هذا ليس من ضرب الخيال أو المثالية أو الطوباوية، وإنما تجربة خاضتها كل الأمم، فكم من حركات هادئة قد خُلِّدت، وكم من صراعات ثورية وعنيفة قد اضمحلَّت ولا أثر لها في التاريخ الغابر وحتى المعاصر، فالتاريخ لا يعترف بالثوار والمقاتلين كاعترافه بالمصلحين والمفكرين، ولم يضعهم يوما في قائمة العظماء...
تحرير: عصام حاكم

ناقش مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث ضمن نشاطاته الفكرية الشهرية موضوعا تحت عنوان (الانتصار باللاعنف في رؤية الامام الشيرازي) بمشاركة عدد من الباحثين في المراكز البحثية، وشخصيات أكاديمية وإعلامية في ملتقى النبأ الأسبوعي الذي عقد بمقر مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام، هذا وقد قدم الحلقة النقاشية الدكتور خالد عبد النبي الاسدي وابتدأ حديثه قائلا:

النظرة الإسلامية لاستجلاب الآخر؛ هي نظرة بعيدة عن العنف وتميل إلى استبعاده من دائرة بث روح الفكرة بين المجتمع، وهذه النظرة أكَّد عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)النحل125، وكل ما حصل من حروب كانت بطريقة الدفاع لا بطريقة الهجوم، فكانت لغة مقارعة الأفكار بالحجج أسلطَ من السيف وأعلى من لغة العنف، ولمَّا فُتحت مكةُ المكرَّمة ورفع خالد بن الوليد شعاراً مفاده: (اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحُرمة) لم يرضهُ رسول الله (ص) وأمر الإمامَ أميرَ المؤمنين (ع) بتغيير الخطاب إلى قوله: (اليوم يوم المرحمة اليوم تُصانُ الحُرمة)، ومن هذه الفكرة ينطلق الفكر الشيرازي في مفهوم السياسة واستدعاء الآخر.

 وبمراجعة متأنية للفكر السياسي الحديث، وفي مبادئ علم السياسة، والذي يتحدث عن دور الحكومات في العملية السياسية، وبالتعرف على علاقة الحكومة بالمواطنين نصل إلى أنَّ العلاقات الداخلية جزء لا يتجزأ من الفكر السياسي مهما كان توجهه بحسب ما تقرره القوانين والأنشطة اليومية المنظمة لحالات التواصل أو الانفصام بين الحكومة والشعب، والعلاقات الخارجية بين دولة وأخرى. بل أنَّ السياسة الداخلية والسياسة الخارجية هما وجهان لعملة واحدة.

 وإذا واصلنا مسيرتنا، عبر نظريات الإمام الشيرازي ونظريات علماء السياسة الماضين والمعاصرين؛ نصل إلى رؤية تذهب إلى أنَّه: لا انفصال بين السياستين، فبمقدار ما يتمتع البلد باستقرار حقيقي، تنمو العلاقات الخارجية. وبمقدار افتقار الوضع الداخلي إلى الهدوء والاطمئنان والأمان لا تحظى الدولة باحترام الشعوب الأخرى.

 ونظراً لسقوط الأمَّة الإسلامية في مرحلة فقدان الوزن الحضاري، وتشرذمها إلى دولٍ متناحرة، وتمزق أبنائها ما بين التيارات الغربية المادية، يتجلى لنا: إنَّ من الصعوبة بمكان تطبيق الديمقراطية أو الدكتاتورية بنجاح في دول العالم النامي؛ ومنها العالم الإسلامي العربي وغير العربي، لاختلافٍ في الخصوصيات المحلية وطبيعة وسائل الإنتاج وعلاقة الحكومة بالمواطنين، وهذا مُشَاهد وبكل قوَّة في النظم التي قلَّدت التجارب الأوربية غربية أو شرقية متصورة أن ذلك سيضمن لها إحكام سيطرتها على الناس بالإرهاب.

