في أي مجتمع حيث تمتلك حفنة من الأفراد أدوات الإنتاج، نجد أن الحقيقة الرئيسية تتمثل في النضال من أجل امتلاك سلطة الدولة بين الطبقة التي تمتلك هذه الأدوات، وتلك الطبقة المحرومة من فوائد هذه الملكية، ومعنى ذلك أن الدولة تتحيز دائمًا لمصلحة الطبقة الأولى، وتمارس الدولة سلطتها من أجل مصالحهم...
بقلم: هارولد ج. لاسكي-كتاب: الدولة نظريًّا وعمليًّا
حيث نجد الصراع الطبقي في مجتمع من المجتمعات، فإن سلطة الدولة ستظهر واضحة جلية في جانب هؤلاء الذين يمتلكون أدوات الإنتاج في المجتمع الذي تتحكم فيه، ففي بعض الأحيان تتضح معالم هذا الصراع كما في إضراب سان فرنسيسكو، إذ تظهر سلطة الدولة في شكل البنادق والأسلحة الأوتوماتيكية، ولكن سواء أكان هذا الصراع واضحًا أم خفيًّا، فإن الهدف الذي يرمي إليه الصراع الطبقي يمكن تحقيقه عن طريق التغلب على الدولة، إذ ليس هناك من سبيل آخر حيث تستخدم سلطتها لكي تدخل تغييرًا حاسمًا في علاقات الملكية. فإذا امتلكت حفنة من الأفراد أدوات الإنتاج نجد أن سلطة الدولة ستستخدم للمحافظة عليها، وهذا هو جوهر القانون، والقانون هو إرادة الدولة.
ونستخلص من هذا حقيقة خطيرة تذهب إلى أنه في أي مجتمع حيث تمتلك حفنة من الأفراد أدوات الإنتاج، نجد أن الحقيقة الرئيسية تتمثل في النضال من أجل امتلاك سلطة الدولة بين الطبقة التي تمتلك هذه الأدوات، وتلك الطبقة المحرومة من فوائد هذه الملكية، ومعنى ذلك أن الدولة تتحيز دائمًا لمصلحة الطبقة الأولى، وتمارس الدولة سلطتها من أجل مصالحهم؛ ولذلك فهم لن يتنازلوا عن الفوائد التي يجنونها ما لم تضطرهم ظروف إلى ذلك، وهم لا يتخذون مثل هذا الموقف بدافع ذاتي؛ إذ إن وضعهم في البنيان الطبقي يدفعهم إلى أن تتمشى امتيازاتهم الخاصة مع سلامة المجتمع.
وتضايق هذه الفكرة أصحاب العقول الخيرة؛ إذ إن الثورة كوسيط للتغيير الاجتماعي تعتبر أمرًا لابد منه، وهي تحتم وجود نواحي عدة في التطور البشري، إذ يكف الأفراد عن تسوية اختلافاتهم بتحكيم العقل ويلجئُون إلى القوة لتحدد هذا المصير، وهم يتذكرون المخاوف التي تصحب الصراع المدني، والمآسي التي تمخضت عن تمرد المتطهرين (البيوريتان) وما عانته الشعوب الفرنسية والروسية أثناء الثورات التي قامت، ولقد أوجد استخدام العنف الحقد والكراهية؛ إذ منذ الانقلاب الصناعي نجد أنهم يحاولون تأكيد النواحي التي أحرزوا بها شيئًا من التقدم، وعن طريق الإحسان بذل بعض الأفراد المحظوظين جهودهم ليخففوا مما يعانيه الآخرون، وهم يشيرون بذلك إلى نمو ضمير اجتماعي أعمق غورًا مما كان عليه ضمير الزمن الغابر.
كما يشاهد ذلك في مسلكنا الجديد إزاء اختصاصات الدولة، وفي الضرائب العالية المستوى التي يقبل الأغنياء فرضها على أنفسهم، وفي الفرص المتاحة لهذا العصر الذي أخذ نطاقه في الاتساع. فإذا أمكن تحقيق هذا بالطرق السلمية، فلماذا نقول إذن إن العنف يعتبر أداة جوهرية في الحضارة المعاصرة كما كان في عصور أقل تنويرًا؟ ولماذا لا ندلل على أن الأفراد قد تعرضوا للعنف حتى إنهم يتقبلون تحكيم العقل على أنه الحكم الأخير؟
والإجابة على ذلك واضحة للغاية، فمن الناحية التاريخية نستطيع أن نقول: إن التغييرات الهامة التي أمكن الوصول إليها بالطرق السلمية ترجع إلى توسيع النظام الاقتصادي، فعند وجود هذا التوسع يوجد الأمن والاستقرار، وعند وجود الأمن والاستقرار نجد أن الفرصة قد أُتيحت والوقت قد حان للأفراد لأن يحكموا العقل. وعندما يوجد مثل هذا التوسع نجد أن الأماني المعترف بها لهذه الامتيازات لن ينخر السوس فيها، وذلك عندما تذعن لمطالب الجماهير، ويمكن تحقيق وسائل الراحة في أي مجتمع عندما يمنح فوائد مادية جديدة.
