تبقى عملية الاحتفاء بالرموز التي أحدثت نقلة نوعية ببصمة متفردة في حياة الأمم التي انتمت إليها مصدراً من مصادر تجديد حيوية الأمة التي تريد أن تنأى بنفسها عن كل أشكال التنميط الذي يجعلها تراوح في مكانها في وقت تتقدم فيه الأمم الأخرى وبسرعة مذهلة.
وعندما يتم الإحتفاء بقيمة علمية وفكرية كبيرة وشاخص كبير كشخصية الإمام المجدد الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته) لابد أن يأخذ هذا الإحتفاء أبعاداً متعددة علّها تصل إلى أولى السلالم التي يمكن أن ترتقي منها لهذه القيمة الإسلامية الهائلة.
وينبغي التوقف طويلاً قبل الإنتقال من سُلّم لآخر؛ وذلك للعمق الواضح الذي تجسد في كتابات وطروحات المجدد الراحل والذي يمثل - لو تم التأمل والتدبر فيها - مفتاحاً لحلول الكثير من المشكلات التي ظلت أشبه بالأبواب العصية على الفتح.
فقد قدم المجدد الثاني وطيلة سنوات عمره الشريف مناهج ونظريات وآليات للكثير من الموضوعات ذات التماس المباشر بالإنسان المسلم كالشورى بين المبدأ والمعارضة ومبادئ الحكم والحاكم الإسلامي وغيرها على الصعد الإقتصادية والإجتماعية والثقافية فضلاً عن طروحاته في مجال العمل المؤسساتي، كما كتب في مواضيع العولمة واللاعنف والمشاريع التي تنهض بواقع المجتمعات الإسلامية حتى حاز وعن جدارة لاتليق إلابه على لقب سلطان المؤلفين، كما أن له سابقة توشيج العلاقة بين الناس والعالِم فكان أنموذجاً لريادة المرجعية الميدانية حيث اللقاء بسائر فئات المجتمع مباشرة ومن دون وساطات مسبقة مماخلق جواً من الراحة والطمأنينة التي تمتعت بها المجتمعات المسلمة تحت جناح هذا العالِم الجليل.
نحن ندرك صعوبة الإحاطة بالمنجز العلمي والفكري للمجدد الشيرازي الثاني؛ لأن محاولة الإرتقاء لعطائه الكبير الذي كسر به الأطر التقليدية يحتاج إلى ما هو أبعد من المقالات والدراسات، وربما أصبنا هدفنا بإقامة المؤتمرات السنوية المتعددة وتخصيص المواضيع المصيرية التي كتب فيها تحليلاً وتشخيصاً ومعالجات كعناوين لهذه المؤتمرات.
والكثير غير الإمام الراحل حاول أن يكسر الجمود والنمطية لكن المحاولات ظلت مرتبكة لظروف كثيرة باستثناء قلة قليلة يقف المجدد الشيرازي الثاني في طليعتها فيحدثنا التأريخ أنه مضى في مشروعه الكبير فكانت موسوعته الفقهية التي تجاوزت المئة وخمسين مجلداً مع سعيه وتأكيده الدائمين على إنشاء المعاهد والأندية الإجتماعية الخيرية والثقافية لتجوس هموم مجتمعها وتقترب من آماله وتطلعاته.
وقبل أن نغوص أو نحاول الغوص - بتعبير أدق- في فكر الإمام الراحل لابد من التأكيد على توسيع المساحة التي يمكن أن تصل إليها أفكاره المتوقدة والتي أثبتت طيلة سنين غيابه أنها تمارس مكوثها وخلودها في القلوب الحية والضمائر المتجددة وذلك عبر دراسات موضوعية تمخر عباب التجربة العلمية الفذة والتعريف بها وبعناصر ديمومتها واستمرارها كواحة خضراء لها ربيعها العلمي والمعرفي، كما يجب تدوين تراثه بما يتوافق مع الأساليب الحديثة في الأرشفة والتدوين؛ لنضمن للأجيال القادمة إرثاً ضخماً تظل تفخر وتعتز به وبهويته وخصوصيته الإسلامية، وتباهي به موروثات الأمم الأخرى.
تفرده في عولمة الفقه
غالباً ما تثير أية حركة تجديدية في الكثير من الموضوعات جدلاً حول الهدف من الحركة ومدى نجاحها في إقناع الذين ظلوا على متبنياتهم التقليدية الكلاسيكية، ومثل هذه الحالة لم تغب عن بال الإمام المجدد وهو يقود سفينة التجديد الكبيرة ويعبر بها بحار الفكر والعلم بثقة وثبات؛ لأنه أدرك ببصيرته النادرة سرعة التحولات المرحلية، وبالتالي لابد من تجديد الأنساق المواكبة لهذه التحولات مع ضمان عدم تعارضها مع الثوابت الإسلامية، والموروث الإسلامي يحدثنا ان النص الشرعي يقول: "إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها وينهض به".