ردع الحاكم في فكر السيد الشيرازي 

 كثيراً ما دعا السيد محمد الشيرازي إلى اللاعنف والدعوة إلى بسط العدل وتنفيذ مبادئ الإسلام، وذلك ما نجده في قوله: (ليس للحاكم حق الدكتاتورية اطلاقاً، وكل حاكمٍ يستبد يُعزل عن منصبهِ في نظر الإسلام تلقائياً، لأنَّه من شرط الحاكم العدالة، والاستبداد الذي معناه التصرف خارج النطاق الإسلامي، أو خارج نطاق رضا الأمَّة في تصرف الحاكم في شؤونها الشخصية؛ ظلمٌ مُسْقِطٌ له عن العدالة) (السياسة: 1/34). 

 وعلى هذا فإنّ الإمام الشيرازي يتجاوز بنظرته الحاذقة الرؤى الغربية، مع أنَّ بعضها مستوحى من كتابات سماحته، ليصل إلى تحديد أكثر علمية وموضوعية لمصطلح (العلم السياسي).

 وإذا ما رجعنا إلى كتب الإمام الشيرازي ككتاب (الصياغة الجديدة) وغيره من كتب سماحته؛ فإنَّنا نراه يستنبط من مرويات التاريخ الموثوق بها، أسساً وركائز يشيِّد عليها سماحته حلول مشكلات العالم المعاصر، الذي أصبح اليوم عالماً أقربَ إلى الجنون منه إلى العقل، وإلى الانتكاس والانعكاس منه إلى التقدم والاستقامة، مُركِّزاً على القيم الأخلاقية والشرعية قبل أي شيء آخر، وعلى ذلك؛ يصبح الاتجاه التاريخي ضرورة في العلم السياسي؛ لأنَّه يُقدِّم لنا منافع كثيرة منها: أنَّه يُقدِّم وضوحاً دقيقاً في فهم العصر الذي نشأت فيه بوادر النظرية السياسية والأداء السياسي الداخلي والخارجي، وكذا المكان والظروف الملابسة لذلك.

 هناك سبعة أسس يبني الفكر السياسي الشيرازي ذاته عليها، من أجل فهم طبيعة النظم السياسية وعلاقتها بمواطنيها وهذه الأسس هي: 

1- استيعاب المناهج والاتجاهات جميعها.

2- تفاعل الانسان والتاريخ.

3- الوحدة العليا (الدولة).

4- الوحدة الوسطى(الجماعات).

5- الوحدة القاعدية (الجماهير).

6- الوعي السياسي.

7- الالتفات إلى أنواع الانقسام في المجتمع والدولة.

 وهذا المنهج الذي وضعه الإمام الشيرازي والذي نستنبطه من بحوثه ومؤلفاته، لم يتكون لدى الشيرازي بمحض الصدفة، بل هو ناتج عملي تطويري مستمر للتنظير السياسي الإسلامي، واستيعاب للعلم السياسي ونتائجه أيضاً.

أسباب العنف

يواصل سماحته تحليل قضية العنف والحرب، فيضع عنواناً يقول فيه: (الشعوب تكره الحرب) يؤكد فيه أنّ الحرب خلاف طبيعة الإنسان: (لأنَّها تفني الأفراد وتهدم الديار وتلتهم الأموال، وتبعث على الخوف والاضطراب، بل وأحياناً توجب هتك حرمات النساء وسبيهن، وإذلال المغلوب، فالأمم لا تريد الحروب، وإنَّما جماعة من الناس لها مصلحة في الحرب هي التي تشعل الحرب وغالباً ما تتجنب ويلات الحرب، فتقف خارج الميدان، بمختلف العناوين، وتدفع بالآخرين إلى الحرب.

 ولذا كان سبب الحرب: إمَّا جلب النفع أو توهم جلبه أو دفع الضرر أو توهم دفعه.