ومن الخطورة في مثل هذه الفترات أن يبلغ التدهور الاقتصادي مرتبة يصبح من العسير معها تحقيق هذه المطالب دون القيام بثورة في العلاقات الطبقية في هذا المجتمع؛ إذ إن هذه العلاقات المتغيرة تعني نظمًا متغيرة من الأفكار، فهي تنكر وجود أفكار خيرة تمثل معنى الحياة لهؤلاء الذين يطلب منهم التنازل عنها، وتتنازل بعض الأفراد عن مراكز لا يعدونها مراكز أساسية، ويشهد التاريخ على أنهم لم يتنازلوا عن المراكز التي تعتبر في نظرهم مراكز حيوية بالطرق السلمية.
ويمكن إدراك ذلك من دراسة الحقائق الأولية، فالفرد المتمدين لا يدافع عن المؤسسة الاقتصادية للعبودية، إلا أن الحرب التي قامت كانت كفيلة بإقناع الولايات الجنوبية في أمريكا بأن هذه المؤسسة لا يمكن الدفاع عنها. ولقد قام الكومنولث البريطاني على مبدأ المساواة بين أعضائه، إلا أن الحروب قد قامت لتدعيم هذا المبدأ، وهناك مبادئ هامة قامت عليها العدالة الاجتماعية، غير أنه يمكن تحويل الحق في المساواة والانتخاب أمام القانون، وتحرير النساء، وتحديد ساعات العمل، ووضع نظم معتدلة في المصانع، ولكن على حساب النواحي البشرية، ولكننا ما زلنا نحارب من أجل حق التجمع الحر في الميدان الصناعي، وما زلنا نكافح ليخول الحق للزنوج أن يتساووا مع الآخرين أمام القانون، ولكن عندما نقوم بتحكيم العقل فسنعترف بفشل الحرب. وستتضمن أية معارضة كتلك المعارضات التي تكمن في قبول ميثاق عصبة الأمم وحلف باريس، ستتضمن اعتقادًا جازمًا في ممارسة القوة حيث يعترف الموقعون بأن هذا أمر يتعلق «بالشرف» والمصلحة الحيوية.
وعندما نقول: إنه ينبغي علينا أن نثق في العقل، فسيتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ماذا نعني؟ وأي عقل نحتكم إليه لتسوية الخلافات الموجودة؟ هل يقصد به الحكومة التي تتحيز دائمًا لفئة ما، وتقوم بارتكاب بعض الأخطاء في أغلب الأحيان؟ أو هو العقل الذي يتصف به الجانب الأكبر وذو المقام الأعلى «لهذه الجماعة التي قدم له المفكرون في العصور الوسطى فروض الولاء؟» وهل نجاري الفكرة التي يعارضها بعض الأفراد التي تذهب إلى أنه يجب على الأقلية أن تخضع دون قيد أو شرط؟
ولقد قيل: إن هناك اختلافًا بين التزامات الأفراد الذين يحتكمون إلى العقل في ظل النظام الدكتاتوري عنها في النظام الديمقراطي الذي نجد فيه أن الأفراد في إمكانهم تعديل المبادئ التي قامت عليها الحكومة عن طريق الأغلبية لكي تحقق الأهداف التي كرست نفسها لها. أما هؤلاء الذين يشايعون فكرة التغيير فهم في الواقع يحبذون الفكرة التي تقول: إن الأغلبية هي مصدر هذا التغيير، ولم يخول لهم الحق في استخدام القوة؛ لأنه لا داعي لها.
وهذا واضح كل الوضوح؛ إذ إني لا أصر على القول بأن الحلول التي أمكن التوصل إليها بالطرق المنطقية قد فضلناها على تلك الحلول التي لا يمكن الوصول إليها إلا بعنف. كما أني لا أدلل على أن الأفراد في أي مجتمع ديمقراطي يجب عليهم أن يتحملوا ما يرونه شرًّا من الشرور؛ لأن لهم الحق القانوني في تغيير القانون الذي يعارضونه بشرط وجود أغلبية.
