أحد الأخوة الظرفاء، شبّه حالة التوثّب للتغيير من حال الى آخر أحسن وأفضل، في الطائر الذي يحيط به الظلام، ثم فجأة تنفتح له كوة صغيرة الى العالم الفسيح، فانه فوراً سيتوجه اليها على أمل الخروج من حالة الظلمة والأسر.
هكذا حال الشعوب التي تعيش – او عاشت- في ظل ظروف الكبت والحرمان والاضطهاد، وكل باعث على الضيق والانكفاء واليأس، وما أن يلمع أمامها بصيص أمل في الخروج من هذا الواقع حتى ينطلق اليها فوراً، وهذا يفسر سرعة الاحداث في بلادنا الثائرة والمنتفضة، فالحاكم كان يمنّي نفسه برضى الجماهير وتصفيقهم له، ولكنه فجأة وعلى حين غرّة، يجد نفسه محاطاً بالنيران والحجارة والقبضات الحديدية التي تريد تحطيمه وتحطيم نظام حكمه خلال أيام معدودة.
وهذا يبدو من الامور البديهية والطبيعية، وليست حالة مرضية او شاذة، بيد أن المطلوب هو تحقيق طموحات الشعب المنتفض بصورة كاملة غير منقوصة، فهو لم ينتفض ويتظاهر لمجرد التظاهر والاصطدام مع السلطة، او خوض معركة ليّ الأذرع أو اختبار القوة في الشارع، لما فيه ذلك من ثمن باهض عليه أن يدفعه في الارواح والممتلكات وانعدام حالة الامن والاستقرار لفترة من الزمن، ثم تعطل الحياة العامة.
وهذا ما يناقشه بدقّة سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "تحويل المعنويات الاسلامية من القوة الى الفعل"، حيث يشير الى ما يندر الإشارة اليه من الباحثين والمفكرين، وهي مرحلة ما بعد التغيير السياسي. وكما يعبر عنه العسكريون بـ"الحفاظ على الأرض المحررة". وفي معرض حديثه عن آليات الاستفادة من عنصر "القوة" في معنويات الشعوب والأمة، وتحويلها الى "الفعل" أو التطبيق العملي على الارض، يؤشر سماحته الى وجود "مشاكل تواجه النهضة... فان النهضات الشعبية مهما كانت أسبابها؛ من دينية او وطنية او اقتصادية او غيرها، لابد وأن تأتي بمفاهيم جديدة قد لا يألفها الشعب في الزمان السابق".
وكما هو ديدن كل الثورات والانتفاضات في العالم عامة، وفي بلادنا الاسلامية خاصة، فانها لا تتوقف عند تغيير الحاكم ونظامه السياسي، إنما ستأتي – حتماً- بافكار ومناهج جديدة تفرضه نفسها على الواقع، وبما أن النظام السياسي وشخص الحاكم هو الذي تغيّر وأنهار، وليست ثقافة الناس وما انطبعوا عليه خلال السنوات المديدة، فان الاصطدام يكون لا محالة مع الوضع الجديد، بغض النظر عن صحّة هذا الوضع وحقّانيته او خلاف ذلك. هنا يؤكد سماحته على عدم انسجام الناس مع التطبيقات الجديدة بالسرعة التي يتصورها أهل التغيير والحكم الجديد، ويحدث – يقول سماحته- أحد أمرين لا ثالث لهما: إما نهاية الثورة والانتفاضة الجماهيرية على يد الناس أنفسهم، وإما ظهور ديكتاتورية جديدة، ربما برداء ديمقراطي، او حتى بدكتاتورية أخرى مطلقة، تمارس نفس الاساليب القديمة التي ثار الناس ضدها وقدموا من اجل سقوطها الشهداء والمصابين، ثم نراهم يقدمون قوافل جديدة من الشهداء والخسائر.
فما السبب في ذلك...؟!