 نعم: قلة من الحروب، هي حرب التحرير، مما تندفع الأمم إليها، لأجل دفع المعتدي على العقيدة الصحيحة، أو على الاقتصاد، أو على ما أشبه ذلك.. ودوافع الحروب لم تتغير في الحال الحاضر عن دوافع الحروب عند الإنسان غير المتحضر، فقد كانوا سابقاً يحاربون لأجل الغنائم أو لأجل إظهار الشجاعة أو لأجل إرضاء الغرور... وعلى ما ذكرنا فتُوُهِّمَ إنَّ الحرب من طبيعة الإنسان مثل الجوع والعطش توهمٌ غيرُ مدعوم بالدليل، ولو كان كذلك لزم تحققها في فواصل زمنية خاصَّة مثل سائر الغرائز الإنسانية مع أنَّ الأمر بالعكس).(الاجتماع: 2/8-9).

وللولوج اكثر في حيثيات وتفاصيل هذا الموضوع تم طرح السؤالين الآتيين:

السؤال الأول: أثبتت الحروب أن العنف تكاليفه باهظة، فهل يستحق هذه التكاليف؟.

السؤال الثاني: ما هو الانتصار باللاعنف على الحرب بحسب رؤية الإمام الشيرازي؟ وهل يُعد ذلك طوباوية خيالية؟.

المداخلات

معنى الانتصار في حقيقته

- احمد جويد، مدير مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات:

ان مفهوم الانتصار يحمل بين طياته معاني مختلفة، وبقدر ما يتعلق هذا الامر بجزئية الانتصار الظاهري او الانتصار الباطني، او بمعنى اخر انتصار مادي وانتصار اخر يسمى معنوي، وهذا ما تجسد قولا وفعلا في واقعة الطف الحسيني، حيث واقع الحال كان الانتصار الحقيقي للأمام الحسين عليه السلام ولثورة الطف الخالدة، التي كانت ولا زالت الى الان تأتي ثمارها، في ذات السياق يمكن الاستعانة بنموذج الدعوة الاسلامية في بدايتها يوم كان مشركو مكة يعتدون على المسلمين وينكلون بهم، ففي مثل هذا الموقف يبدو ان مشركين هم المنتصرين، ولكن من زوايا اخرى الانتصار الحقيقي هو انتصار رسول الله(ص)، الذي ملك قلوب وافئدتهم، ونشر الاسلام في جميع ربوع المعمورة. 

وهكذا هو حال الصراع القائم بين الشر والخير وعلى امتداد التاريخ، بالنتيجة ان الانتصار الحقيقي هو الانتصار العادل والمنصف، ولذلك جاءت توجيهات السيد الشيرازي رحمه الله منصبّة باتجاه اللاعنف والتسامح، وهذه المعطى له انعكاسات مباشرة حتى على الاعداء وعلى المخالفين، والسبب لأنك تواجه البغضاء بالتسامح والسلام والفضيلة. 

تبني مبدأ اللاعنف اضطرارا ام ابتداء!

- الشيخ الدكتور حسين النصراوي، استاذ في كلية العلوم الاسلامية بجامعة كربلاء:

منهج اللاعنف ذات مسار حيوي ومهم، لاسيما وان في مفاصل تلك الدعوة الكثير والكثير من القراءات والفلسفات والرؤى، التي تحاكي ظروف وأجواء الحالة التي تمر بها امتنا العربية والاسلامية، خاصة ما يتعلق منها بالصراع الدائر اليوم ما بين العدو الاسرائيلي وبعض دول المنطقة، علما ان عمر هذا الصراع يمتد الى سبعين عاما مضت.

 من هنا يمكن طرح السؤال الاتي على المتدينين خاصة وعلى المثقفين عامة لمناقشة موضوعة اللاعنف، والكيفيات التي نريد ان نصل اليها في مواجهة العدو الاسرائيلي الغاصب، الامر الاخر ما هو موقف الدين؟ وما هي الادلة الدينية التي يستند عليها منهج اللاعنف، وهل الاسلام دين تبنى العنف او اللاعنف، خاصة ونحن نعيش أهم تفاصيل السيرة النبوية، ناهيك عن سيرة الائمة الاطهار كالامام الحسن والامام الحسين عليهما السلام، وما يحيط فيهما من مناخات تشبه حالة السلم والحرب والمهادنة وما شاكل.

