كأي شيء ذي حدّين، جيد ومسيء، هكذا هي العولمة، فيها جانب يفيد الإنسان، وآخر على العكس من ذلك تماما، ولكن لو أننا بحثنا في جوهر العولمة الغربية، سنلاحظ أن الهدف الأول لها، ليس مصلحة الانسانية، إنما مصلحة الغرب والفكر الغربي، والأهداف الغربية، التي تتركز على مسألة كيفية السيطرة على العالم وعلى المعمورة، لكي يبقى الغرب قائدا للبشرية، وكي يبقى النموذج الغربي هو الأكثر انتشار وتأثيرا في المجتمعات الأخرى، لذلك قيل أن أمريكا تسعى كي يكون القرن الحالي قرنا أمريكيا يتسيّد فيه النموذج الأمريكي على النماذج الاخرى.
ولكن هناك تناقض بين العولمة وبين توجهات الأمم الأخرى، لاسيما الاسلام، فعولمة الاسلام سبقت عولمة الغرب بكثير، وهذا أمر يعترف به الجميع، حيث تمكنت مبادئ الاسلام أن تساوي بين الجميع وتتيح الحرية للجميع، وتنقل الانسان من حالة الجهل والغيبوبة في توافه الحياة، الى الوعي والقدرة على الابتكار والانتاج الافضل، حتى غدت العلوم متاحة للجميع، فأخذها الغرب عن طريق التراجم ووظفها لصالحه، على العكس من الاسلام الذي يعطي للجانب الروحي والمعنوي حيزا كبيرا من اجل بناء المجتمع السليم.
ان العولمة الغربية تستمد وجودها واستمرارها من الماديات، وتتنكر للروحانيات بصورة شبه تامة، وهذا مأزق كبير تعاني منه العولمة الغربية الآن، لا سيما في الجانب الاقتصادي، حيث الوفرة المالية عالميا تنحصر في ايدي شركات او افراد لا يشكلون سوى نسبة قليلة من سكان الارض، في حين يرزح ملايين البشر تحت وطأة الفقر والجوع والحرمان، بسبب الجشع والاحتكار والنزعة المادية التي تهيمن على معظم الانشطة الاقتصادية في عموم عالم اليوم.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: العولمة): إن (الغرب ـ عادة ـ ينظر إلى الأشياء كلها من الجانب المادي فقط كما إنه لا يهتم بالإنسان كمحور في هذا الكون، ولذلك جاءت عولمته التي طرح فكرتها وحاول تطبيق نظريتها في العالم خالية من المعنويات، ومن الاهتمام بالإنسان، وإنما تتمحور عولمته حول الاقتصاد والماديات).
عولمة الغرب تسحق الفقراء
وهكذا بات العالم اجمع مهددا بالعولمة المادية خاصة ان الاستحواذ على مقدرات العالم لا تزال تنحصر بأيدي الأقلية، التي توظف الاحتكار من اجل تحقيق اهداف متعددة المسارات، منها وأهمها الاهداف السياسية، ثم صنع النموذج الغربي وتعميمه على الجميع، ولعل أسوأ ما يمكن أن يتمخض عن حصر الثروات بأيدي الاقلية، يتمثل بانتشار المجاعات والتخلف والجهل والمرض، كما يحدث اليوم في أمكنة كثيرة من العالم، منها ما يحدث لسكان القرن الافريقي، والمجاعة المستمرة.
وثمة سبب يتقدم الاسباب الاخرى دائما، هو النزعة المادية التي يتعامل بها المحتكرون العالميون في ادارة الاقتصاد العالمي، فيتم سحق الفقراء أكثر فأكثر، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي: (وعلى أثر ذلك نتج الفقر والحرمان، والجهل والمرض، والحرب والدمار، وملايين الجائعين، وملايين المرضى، وملايين الأميين، وملايين المعوّقين، وملايين المشرّدين والمهجّرين، وما إلى ذلك من المآسي والويلات المترتبة على مادية الغرب ومادية عولمته).
لذلك هناك نموذج آخر للعولمة يمكن أن نجده في العولمة الاسلامية، فهي لا تضع المادية أساسا لنشاطها، بل دائما يغلب عليها الجانب الروحي الانساني، فتقف بذلك الى جانب الانسان قبل الربحية، بمعنى هناك موازنة بين انسانية الفرد وبين حاجاته المادية.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي قائلا: (إن عولمة الإسلام تنظر إلى الجانب الروحي والمادي معاً، ومراعية للمعنويات أيضاً، ومهتمة بالإنسان كمحور أساسي، وقد جاءت كاملة شاملة تجمع بين النمو والازدهار الاقتصادي، وبين العدل والأخلاق في الجانب الإنساني).
ولعل الجانب الانساني ومراعاة ذلك يعد من أهم مزايا العولمة الإسلامية، كما نقرأ ذلك في كتاب (الفقه العولمة) للامام الشيرازي كما نقرأ ذلك في قول سماحته: (من المؤكد واليقين أن العولمة الإسلامية قادرة على رفاهية وإرغاد حياة البشر، وإسعاد بني الإنسان دنيا وآخرة، فالعولمة الإسلامية هي وحدها من بين الجميع، الجامعة للنمو والازدهار، والعدل والأخلاق للبشرية جمعاء، وتاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام، خير شاهد على ذلك).