سماحة الامام الراحل يؤشر الى خلل طالما يسقط فيه قادة التغيير السياسي في معظم بلادنا، وهو افتقارهم لإجابات على أسئلة واستفهامات عديدة عن قضايا المجتمع والاقتصاد والدين والسياسة وغيرها، مما تشكل – بالضرورة- المنظومة الفكرية الجديدة المعتمدة في المرحلة القادمة، وهذا الخلل منشأه بالدرجة الاولى من حالة الانفصام بين القاعدة والقيادة، او بين الجماهير والنخبة الواعية والمثقفة، وهذا الانفصام، يتجلّى احياناً بالتباعد الجغرافي، كأن يكون المعارضين في المهاجر، واحياناً اخرى يتجلّى في التباعد المعنوي، وهو الأخطر، حيث يكون هؤلاء في وادٍ والناس في وادٍ آخر.
ومن جملة نبوءاته الثورية والسياسية الرائدة، يقول سماحته: "إذا انضم الى الشعب أناس من الخارج ينصرونه ضد الناهضين الحكام، كان سقوط أحد الأمرين أقرب، كما انه إذا انضم الى الناهضين استعمار من الخارج كان السقوط أيضا اقرب، لكن إذا انضم الخارج الى الناهضين كانت الديكتاتورية أشد، أما إذا انضم الخارج الى الشعب كان سقوط النهضة أقرب".
وأمامنا أمثلة عديدة من تاريخنا السياسي، حيث فشلت ثورتين جماهيريتين ونجحت واحدة؛ هي: ثورة التبغ (التنباك) في ايران، بيد أن ايران شهدت ثورة أخرى فيما بعد وهي لا تقل أهمية في ابعادها السياسية والاجتماعية، وهي: "ثورة الدستور" لكنها أخفقت في تحقيق اهدافها الحقيقية فكان سقوطها في الانحراف عن الطريق. كما حصل الشيء نفسه في "ثورة العشرين"، فقد تحصل الثورة والانفتاضة المسلحة ويتكبد الاستعمار البريطاني خسائر فادحة وحتى يتعرض لتصدعات سياسية قوية في العالم. بيد أن المشكلة في المرحلة الجديدة التي يبدو انها اكبر بكثير من استيعاب اهل الثورة والتغيير. إن فكرة الاستقلال في العراق، باهرة وحضارية، تهفو اليها النفوس، كما الملكية الدستورية وتقييد صلاحيات الملك في ايران، وإشراك الناس في اتخاذ القرار وسن القوانين من خلال مجلس نيابي، يمثل حلماً وطموحاً كبيراً لأي شعب ناهض. بيد إن التطبيق الصحيح والدقيق على الارض هو المهم.
وعندما يعد "ثورة التبغ" ناجحة، فانه – قدس سره- يعزو نجاحها الى دقّة الهدف من وراء الثورة، وهي قطع أيدي البريطانيين من رقاب الناس والمزارعين وإعادة الكرامة اليهم، ولا غير، وهذا ما تحقق مئة بالمئة، ولم يعد البريطانيون يتجرأون المساس بكرامة المجتمع الايراني منذ ذلك الوقت، حتى عقود من الزمن، عندما حلّ الاميركيون محلّهم في إدارة شؤون ايران، فعاثوا فساداً وهتكاً وفتكاً بالشعب الايراني بما قلّ نظيره في المنطقة آنذاك.
ولا أجدني بحاجة الى كثير من الأدلة على مصاديق هذه الفكرة في واقعنا الحاضر، وتحديداً في بلاد "الربيع العربي"، وها هي ثورات جماهيرية عارمة قدمت العشرات من القتلى والجرحى في الشوارع، وخسائر مادية كبيرة، كان يفترض ان تكون ثمناً للديمقراطية والتحول الى نظام جديد يطوي مرحلة الديكتاتورية، وإذا بها تُصرع تحت اقدام الناس انفسهم عندما وجدوا أنهم يسيرون نحو المجهول، فكان البديل الأسرع هو "الديكتاتورية الجديدة"، وهذا هو حال مصر، وربما تتجه اليه تونس وليبيا.
اضف تعليق