بالاضافة الى ما تقدم هل الاسلام تبنى مبدأ المواجهة باللاعنف اضطرارا ام ابتداء، هذه الاستفسارات وهذه الاسئلة تحتاج منا كنخب دينية اكاديمية ثقافية الى تفسيرات وتحتاج منا الى ادلة، وهذا بطبيعة الحال ليس بالأمر البسيط والهين، خصوصا ما استحضرنا جزئية وتفاصيل نهضة الامام الحسين عليه السلام هل خرج بالعنف او اللاعنف.

 سؤال آخر يمكن طرحه الان هل ينفع اللاعنف اثناء مواجهتنا للعدو الاسرائيلي وهل يثمر؟، وهل نستطيع ان نحقق الانتصار على العدو الاسرائيلي؟، السؤال الذي اليه هل لدينا تجارب حية توثق حالة انتصار منهج اللاعنف؟. 

وفق هذا وذاك ان الصورة لم تتضح بخصوص موضوعة اللاعنف، والاليات التي تستند اليها في هذا الزمان او ذاك او في هذا الحدث او ذاك، لاسيما ان مضامين تلك الدعوة أي الدعوة للاعنف يفهم منها ظاهريا على انها دعوة للاستسلام او عدم استخدام السلاح، وان المواجهة مع الاخر دائما وابدا يجب تكون باللاعنف.

 هذا المعنى لا يمكن تبنيه باي حال من الاحوال، وهو خلاف البديهيات وخلاف سيرة النبي الاكرم (ص)، فاذا كان المقصود قدر الامكان عدم اللجوء الى العنف، ما امكن التوسل باللاعنف، فهذا لا خلاف عليه نظريا، فالكل يجمع على ان الحرب هي اخر الدواء.

هناك استثناءات ومحددات

- الاستاذ جواد العطار، نائب سابق في الجمعية الوطنية:

النص القراني يقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وكذلك: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، هذا من جانب من جانب اخر انا شخصيا سمعت السيد الشيرازي رحمه الله يقول اثناء لقائي بالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات انذاك نصحته بعدم استخدام العنف في الثورة، وحول موقفه من الحرب العراقية الايرانية كان يقول ان الحرب لا غالب ولا مغلوب.

وهذا النهج الرسالي له امتدادات حية بأصل الرسالة المحمدية وسيرة الرسول صل الله عليه وآله وسلم العطرة، بالتالي فان السيد الشيرازي رحمه الله استمد منهج اللاعنف من ذلك المعين، ومن وراء ذلك كانت سيرة غاندي، لكن هناك ثمة استثناءات ومحددات لهذا الاطلاق، خاصة مع وجود طبقة من الطغاة ومن المتجبرين من امثال فرعون او صدام او ما شابه، فهل ينفع اللاعنف، وهل يجدي نفعا، قطعا ستكون الاجابة لا والف لا.

ختاما ان بعض الاشكالات تطرح هنا او هناك وبطرائق شتى من اجل وئد فكرة اللاعنف، وهذا واقعا يشكل خرق لمنظومة الوعي القرآني او السماوي، خاصة مع وجود تلك الالتفاتة المهمة الربانية التي تصف القتال بأنه كره لكم.

فكرة اللاعنف حل جذري

 - الدكتور علاء الحسيني، باحث في مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات: 

ان الانتصار باللاعنف هو مبدئ قرآني في المقام الاول، ومن ثم هو مبدأ انساني وحاجة انسانية ماسة، وان الحروب التي اثيرت في المنطقة وفي العالم، هي حروب خاسرة من دون ادنى شك، والمتضرر الاول والاخير هي الشعوب التي تدفع ثمن تلك الحماقات وهذا الجنون، ناهيك عن ذلك اننا ندفع اثمان باهظة بالأرواح والانفس، ليس هذا فحسب بل للحرب عواقب وخيمة حيث تزرع الحقد والضغينة وتفكك النسيج الانساني والحياتي.