ويجب تسوية المشكلة القائمة على أساس آخر، وتختلف النقطة التي أود إثارتها؛ إذ إنها تشير إلى أن المؤسسات الديمقراطية قد ثبتت صحتها في المجتمع الرأسمالي طالما كانت هذه المؤسسات تقوم بدورها للقضاء على خصائص الرأسمالية، أي العلاقات الطبقية التي يدخل في نطاقها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وعندما تسعى الديمقراطية السياسية إلى تحويل الملكية الخاصة إلى المجتمع، فإن الطبقة الرأسمالية ستستخدم سلطة الدولة - إذا استطاعت - لكبح جماح المؤسسات الديمقراطية. وعلى ذلك نجد التفاوت بين الطبقات يمكن تسويته بالقوة، ولا سيما في مراحل التطور الاقتصادي، ولقد دللت على أن التشبث بالديمقراطية السياسية كما توضح الخبرة التي مرت بها إيطاليا وألمانيا والنمسا، لم تكن هدفًا كافيًا للدولة. ويمكن أن توطد الحكومة أركانها طالما كانت لا تتعارض مع مطالب العلاقات الطبقية التي تضمنتها، والتي يتطلبها النظام الرأسمالي. ويمكن أن نقرنها بهذا النظام عندما يكون له من القدرة التي تمكنه من سد مطالب العمال المتزايدة لخدمة الفوائد المادية، ولكن عندما لا تستطيع الرأسمالية أن توضح نوع التوسع الذي تراه، نجد أنها تقع في مأزق؛ إذ عليها أن تختار أحد أمرين: إما القضاء على العلاقات الطبقية التي تتضمنها، أو إخماد المؤسسات الديمقراطية.
ولا يعبر الرأي القائل بأن الأفراد يجب عليهم أن يتقبلوا الفروض القانونية التي قامت عليها الحكومة الديمقراطية، لا يعتبر ردًّا شافيًا، إذ إن النواحي التي نحتكم فيها إلى العقل بدلًا من استخدام القوة تعد حلولًا لها قيمتها. غير أن الحقيقة تكمن فيما إذا كانوا سيستقبلونها. وليس من العسير أن نرى أن الدولة الديمقراطية قد أتيحت لها فرصة أفضل لكي تحقق العدالة الاجتماعية، ولا يعتبر موضوع الدولة في هذا الصدد موضوعًا يتعلق بالدولة الديمقراطية البحتة؛ وعلى ذلك فإنها دولة تعبر مضامينها السياسية عن المساواة بين المواطنين، وذلك فيما تجنيه من الفوائد المادية، وهي في نفس الوقت تعتبر خصائص اقتصادية؛ وذلك بسبب الأسس التي تقوم عليها الرأسمالية. ولا تكمن المشكلة فيما إذا كانت تتسم بالحكمة، أو أنها مجرد تخلٍّ عن الديمقراطية السياسية، ولكنها تكمن في تدهور النواحي الرأسمالية في فترة ما، وعندئذ يمكن الإبقاء على الديمقراطية.
وأبلغ رد لوجهة النظر هذه هو أن نبرهن على وجود هذا الثبات. ويجب ألا يغيب عن البال إمكان تحقيق ذلك، وستقف العقبات في الطريق، إلا أنه يجب التغلب عليها، ويجب شرح الأسباب التي دعت إلى زعزعة هذا الاعتقاد في ظل ثبات الديمقراطية بين الأفراد المخلصين الذين تغلبوا على الفاشستية في إيطاليا وألمانيا والنمسا، كما يجب تفسير تدهور هذا المبدأ في نفس الوقت الذي قامت فيه الأزمة الاقتصادية في النظام الرأسمالي. وينبغي أيضًا أن تفسر لنا قدرة الدول الفاشستية المحافظة على نفسها بالطرق الإرهابية، كما يجب تفسير سبب قيام الفاشستية التي أوقفت تقدم الخدمات الاجتماعية، وأنزلت من مستوى النواحي الصناعية، وأخمدت حرية توجيه النقد. ولكن حتى نلوح مثل هذه التفسيرات في الأفق، فمن العسير إذن أن يداخلنا الشك في صحة هذا التحليل.
ولقد قيل لنا في بعض الأحيان: إن الهجوم يتركز على الديمقراطية السياسية في البلاد التي لم تمر فيها هيئاتها بتجارب عديدة. أما الدول التي تأصلت فيها عاداتها مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا ودول إسكندناوة؛ فإننا نجد أن الهجوم على الهيئات الديمقراطية لم تسفر عنه أية نتيجة، ولكن يجب أن نعرف ما تنطوي عليه الحقيقة وندرسها دراسة وافية، ومن الأهمية أن ندرك أن الجميع يرون القلق الخطير الذي يهز كيان المؤسسات الديمقراطية. ومن الأهمية أيضًا أن نعرف أن العقبة التي تحول دون تحقيق الحرية تتميز بها إدارتها. ويجدر بنا أن نشير إلى أنه لم تقم أية منها عندما أمسكت بناحية الأمور بإعادة تحديد العلاقات الطبقية، وهذا هو الرد الحقيقي الذي تتضمنه دراستي، فإذا قامت بريطانيا أو الولايات المتحدة أو فرنسا بتحويل الأساس الذي قام عليه نظام الملكية، من أيدي الخاصة إلى أيدي العامة، بالطرق السلمية فستدعم هذه الدراسة التي تقوم فيها الوسائل الديمقراطية بالتغييرات الأساسية.
