بأي شيء يختلف القادة عن بعضهم؟، هل جميع الحكام همّهم السلطة فقط، وهل يتشابهون جميعا في رغبتهم بحماية العرش من السقوط؟؟، إن السلطة مغرية وبالفعل تدفع الحاكم الى التشبث بالسلطة، ولكن صفحات التاريخ تؤكد أن هنالك قادة مخلصون، وبُناة حقيقيون لدولهم وشعوبهم، إنهم القادة المخلصون.
هكذا كان قادة المسلمين العظام في قمة الاخلاص، وبهذه الملَكة استطاعوا أن يوحدوا المسلمين وينون دولة الاسلام الكبرى كما فعل قائد الاسلام الأعلى النبي محمد (ص) والامام علي (ع)، فالتاريخ القريب والبعيد يقص لنا بأن مجتمع الجزيرة العربية قبل الاسلام، كان عبارة عن مجاميع قبلية متفرقة، تتناحر فيما بينها، ويغزو بعضها بعضا، وتسودها قيم وتقاليد واعراف، تبيح الظلم، وتحث على التجاوز المتبادَل، أما الجانب الايجابي فهو ضئيل قياسا للجوانب السلبية الكثيرة، لذلك لم يكن هناك مجتمعا متوحدا قويا، ولم تكن لديهم اهداف واضحة المعالم، باستثناء ما يتعلق بسد الحاجيات الآنية، لكن الحال اختلف بعد مجي الاسلام.
فقد رسخ الاسلام قيما جديدة وعظيمة في المجتمع، وكان السر في بزوغ تلك القيم مبادئ وتعاليم الدين الجديد، حيث بدأت تحتل مكان القيم والعادات المتخلفة، ومن تلك القيم قيمة عليا تتمثل بالاخلاص في مجالات الحياة كافة، هكذا بدأ الناس عموما، يعرفون قيمة الاخلاص، ويتمسكون بها، بعد أن قطفوا ثمارها فلمسوا الفارق الكبير في التقدم عندما تمسكوا بها كقيمة عليا، ويكفي دليلا على ذلك، الفرق الشاسع بين الانسان المخلص المجتهد وبين غيره، ممن لا يعطون أهمية تذكر للاخلاص، فيمضون أوقاتهم باللهو، واختلاق الاعذار التي تسمح لهم بتبديد الوقت، وعدم اعطاء الاهمية المطلوبة للاخلاص في العمل المطلوب منهم، فينتهون الى نتائج بائسة وفاشلة، اما القادة الناجحون، فإنهم المخلصون الحريصون على بناء الدولة والمجتمع قبل بناء السلطة، لأن النتيجة الطبيعية لبناء الدولة هي بناء السلطة وليس العكس.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الاخلاص سر التقدم): ان (الإخلاص هو طريق إلى التقدم الإنساني، وهو سرُّ كل تطور تشهده البشرية). هكذا تتلخص قيمة التمسك بالاخلاص، والقدرة على بناء الدولة والشعب، وما يتمخض عن ذلك من تحصين العرش وحمايته بصورة آلية من لدن الأمة والشعب، لأن القائد الذي يبني دولته قبل سلطته يستحق دعم الشعب، ويستحق أن يرفعه شعبه على رأسه.
كيف نحقق النجاح الكبير
لا يرغب الانسان بالفشل قط، حتى أولئك الذين يكرهون العمل ويميلون الى الاسترخاء، وعندما يبتغي الانسان نتيجة طيبة عن أفعاله التي يؤديها في هذا المجال او ذاك، فإنه حتما يتمنى أن تكون النتائج محصورة بالنجاح والتفوق، وهي أمنية يتمناها الجميع، ولكن لا يدرك الانسان ما يتمناه دائما، فهناك شروط ينبغي الالتزام بها بدقة من اجل الوصول الى النجاح والتفوق الكبيرين، ويشترط بذلك ان يكون الانسان مخلصا، بمعنى اذا أراد الانسان أن يحقق نجاحا في هذا المجال او ذاك، عليه أولا أن يقرن هذا العمل والسعي بهذه القيمة، ولا ينحصر النجاح في العمل الدنيوي، بل حتى العمل الاخروي يشترط ذلك حتى يكون النجاح مضمونا للانسان المؤمن من خلال تمسكه بالقيم الصحيحة.
