاريخ أو فلسفته، بما يدحض مزاعم معارضيها، ومن بينهم الفيلسوف الإغريقي "أرسطو".

مداخلة في مناهج الفكر العلمي

إن هذه الكليات الجامعة، قد بينها الفيلسوف "ابن رشد"، في كتابه "الكليات في الطب"، ثم في كليّاته الأخرى، والتي اعتمد فيها أداة الاستقراء، وقد اعتبرت فتحاً للمنهج العلمي التجريبي، ودراسة الفكر في تاريخ العلوم، "أو الإبستيمولوجية Epistemology"، والذي أكده الفقيه المفكر، العلامة الحلي، في وصفه العلم التجريبي، بكونه المنهج الأول، الذي يقارب فيه الإنسان، الفكر العلمي، من خلال المدركات الحسية.

الجدلية الحضارية في الأسباب والمسببات

وفي هذا المبحث، ينصرف عنوان "صناعة التاريخ"، الى ثنائية الأشخاص والحضارات، والتبادلية في هذه الصناعة، بين شخصية الفرد والحضارة، وفي جدلية الأسباب والمسببات والنتائج، فالمقدمات الحضارية والمجتمعية، تهيئ لبناء الشخصية التاريخية، وإن هذه الشخصيات المبدعة، هم بناة الحضارات، وبهم يجري تشكيل حركة المجتمع.

ويرى الباحث المجدد، استثناء النماذج المقدسة، من طبقة الأنبياء وسواهم، من جدلية هذه التبادلية التاريخية، فهم لا تصنعهم الحضارات، إنما إرادة الله سبحانه، والى ذلك كان عنوان "الأنبياء صنّاع التاريخ"، الذي يحتج فيه على كلّ من النظرية المثالية "الهيجلية"، التي قامت على أساس أن الفكر، هو المنتج للمادة، وبالتالي لحركة التاريخ، بينما النظرية المادية "الماركسية"، تقوم على أساس أن المادة هي الأصل، وهي التي تنتج الفكر، ومراحل حركة التاريخ، من خلال نمو وسائل الإنتاج، والنشوء الطبقي.

القوانين الحاكمة في فلسفة التاريخ

ثم يعرض الفصل، وفق دراسة معمّقة، مشفوعة بالأمثلة التاريخية، الى أبرز القوانين الحاكمة، في فلسفة التاريخ، مبتدءا بعنوان "مسؤولية الإنسان"، من خلال الموقف إزاء الفكر والعمل، في معيار الحسن والقبح العمليين، وثم لعنوان "الجبر والاختيار وعلاقتهما بالتاريخ"، في رفض الإطلاق، سواء للجبرية أو للاختيارية في التاريخ، ويخلص في ذلك الى أن الإنسان ليس مغلوب الاختيار والإرادة، والحرية ليست وهماً وخيالاً، محتجاً بالقاعدة الفكرية الإسلامية، "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين اثنين".

ثم في عنوان "حركة التاريخ بحرية الفرد"، بمعنى تغير الآراء تبعا لتغير الزمان والمكان، مما يؤشر التفرد الخاص بالمنهج التاريخي، الذي يفرض دراسة التغيرات الزمانية والمكانية، فضلاً عن الشرائط والخصوصيات، في التاريخين القريب والبعيد، وهي التي يرى الباحث المجدد فيها العلة، في دقّة التبوء في العلوم الطبيعية، التي لها فلسفة كونية ثابتة، بينما لا تكون كذلك في التفسير التاريخي، إلا من خلال تنبؤات بعيدة المدى، واسعة النطاق.

ويتبع البحث في عنوان "النظام بين الاستشارية والاستبداد"، حيث يشكل التاريخ، ركناً في استقراء الماضي، وفهم الحاضر، ودراسة المستقبل، بين هذين الشكلين من أنظمة الحكم، فالاستشارية في الاصطلاح الإسلامي، أو الديمقراطية في الاصطلاح الغربي، أفضل أساليب الحكم، كونها تهيء الجو الكامل للحرية، التي تطلق الكرامة والعدالة الإنسانية، والكفاءة والتفوق في الأداء، واختيار الأصلح للحكم والمسؤولية، وشغل الوظيفة العامة.