ولكن ليس هناك من دليل على ذلك، وإذا سلمنا بوجوده فسيثير الشك والريبة. ولقد تعرضت الجمهورية الفرنسية لتهديد الفاشستية، وكان لذلك أثره العميق. كما أن للأحداث التي وقعت في فبراير عام ١٩٣٤م أثرها إذا تغاضينا عن أحزاب اليمين وأحزاب اليسار. ففي الولايات المتحدة نجد أن الحركة العالمية لم تكن منظمة تنظيمًا دقيقًا من الناحية السياسية، وبذلك لم يتعرض نظام العلاقات الطبقية القائم حينذاك لأي تهديد، ولكن ما يلفت الأنظار في التجربة التي قام بها روزفلت، وكانت تهدف إلى استعادة الرأسمالية لا إخمادها: هو عجز الرئيس عن الحيلولة دون قيام أصحاب الأعمال بعرقلة الإجراءات التي ترمي إلى منح الطبقات العاملة الفوائد المالية.
ونجد في بريطانيا أن الأقلية في حكومة حزب العمال التي لم تحاول وضع تشريع اشتراكي قد نُظر إليها على أنها تعرض أسس الاستقرار الاقتصادي للخطر، وخلفتها حكومة قومية لم تقم على اندماج الأحزاب السياسية التي وافقت على صحة النظام الرأسمالي فحسب، ولكنها قامت على الافتراض القائل بأن الأزمة التي أدت إلى تسلمها مقاليد السلطة قد بررت وقف منح الفوائد المادية المتزايدة التي تسعى الديمقراطية السياسية إلى ضمانها.
وليس هذا هو كل شيء؛ إذ إن الديمقراطية الرأسمالية في بريطانيا ظلت كما هي؛ لأن صحة الاندماج التي تقوم عليها لم تعرض بعد على المحاكم، ويجب علينا أن نلاحظ أن الأحداث التي وقعت منذ عام ١٩٣١م قد دفعت حزب العمال إلى الاشتراكية، ولكن كان بجانب هذا تطور آخر؛ إذ أظهر أعضاء حزب المحافظين اتجاهًا نحو الافتراضات التي قامت عليها دعائم الدستور الإنجليزي ردحًا من الزمن. أما إعادة تنظيم مجلس اللوردات فيقضي بأن يكون له من السلطة ما يجعله قادرًا على أن يؤخر صدور التشريع الاشتراكي، وذلك عن طريق البرلمان، حيث نجد أن حزب العمال يحرز أغلبية في مجلس العموم.
ولقد بقي حق الاعتراض لمدة تقرب على مائتي عام، أما فيما يتعلق بالحق في حله والحق في إيجاد طبقة من النبلاء، فسنجد أن الملك سيكون في حل من العمل بنصيحة وزرائه إذا استطاع أن يحصل على موافقة لتأخير أي قرار، ولو كان ذلك بانضمامه إلى صفوف المعارضة، ولمثل هذه الاقتراحات أهميتها القصوى؛ إذ نجد أنهم يقدمون اقتراحًا يقضي بالبحث عن وسيلة تناوئ حزب العمال وحده، ولا توجه ضد أي منافس، كما أنهم يعتقدون أن الحواجز الدستورية ربما تكون متضمنة في صميم التشريعات الاشتراكية التي تقف حجر عثرة في طريق الأهداف التي تسعى أية حكومة مناهضة للاشتراكية إلى تحقيقها.
ويجدر بنا أن نضرب مثالين حول موقف بريطانيا؛ إذ نستخلص منها مبدأ عامًّا له أهميته. فلقد قيل لنا: إنه من المرغوب فيه التضامن بين أحزاب العمال وأحزاب الأحرار طالما وأنه قد طلب منها الإبقاء على الديمقراطية والتمسك بها، إذ ربما يؤدي هذا التضامن إلى نيل سلطة انتخابية؛ ولذلك نجد أنها تحاول وضع الديمقراطية بمعزل عن الهجوم الذي يشنه المتطرفون اليمينيون. ولقد قال زعماء حزب الأحرار إنهم يعارضون الاشتراكية بينما يحبذون الفكرة التي تذهب إلى أن وظيفة الدولة يجب أن تكون على نطاق واسع، فهم لا يستخدمون سلطة الدولة لكي يدخلوا تغييرات أساسية على العلاقات الطبقية؛ ولذلك فللقيام بتنظيم التحالف المقترح يجب على حزب العمال أن يتغاضى عن عقيدته الاشتراكية ويركز جهوده على برنامج الإصلاح الاجتماعي الذي وضعه حزب الأحرار، وهذا بدوره لا يعتبر الخطوة التي ربما يوافق عليها حزب العمال طالما كان عبء الخبرة يكمن في عدم كفاية أية سياسة لم تمس النواحي الأساسية في العلاقات الطبقية.