لا ينحصر الأمر في الجانب الانساني ومراعاة حقوق الانسان بل في المجال الاقتصادي والمعنوي والأخلاقي أيضا حيث يؤكد سماحة الامام الشيرازي قائلا: (إن العولمة الاقتصادية الإسلامية حملت بين جوانحها كل مقوّمات الحضارة والسعادة والتقدم والرقي والازدهار والتطور، ونفي الفقر والحرمان، فهي تشتمل على الحكومة الشرعية والاقتصاد الأمين، والقوانين المالية العادلة، والوحدة العالمية بكل أبعادها الحضارية).
في حين يمكن أن يستخلص المتابعون من واقع الحال العالمي، محاولات حثيثة لسحق الفقراء، تسعى إليها العولمة الغربية التي لا تعبأ بنتائج اندفاع الغرب نحو تحقيق مآربه، بسبب امتلاكه القوة والوسائل، وعدم تردده في استخدامها من اجل مصالحه، حتى لو كانت النتيجة مزيدا من المشاكل والمآسي للفقراء).
إرساء نظام اقتصادي عالمي
سعى الإمام الشيرازي في تحقيق هدف جوهري يتمثل في أهمية إرساء أسس لنظام اقتصادي إسلامي متطور، غايته الرفاهية والازدهار للمسلمين وهدفه العدل والأخلاق، حيث حدد سماحته تلك الأسس بما يلي: (اولا: طرح أصول الاقتصاد الإسلامي المستنبط من القرآن والسنة النبوية الشريفة، ودعوة كل اقتصاديي العالم إلى مدارسته ومذاكرته، وإيجاد أفضل الطرق إلى تطبيقه وتنفيذه، وعليه فإن الاقتصاد الإسلامي قد أثبت جدارته في إنقاذ البشرية من الفقر، وإرغاد العيش للجميع).
ويتبع ذلك نقاط أخرى منها: (لابد من وجود مركز إسلامي اقتصادي عالمي، يقوم بتقييم السبل التطبيقية واقتراح السياسات الاقتصادية الإسلامية، وينبغي أن يسعى هذا المركز الى تحجيم وتحديد الاختلافات الموجودة، ويضم هذا المركز العديد من خبراء الاقتصاد الإسلاميين للتفكير في الأساليب والسياسات الاقتصادية الإسلامية في ظل المتغيرات الدولية والعالمية).
ويقدم الامام الشيرازي مقترحات عملية اخرى في هذا المجال اذ يقول سماحته: (ينبغي العمل الجاد على تعديل السياسات المالية والنقدية والمصرفية التي تخالف القوانين والسياسات الإسلامية وجعلها تتوافق مع الاقتصاد الإسلامي القويم، وكذلك تحرير المبادلات التجارية من كل القيود والمضايقات، مثل انتقال عناصر الإنتاج والمنتجات والأشخاص، ورأس المال المؤطر بإطار الاقتصاد الإسلامي فيما بين البلدان الإسلامية).
خاصة بعد أثبتت الأساليب المالية والاقتصادية عقمها وتسببها بأزمات مالية متتالية ضربت العالم كما يحدث اليوم، كذلك نلاحظ أن النظام الربوي يدمر الاقتصاد العالمي.كذلك يدعو الامام الشيرازي الى تحريك السوق عبر مقترحات قابلة للتطبيق الفعلي اذ يقول سماحته: (ينبغي التأكيد على قيام سوق إسلامية مشتركة لرأس المال وحركته على مستوى البلدان ووضع إطار تطبيقي يتلاءم مع المتغيرات الحاصلة في الأسواق العالمية للاقتصاد، والارتقاء بالقدرات البشرية والإمكانات التقنية، وذلك على مستوى البلدان الإسلامية).
ويضع الامام الشيرازي رؤية مستقبلية للاقتصاد العالمي عندما يقول سماحته في مقترح آخر: (ينبغي العمل على استشراف آفاق المستقبل، ورسم صورة مستقبلية لموقع البلدان الإسلامية في الخريطة الاقتصادية الدولية، وتحديد مفهوم معين للأمن الاقتصادي الإسلامي، والعمل الجاد على الوصول إلى الاكتفاء الذاتي الاقتصادي في البلدان الإسلامية، ووضع أسس لبناء القدرة التنافسية، علماً بأن التنافس التجاري والصناعي يعد كما هو معلوم من أهم عناصر التنمية الشاملة في البلدان الإسلامية).
وهكذا سوف تكون النتائج صنع اقتصاد عالمي ذي أسس انسانية راسخة، تراعي الجميع لاسيما الفقراء، وتنصب الأذكياء، من خلال الموازنة بين المادي والروحي، وليس اعتماد معايير مادية بحتة تحاصر الفقراء وتزيد من مأساتهم كما هو الحال في النظام العالمي الراهن، والدليل هذه الازمات المتتالية التي تضرب العالم، فيتحمل ثقلها الفقراء، ويتهرب منها الأغنياء من اصحاب الشركات المسببة لهذه الأزمات.
اضف تعليق