والإمام الراحل ليس بغريب عن أجواء الفكر المتجدد فهو سليل عائلة علمية رفدت الإنسانية بالأعلام الشاخصة، وقد أعطى صورة إسلامية جديدة وناصعة صارت محط اهتمام الكثير من أعلام الفكر المسلمين وغير المسلمين إذ أعاد صياغة الثقافة الدينية وجعلها تنسجم مع مستجدات العصر وتغيراته فهو رائد التجديد على مستوى الفقه الذي نقله من الحالة الفردية للإنسان المسلم وعلاقته بربه إلى المنطق الإجتماعي راسماً له خطوطاً وأبعاداً شرعية فتفرد في الكتابة بفقه الإدارة وكيفية معالجة المشاكل الإدارية بمعالجات فقهية عميقة ودقيقة . كما تناول العلوم التي تعتبر عند النمطيين علوماً غربية بطريقة لم تبتعد عن خصوصية التشريع الإسلامي وبذلك أعطاها هوية و شخصية مستقلة.
المجدد الشيرازي وريادة الومضة الفكرية
برز مصطلح الومضة في النصوص التي لها علاقة بالأجناس الأدبية المختلفة، فكانت الومضة الشعرية والومضة القصصية او ما يسمى اليوم بالقصة القصيرة جداً كوسيلة من وسائل تجديد الأدب وشكل من اشكال الحداثة.
والومضة لغة: ومض، يقال: ومض البرق أي لمع خفيفاً، وأومض فلان: أشارة إشارة خفيفة، وهذا المعنى يقترب من التلؤلؤ السريع والتوهج الذي يفضي إلى الدهشة بجملة قصيرة تؤدي غرضها بكثافة عالية تمكنها من النفاذ إلى المتلقي، وتكتب الومضة بتركيز عال.
وكما تقدم، فإن المجدد الشيرازي الثاني كان مواكباً ومتابعاً لحركات التجديد في المجالات التي جاوزت متطلبات العصر الحديث ومستجداته المرحلية فكانت له ريادة أخرى أثبتت فاعليتها الكبيرة حين نقل الومضة - بمعناها الأعم - من السياق الأدبي إلى السياق الفكري والعلمي والمعرفي بعد أن أدرك أن إيقاعات الزمن صارت متسارعة بشكل كبير فقدم العديد من الومضات الفكرية التي لعبت دورها الإيجابي في قدح شرارات الوعي الإنساني، فبدلاً من أن يستغرق الإنسان ساعات أو ربما أيام في قراءة دراسة أو بحث أو كتاب، يأتي الإمام الشيرازي ويقدم له فرصة قراءة الآراء والأفكار باختزال و تكثيف بحيث يمكن للومضة إعطاء نفس المدلول الفكرية والثقافي والإجتماعي الذي جاءت في سياقه، كما لو جاءت في الكتابات المطولة لتصير الومضة المفكرة إن صح القول من الإبتكارات التي تسجل لهذا الرمز الكبير، الأمر الذي يجب أن تلتفت إليه الفعاليات العلمية والأكاديمية في الجامعات العراقية وجامعات البلدان الإسلامية والعالمية من خلال تشجيع طلبة الدراسات العليا على كتابة رسائلهم في الماجستير وأطاريح الدكتوراه في موضوعة الومضة المُفكرة اعتماداً على أنموذج المجدد الشيرازي الثاني ومن سار على خطاه؛ حتى تكون الومضة بثوبها المعرفي أيقونة من أيقونات الفكر المتوهج فتعتمد لعمقها وكثافتها.
ومن المفيد في هذا الصدد استعراض بعض الومضات المختارة التي جاد بها يراع المجدد الشيرازي الثاني:
* إن كل تضييق في أفق الإنسان يسبب تضييقاً على الذات في الحياة، ويفقد الإنسان المجالات الرحبة للسير والتقدم.
* المجتمع السليم هو الذي يعطي حاجات الروح والبدن في نطاق الطاقة الإنسانية والطاقة الكونية، لا في نطاق الهوى والميول.
* الحرب أسوأ شيء عرفه الإنسان في تأريخه الطويل؛ لأنها توجب قتل الإنسان وإثارة البغضاء بين البشر، وإيراث الأجيال العقد النفسية.
* إن أي تفريق بين المسلمين يعتبر من أشد المحرمات في الإسلام؛ لأنه يشتت الأمة الواحدة فتسهل سيطرة الكفار على بلاد الإسلام.
* إن التجديد يبدأ من نفس الإنسان، فإنه إذا لم يصلح الإنسان نفسه لا يمكنه من إصطلاح غيره من بني نوعه أو المحيط المتعلق به.
* لايُباع الفاسد إلّا بلافتة جميلة.
* ينبغي أن يكون التصلب في الحق لا في الرأي.
* إذا كنت راضياً بما أنت فيه لم يكن لك هدف.
* العنيف يعيش في جحيم نفسه.
مشكلة الحضارة الحاضرة تدخل الحكومات في كل شؤون الناس.
* يُسأل العقلاء عن الأدب لا عن السبب.
* المعيار روح القانون لاحجمه.
* من يكثر ذكر القانون أكثر خرقاً له.
* النجاح من ولائد الفشل كما أن الفشل من ولائد النجاح.
* من لايستفيد من التأريخ يكرر التجربة الخاطئة.
وهذا غيض من فيض، أو ربما بوصف أبلغ قطرات من المحيط الفكري للمجدد الشيرازي الثاني الذي ينبغي أن يُحتفى بذكراه العابقة بشكل يليق بقيمته التجديدية الهائلة.
اضف تعليق