ولكن دعونا نفترض أن حزب العمال مستعد - ولو مؤقتًا - على أن يتغاضى عن العقيدة الاشتراكية لكي يحرز نصرًا انتخابيًّا، وذلك بتحالفه مع قوى الأحرار، ولكن كيف يحقق هذا النصر الأهداف التي قام من أجلها في ظل الظروف التي تقع تحت طائلها؟ إذ عندما يتسلم مقاليد الحكم لن يستطيع أن يركز جهوده لكي يحقق بعض مشروعات الإصلاح الاجتماعي ما لم يحدث انتعاشًا اقتصاديًّا سريعًا. فما من شك في أن ثمن ذلك سيؤدي به حتمًا إلى مثل ذلك الوضع الذي أدى إلى هزيمته عام ١٩٣١م، فإذا كان على حزب العمال أن يسير على نهج النظام الرأسمالي فيجب عليه أن يعرب بصراحة عن موافقته على الافتراضات التي قامت على الرأسمالية، إذ فيها نجد أن الدولة لا يمكنها القيام بالإصلاحات الاجتماعية في فترة يخيم عليها الكساد التجاري. ومن العسير أن نرى مدى وثوق هذه الحكومة بمؤيديها طالما كانت هذه الظروف ستحول دون تحقيق الأهداف التي من أجلها نالت سلطتها.
ولكن إذا قامت هذه الحكومة بعد مباشرتها مهام سلطتها في الحكم بإنعاش النواحي التجارية فليس من اليسير أن نرى أننا نستطيع أن نقطع شوطًا بعيد المدى في هذا المجال. فبتضامنها مع الأحرار لا تستطيع أن تسير على سياسة اشتراكية؛ إذ يجب عليها حينذاك أن تبذل ما في وسعها؛ لكي تستخرج من النظام الرأسمالي أكبر فائدة لطبقة العمال. ولا داعي للحط من قيمة هذه السياسة التي إذا سرنا على نهجها فإننا سنجني إسكانًا أفضل، وإمكانيات أفضل للعمل، ونظامًا تعليميًّا ونشاطًا تقوم به النقابات. فإذا لم يدم هذا الانتعاش الاقتصادي، فالنتيجة الوحيدة لاستئناف سياسة الامتيازات ستعنى بإيجاد مستوى جديد للأماني المعترف بها بين العمال الذين سيشعرون بالمرارة وخيبة الأمل عندما يخيم الكساد بشبحه في المرة التالية. وسواءً استمر الانتعاش أو استمرت الأزمة، فإن قبول حزب العمال لافتراضات النظام القائم يعني قبوله للتناقض الموجود بين الرأسمالية والديمقراطية والذي سيطيح إن عاجلًا أو آجلًا بأي منهما. ولقد مرت هيئة المنتخبين بتجارب عدة جعلتها تذهب إلى أن إدارة الدولة الرأسمالية يجب أن تكون في أيدي الأفراد الذين يؤمنون بمبادئها، ومن الحماقة أن تطلب من حزب العمال أن يدير دفة المجتمع الرأسمالي.
ولا يتمشى هذا الاقتراع مع المشكلة الرئيسية التي أثيرت في هذا الصدد؛ إذ إنه من الممكن تحقيق الانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي بكل ما يتضمنه هذا الانتقال من تغيير في العلاقات الطيبة بالطرق السلمية في أي مجتمع ديمقراطي. وإني لا أدلل على أنه لا يمكن إنجاز هذا إذا أراد أصحاب أدوات الإنتاج أن يحققوا مضامين الديمقراطية، ومعناه هو أنه إذا أدت الديمقراطية عملها بنجاح، فإنها تسير بنجاح، وهذه كما نرى ملاحظة لا تستحق الذكر، وإني أبادر بطلب معرفة ما إذا كان على ضوء الخبرة التي مررنا بها يحق لي القول بأنه من المعقول أن نفترض أنها ستحقق هذه الأهداف. وعلى المتفائل المتحمس أن يتخذ موقفًا ثابتًا، فهو لا يقوم بتفسير الخبرة الأمريكية أو الخبرة التي مرت بها أوروبا أثناء الحرب أو أنه يقوم باستبعادها فحسب، ولكن يجب عليه أيضًا أن يوضح أن اتحاد الدول يكمن تحقيقه عندما يختلف الأفراد حول الأسس التي يقوم عليها.