وبرغم أن للباحث مآخذه على ديمقراطيات الغرب، لجهة إعمال الرقابة الخارجية فيها حصراً، ولاعتماد مبدأ الأكثرية، في مهمة التشريع، وفي احتمالية الاستغلال السيء للحريات، وفي التنصل المحتمل عن المسؤوليات، فضلاً عن مساواتها بين العالم وغيره، ضمن مبدأ المساواة أمام القانون، مما يخنق الإبداع، لكنه يرى أنها الخيار الأفضل والأمثل للحكم، من خلال انتخاب الأمة لممثليها بحرية، مقارنة بالاستبداد والديكتاتورية، التي تتفوق فيها القوة على الحقيقة، ويعنى بها القوة الغاشمة، كما أن الديمقراطية، هي الطريق الأقل محذوراً، لأن الاختلاف لا يمكن أن يُجعل سبباً، لاختلاف القوانين المجعولة، أو "الوضعية" في لغة الفقه القانوني.

حيث تسعى الاستشارية من خلال الحقيقة، لاستخدام القوة لصالح الإنسان، وفق المنهج السليم لها، في تغليب "منطق الحقيقة على منطق القوة"، ويثبت الباحث المجدد، أن الاستشارية الإسلامية، تتجاوز المآخذ في الديمقراطية الغربية، من خلال الوازع الإيماني في رقابة الذات، واعتماد الأدلة الأربعة في التشريع، فضلاً عن الجوانب القيمية والسلوكية الإسلامية، إذ تؤدي الى الاستقامة والتقدم، في نزوعها نحو القانون الإلهي السليم.

مقاربة للمنهج الحفري "الأركيولوجي"

وفي هذا العنوان الفرعي ذاته، يخلص الباحث المجدد، الى مفهوم يتماهى ومنهج القراءة المعمّقة للنصوص التاريخية، في ولوج طبقاتها الجيولوجية، التي تراكمت عليها تأثيرات الزمن، مما يستوجب إزالة ترسباتها، وفق تعبير منظري منهج الحفر أو النبش "الأركيولوجي"، إذ يرى الباحث، أنّ من يريد ملاحظة الخطاب المكتوب في فلسفة التاريخ، عليه أن يلاحظ الحالة الحضارية والنفسية للأمة، التي تتشكل وتتأثر بطبيعة الحكم، إن كان استبداداً أو عكسه، فيقوم المؤرخ في هذه المهمة، بقراءة ما وراء المفردات التاريخية، كي لا يظلم الأمة، بما لا قدرة لها عليه، وعليه فإن مهمة المؤرخ، هي قراءة الفكر في النص، أو ما يعبّر عنه، بالمسكوت عنه في الطبقات القشرية منه.

وفي عنوان "الهجرة ومسيرة التكامل"، يعرض الباحث المجدد لمسألة، تمثل قانوناً حاكماً في فلسفة التاريخ، بأن الهجرة والتغرب، هي من عوامل تفجر الطاقات، وتحريك الأمم وبزوغ الحضارات، ونمو المواهب، ويرى أن الإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية، كونها تحدد مسيرة التكامل الإنساني، ويحتج الباحث بأمثلة وشواهد تاريخية، لشخصيات عبرت الحدود، وتحملت المسؤوليات، بمن فيهم الأنبياء، وهو ما يدعو إليه، في انتخاب شورى الفقهاء، دون النظر الى موطن العضو فيها، وذلك ينصرف الى جميع نواحي الحياة، ومجالات المسؤولية فيها، لجهة توليتها على أساس الكفاءة، وليس على أساس العرق، ويستشهد المبحث الى ذلك، بأمثلة وشواهد واسعة، من التاريخ العربي الإسلامي، حتى فترة ما قبل قرن من الزمن.

حوار الحضارات مقابل صراعها

ويختم الباحث هذا الفصل المحوري التأسيسي، في عنوان رائع، ومتفرد في جرأة طرحه، بين الأدبيات المقاربة، وهو "علينا أن نمنع الغرب من السقوط"، في "مسألة" مهمة واعية، وذات نظرة إيجابية واقعية، منفتحة على الآخر، للوصول الى روح الحضارة البشرية، وفلسفة الحياة الإنسانية، من خلال التلاقح والحوار والتواصل، بين المجتمع الإسلامي، بقيمه وروحه، والغربي بنظامه وجماليته وتطوره العلمي، وهي معالم مستمدة من تموجات الحضارة الإسلامية، كمثل مبادئ التعددية والشورى والعدالة الإنسانية، بهدف تجديد انطلاق الأول، ومنع الثاني من السقوط.

وبذا تدعم هذه الرؤية، الواعية المنفتحة، للمجدد المفكر، مستقبل الحضارة الإنسانية، والمجتمع البشري، في دعوة صادقة، لحوار الحضارات وتلاقحها، بدلاً من تخرّصات الأكاديمي الأمريكي، "صموئيل هنغتن"، في كتابه المثير للجدل، عن صراع الحضارات، في زعم جدليته وحتميته.

اضف تعليق