ويؤكد الامام الشيرازي في هذا المجال: (إذا شرع الإنسان في عمله وعلمه بإخلاص وإيمان نجح نجاحاً منقطع النظير). ولا يتعلق الاخلاص بالمسؤولين الكبار والقادة فقط، فحتى ابسط الناس ينبغي أن يكون مخلصا في عمله، حتى يرتاح ضميره، ويشعر بالرضا عن نفسه، فالمعلم عندما يؤدي التعليم بصورة جيدة تفيد الطلبة سوف يعد من المخلصين، وهكذا بالنسبة للمهن والاعمال الاخرى، لذا فإن هذه القيمة لا تنحصر في المجالات العملية فحسب، بل يشمل جميع الاهداف التي يسعى الناس الى تحقيقها، ومنها على سبيل المثال الاهداف التربوية التي تخص الأسرة أيضا، فعندما نقوم بتأسيس أسرة، يشترك فيها الرجل والمرأة، فإن أهم ما يسعى إليه الطرفان هو تربية الابناء تربية جيدة، تضمن لهم النجاح والتميز، وهو امر تسعى إليه المجتمعات الراقية المتطورة، فعندما يتم التخطيط السليم للتربية الصحيحة باخلاص، عند ذاك يتم تحقيق الهدف المطلوب للفرد وللعائلة وللمجتمع في وقت واحد.
لهذا السبب يؤكد الامام الراحل على الجانب التربوي قائلا: ان (الإخلاص في تربية الأبناء يبني مجتمعاً متماسكاً، وقادراً على البقاء والتقدم والرقي والإخلاص في التعليم والتعلُّم، يسمو بالمجتمعات إلى مراتب عالية في الحضارة والعلم)، وثبت أن التربية الأسرية لها قصب السبق في تطوير الفرد ومن ثم المجتمع، وقد تأكد هذا لدى الامم والشعوب التي تأكدت من قوة هذا المبدأ وتأثيره في تحقيق النتائج الكبيرة، فتمسكت به بقوة، و وصلت من خلاله الى ما وصلت اليه الآن من تقدم وتطور ورقي، حتى بلغت قيادة الركب العالمي أجمع، في التقدم والارتقاء، والسبب كما هو واضح اعتماد هذه الركيزة في بناء الفرد والمجتمع والدولة بوقت واحد.
ما هي النتائج المأمولة من هذا المنهج؟؟
هل هو منهج حياة أن نكون مخلصين؟ وماذا يريد الانسان عندما يكون مخلصا؟ سؤال يشمل الجميع، ولكن كلما ازدادت مسؤولية الانسان تضاعف أهمية هذه القيمة في عمله وقراراته، فاذا كان من صناع القرار، أي ضمن منظومة الحكم، فإن الاخلاص هنا لا يعود عليه فقط بالنتائج الجيدة، وانما على الأمة كلها، ولهذا يؤكد الامام الشيرازي كثيرا على أهمية أن تُقرَن الاعمال بهذا المنهج، ويرى سماحته، أن أكثر الطرق استقامة وقربا وضمانا لتحقيق النجاح في الاهداف المنشودة للفرد والمجتمع، هو الالتزام مع الفعل والعمل والعلم والفكر، وكل ما يخطط الانسان للسعي نحوه وتحقيقه، فإذا غاب شرط الاخلاص غابت الرؤية الدقيقة والتنفيذ السليم، وعمّ الارتباك والفوضى، فتكون النتائج واضحة مسبقا، أي أن غياب هذه القيمة سوف يؤدي الى الفشل من دون أدنى شك، وعلى العكس من ذلك، إذا كانت الاعمال والافكار مقرونة بهذا الشرط الاساس، فإن النتيجة الحتمية هي التوفيق والتقدم.
لذا يشير الامام الشيرازي الى: (ان الإخلاص في العمل، أي عمل كان، سيؤدي إلى الوصول إلى الأهداف المرجوة من ذلك العمل، بل هو أقرب الطرق وأكثرها استقامة إلى تلك الأهداف)، وهكذا يستطع الانسان المخلص والمتمسك بهذا المبدأ أن يحصل على نتيجة النجاح المضمون قبل غيره، وعندما يروم الانسان تحقيق عمل ما أو هدف محدد، ولابد أن الافراد الذين حققوا نجاحا في مشاريعهم واعمالهم في الدنيا والآخرة، قد تمسكوا به، كسبيل مؤكد، يقودهم بصورة لا تقبل الشك، الى ما يبتغونه من نتائج مرموقة، وبهذا يصبح الاخلاص من ضرورات حياة الانسان، كما يرى ذلك الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (لو لم يكن الإخلاص من الضرورات في حياة الإنسان، لما ورد هذا التأكيد على الإخلاص في آيات كثيرة من القرآن الكريم).
في الخلاصة صار بحكم المؤكد أن هذه القيمة لها دور كبير وحتمي في بناء الدولة على أسس راقية تمضي بالأمة والشعب الى حالة عليا من الارتقاء، وهذا بالضبط ما حدث في تجارب التاريخ، مع الشخصيات الفذة التي تمكنت من خلال تفانيها وإخلاصها من أداء دور متميز، أسهم في نقل الشعب أو الأمة من حالة الخراب، الى فضاء البناء والحرية والنجاح.
اضف تعليق