ولقد قام بعض المراقبين المرموقين بمحاولات عدة في هذا الصدد، ويجدر دراستها بشيء من الدقة، ولقد ذكر البروفسور جريجوري أنه: «إذا اختار المثقفون في الغرب اقتران الفاشستية بالرأسمالية ووصمهما بالانحلال لأغراضه الدعائية، فيجب الاعتراف بعدم وجود أي ضمان أو تأكيد لعملهم هذا.» ولقد اتخذ هذا الموقف على أسس ثلاثة: فجوهر الفاشستية يتسم بالسلطة، وأما جوهر النظام الرأسمالي فيتسم بالحرية في العمل وحق الفرد في التعبير عن نفسه من الناحية الاقتصادية، أما الأساس الثاني فهو: وجود وجه الشبه بين خمس وعشرين نقطة في البرنامج الاشتراكي القومي، ومذهب الشيوعية الروسية أكثر من وجوده بين أحدهما وفلسفة الدولة الرأسمالية. أما الأساس الثالث فهو: إذا تدهورت الرأسمالية فسيحاول أي فرد البحث عن أسباب هذا التدهور في بريطانيا والولايات المتحدة، لا في البلقان أو أمريكا الجنوبية أو إيطاليا لعدم وجود النظام الرأسمالي في هذه المناطق. ويمكن تطبيق نفس الشيء على الحالة في روسيا. ولقد فسر البروفسور جريجوري مشكلة الفاشستية الألمانية بقوله: «إن النظام الاقتصادي والاجتماعي قد تعرض للشدائد، ولكن هذه الشدائد لا تمت بأية صلة إلى العيوب الكامنة في النظام الرأسمالي.» ويوافق البروفسور جريجوري على أن أغلبية كبيرة يحصل عليها العمال فجأة تشرع في قلب الأنظمة الاقتصادية المقررة في البلاد رأسًا على عقب. عندئذ يجوز أن تصادف هذه الأغلبية مقاومة لعملها هذا، غير أنه لا يثبت تدهور الرأسمالية، ولكنه يثبت أن عددًا كبيرًا من الأفراد ما زالوا يؤمنون بها. واختتم البروفسور جريجوري هذا بقوله: «إن قيام الفاشستية لا يعني انهيار النظام الرأسمالي، ولكنه برهان على أن الموقف فيما بعد الحرب لا يبعث على الرضا.»
ودعونا نمعن النظر في هذه الدراسة، فمن الطبيعي أن الفاشستية تتسم بالسلطة في جوهرها، وأن الرأسمالية قد أقيمت دعائمها على حرية العمل وحق الفرد في التعبير عن نفسه من الناحية الاقتصادية، ولكن ما ينبغي لنا دراسته هو الهدف الذي سُخرت من أجله الفاشستية. فللحصول على المكاسب المادية نجد أنها تحاول القضاء على النقابات وتسعى إلى حماية الملكية الخاصة لرأس المال وتهدف إلى تخفيض الأجور، كما أننا نجد أن الفاشستية تبذل ما في وسعها لتخول الأفراد «الحق في التعبير عن النفس من الناحية الاقتصادية»، غير أن هؤلاء الأفراد لا ينتمون إلى الطبقة العاملة. وتدافع السلطة الفاشستية عن نظام العلاقات الطبقية التي تتطلبها الرأسمالية، كما أن المثقفين في الغرب ينظرون إليه على أنه تعبير عن الرأسمالية، وهي في مرحلة تدهورها. وبدون مساندة هذه السلطة لهذا النظام، لا تمكن المحافظة على هذه العلاقات الطبقية.
ونجد أن وجه الشبه القائم بين البرنامج الفاشستي والبرنامج الشيوعي يلفت الأنظار من الناحية النظرية، فإذا ناهض البرنامج الفاشستي الاشتراكية والنقابات، فلن يستطيع أن يطلب مساندة الطبقة العاملة. وينبغي لنا ألا نصدر أي حكم على الفاشستية لمجرد أننا نعرف نواياها، إذ إن ما يعنينا هو تنفيذها، ولا أعتقد أن البروفشور جريجوري كان في مخيلته القواد الإيطاليون الذين ساندوا موسوليني ورجال الصناعة في ألمانيا الذين ساندوا هتلر، ولا أعتقد أيضًا أنه قد تخيل أنهم قاموا بذلك على أساس أمل يراودهم: هو قيامهم بتنفيذ النواحي الشيوعية. ولقد تدخلت الفاشستية باصطلاح «حرية العمل»، وإن طابع هذا التدخل كان تدخلًا من جانب الرأسماليين في إيطاليا وألمانيا لاستعادة المصالح الرأسمالية. ومن حق البروفسور جريجوري أن يذهب إلى أن هذا التدخل قد أقيم على دعائم خاطئة، ولكن عندما يدرس وقع هذا التدخل على الهيئات الاقتصادية ووضع الطبقات العاملة لا يحق له أن يستخلص أن هذا يعتبر محاولة حادة في سبيل تحقيق برنامج الفاشستية الرسمي.
غير أن هذا لن يمكننا من إصدار الحكم على الرأسمالية وهي في عنفوانها، كما في إنجلترا والولايات المتحدة، لا في الدول الرأسمالية المتخلفة كما في البلقان أو أمريكا الجنوبية، فمحك أي نظام اقتصادي لا يتغير في أي مكان. إنه اختبار لقدرته على استغلال إمكانيات القوة الإنتاجية، ويجب ذكر «تدهور» الرأسمالية في إنجلترا والولايات المتحدة، ففي إنجلترا نجد مليونين من المتعطلين. وساءت أحوال الصادرات كالقطن والحديد والصلب، وأصبحت على شفا التدهور والانهيار. أما الصناعات الأخرى فقد اتجهت إلى الحكومة في مسكنة ومذلة للحصول على إعانات تيسر لها سبل العيش. ويمكن وصف هذا الموقف بالتدهور والانهيار.
ويعترف البروفسور جريجوري بأن الأغلبية التي ينالها حزب العمال فجأة ربما تقاوم إذا استمرت في قلب الهيئات الاقتصادية، إلا أنه ينظر إلى مثل هذه المقاومة على أنها اعتقاد في الرأسمالية، لا كدليل على تدهورها.
ومن العسير معرفة ما يعنيه البروفسور جريجوري عندما يذكر «الأغلبية التي يحصل عليها العمال فجأة»، فالانتصارات الانتخابية دائمًا ما تئُول إلى مثل هذه الانتصارات في نظر الأحزاب المهزومة. ففي فترة ما بعد الحرب اعتبر هذا بمثابة وجهة نظر معارضي مستر لويد جورج في الانتخابات التي أجريت عام ١٩١٨م، وكان هذا وجهة نظر حزب العمال عندما فاز حزب المحافظين في انتخابات عام ١٩٢٤م وعام ١٩٣١م. وعندما ينال الحزب الأغلبية، إذ إنه قد وضع برنامجًا أثار مناقشات عدة لمدة طويلة، هل هذا النصر يعد نصرًا؟ وهل هذه الأغلبية هي التي تحدد طابع هذا النصر؟ فإذا كان الأمر كذلك في نظر البروفسور جريجوري فلن يوجد أي حزب يحق له قلب الهيئات الاقتصادية رأسًا على عقب ما لم يؤيده الرأي العام.
ويعتقد البروفسور جريجوري أن الأفراد يفضلون الكفاح لا المحافظة على الهيئات الديمقراطية. ولكن جانبه الصواب في أن ذلك يشير إلى أن الرأسمالية في حالة تدهور واضمحلال، فهو استنتاج خاطئ؛ إذ لا يمكن الجزم بأن هذا المبدأ أو تلك النظم أو هذه الفكرة على صواب لمجرد أن جماعة من الناس قد اقتنعوا بصحته حتى أصبحوا مستعدين للنضال في سبيله. وجدير بالذكر أن عددًا كبيرًا من الناس قد أبدوا استعدادهم للنضال في سبيل الفكرة الملكية في روسيا بعد عام ١٩١٧م، ولكن ليس معنى هذا أن الفكرة لا تندثر، فطالما ينظر بعض الأفراد مثل البروفسور جريجوري إلى طريقة عرض أية سياسة اشتراكية على أنها «قلب للهيئات الاقتصادية رأسًا على عقب»، فمن المشكوك فيه أن يقوم بعض مؤيدي هذا النظام - وهم أقل استمساكًا بعدم التحيز - بإجراء بعض التجارب الاشتراكية، واضعين نصب أعينهم أنه لا يمكن تتبع جذور الفاشستية حتى تدرك مدى التدهور الرأسمالي؛ لأن هذه الجذور تعبر تعبيرًا واضحًا عن موقف ما بعد الحرب في بعض البلاد، إذ نجد أن للعوامل غير الاقتصادية أهميتها، مثلها في ذلك مثل العوامل الاقتصادية.
ولا نعني «تلك الشدائد» في قليل أو كثير بالعيوب الكامنة في الرأسمالية، كما حدث في ألمانيا مثلًا، وينبغي أن نعرف ما يقوم به البروفسور جريجوري من عمل، إذ إنه يضع أفكارًا عن الرأسمالية، وتعتمد صورتها في كل مجتمع على تفاعل مبدأين هما «حرية العمل، وحق الفرد في التعبير عن نفسه من الوجهة الاقتصادية». وتختلف هذه الرأسمالية عن المجتمعات الرأسمالية القائمة عندما نكبح جماح حرية العمل أو التعبير عن النفس. وترجع تلك العيوب إلى التخلص من الرأسمالية لا إلى الرأسمالية العاملة، ولا يعنينا وجود فكرة بحتة عن الرأسمالية، إذ ليست هناك ظروف سياسية يمكن إدراكها حتى تصبح واقعًا ملموسًا. أما عن قيام الدولة الحقيقية بأداة عملها، فيعتبره الرجل المثالي أساسًا واهيًا يقوم عليه نقد الدولة، وينظر البروفسور جريجوري وينظر المفكرون معه إلى قيام الدول الرأسمالية بأداء عملها على أنه أمر غير مقبول بالنسبة لنقد النظرية البحتة عن الدولة الرأسمالية. ولقد حددوا هذه الفكرة بقواعد لن يجرءوا على اختبارها بالحقائق؛ ولذلك نجد أن تدخل الدولة، سواء أكان هذا التدخل في صالح الرأسمالية أم ضدها، يعتبر خروجًا على القاعدة. أما تأثيرها فلا يمكن إرجاعه إلى ما تؤديه هذه القاعدة من عمل.
ولكن إذا اعتقدنا أن الرأسمالية هي ما يقوم به الرأسماليون من عمل، عندئذ يجب علينا أن ننظر إلى تقاليد هذه الدول التي تهيمن عليها المصالح الرأسمالية على أنها من خصائص الرأسمالية التي تتميز بها؛ ولذلك ينبغي لنا أن نعتقد أن قيام الرأسماليين باستخدام سلطة الدولة لحماية مصالحهم هو جوهر الرأسمالية في إطارها الجديد؛ لأن أية فكرة ما هي إلا ما تئُول إليه في خير العمل لا ما قصد منها الأصل عند التفكير فيها. ولا يمكن إخضاع تطور الأفكار للتقاليد التي سادت في المراحل الأولى، ولكن إذا اتخذ الرأسماليون سلطة الدولة على أنها مظهر من مظاهر الفاشستية عندما يدور النقاش حول أمنهم، فإني لا أستنتج إلا أن هذا الاقتران يُعد مظهرًا من مظاهر السبب والمسبب. وتستخدم الرأسمالية وهي تتعثر في طريقها مركز الرأسماليين المرموق في أي مجتمع؛ حتى يكرسوا سلطة الدولة لإخضاع معارضيها، وهي تتعهد للقيام بإجراء التجارب وتخفيض الأجور والقضاء على النقابات والحيلولة دون قيام الإضرابات؛ وذلك لضمان بعض الأحوال التي في ظلها تستعيد المكاسب المادية.
لقد أشرت إلى أن المجتمع ما هو إلا مسرح تشتد فيه حدة الصراع القائم بين الطبقات الاقتصادية من أجل الحصول على مكاسب مادية، أي الحصول على أكبر قسط تجنيه من العملية الإنتاجية. وطالما كانت القدرة على الإنتاج تعتمد على استتباب الأمن؛ فيجدر بالدولة أن تتمسك بالقانون وتحافظ على النظام؛ لكي تحقق هذا الهدف، ولكن عندما تفعل ذلك تجدها وقد أخذت بالضرورة تحافظ على النظام، وتتمسك بالقانون، إذ إن نظام العلاقات بين الطبقات يتضمنها، وما الدولة إلا تعبير عن هذا النظام. أما القانون والنظام في المجتمع الإقطاعي وهما اللذان تتمسك بهما الدولة؛ فهما أمران ضروريان للإبقاء على المبادئ الإقطاعية.
أما في المجتمع الرأسمالي، فإن الدولة تتمسك بالقانون والنظام اللذين يكفلان لها المحافظة على المبادئ الرأسمالية. أما في مجتمع روسيا السوفيتية مثلًا حيث يشترك الجميع في امتلاك أدوات الإنتاج، فنجد أن الدولة السوفيتية تستخدم القانون والنظام اللذين ييسران لها السبل لكي توزع ثمار هذه الملكية العامة، وتخضع الدولة دائمًا لتلك الطبقة التي يخول لها الحق في امتلاك تلك الأدوات. والدولة هي التي تسن القوانين، ولكنها تسنها بحيث تتمشى مع مصالح هذه الطبقة، فإذا قل عدد الملاك في الدولة، فسيتحيز القانون لهذه الحفنة. أما إذا شمل عددهم المجتمع بأسره، فسيسخر القانون لخدمة هذا المجتمع، وسيتحيز له ضد أية مصلحة خاصة.
اضف تعليق