 لذلك ان خيارات منهج اللاعنف هو الدواء لتلك المعضلات، لكن في بعض الاحيان الطغاة والجبابرة لا يمكن ان نجد لهم حل، الا من خلال اتباع اسلوب المواجهة والصدام المسلح، بالنتيجة نحن منسجمين فطريا مع فكرة اللاعنف على انها حل جذري وحقيقي، لمواجهة كل الازمات ومهما كانت على المستوى الفردي والاجتماعي والاسري والاقتصادي والثقافي. 

اللاعنف في العلاقات الدولية

- الأستاذ صلاح الجشعمي، ناشط حقوقي في مؤسسة مصباح الحسين:

ان الحروب مفهومها الحديث هي وسيلة من وسائل العلاقات الدولية، بمعنى ان الاستراتيجيات تستخدام الحرب لتنظيم العلاقات الدولية، وهذا ما لا يستقيم باي حال من الاحوال مع فكرة اللاعنف، التي ترفض جملة وتفصيلا حالة الصراع او الاقتتال ما بين الدول، بالتالي فان وجود حالة اللاعنف يشكل نوع من انواع التعاون او التكامل الانساني والدولي، لكن يبقى السؤال قائما ماذا لو حصل احتكاك ما بين دول واخرى مجاورة، فأي الخيارات هي اقرب الحرب ام اللاعنف. 

 المعنى العميق في انتصار اللاعنف

- الشيخ مرتضى معاش:

ان جميع الادلة القرآنية تشير الى اللاعنف على اعتباره هو الاصل وليس استثناء، بل اكثر من ذلك ان الشرعية تصطف مطلقا مع اللاعنف، وأي فعل خارج اللاعنف يحتاج الى دليل او برهان، لأنه حينذاك سيدخل في كونه تصرفا بالأموال والانفس والاعراض، فيحتاج الى دليل خاص اذا اصبح استثناء، وهي ليست قضية شرعية فحسب بل هي ذات ابعاد قانونية وفطرية، وتمس حالة الحق والباطل، ففي جميع الجهات ترى اللاعنف هو الحاكم الشرعية وعدمها ومن حيث نجاعة النتائج، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) البقرة208، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء107، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما وضع الرفق على شئ إلا زانه ولا وضع الخرق على شئ إلا شانه، فمن أعطي الرفق أعطي خير الدنيا والآخرة ومن حرمه حرم خير الدنيا والآخرة). 

كذلك الامر بالنسبة للدين في غاياته وفلسفته، يقوم هو على شيء اساسي وهو الهداية والرحمة، بالتالي ان العنف هو نقيض الدين في جوهره (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)البقرة256، فعلى هذا الاساس رفع السيد الشيرازي رحمه الله شعار اللاعنف المطلق بدلالة آيات قرآنية منها: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)النور22، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)الحجر85، فالعفو يعني ان يسامح ويغفر لمن آذاه، والصفح ان يقلع أية آثار للضغينة والعتب من قلبه، حيث يقول الامام الرضا (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فاصفح الصفح الجميل) العفو من غير عتاب. مع العلم ان العتب هو ابسط الامور، لكن المطلوب هو افراغ القلب من أي رمزية للعنف تجاه الآخر، وهذا هو معنى العفو المطلق أو اللاعنف المطلق.

وكذلك فان العنف والاستبداد هما وجهان لعملة واحدة، فالمستبد والديكتاتور والطاغية يتغذى بالعنف حين يستغل العنف المضاد للتلبس بالشرعية، وهذا ما لمسناه الان في حالة الصراع الفلسطيني مع العدو الإسرائيلي والذي يبدو انه كسب اليوم معركة ربما، وما نعتقد به ان سيخسر الحرب في النهاية ان شاء الله، حيث ربحوا المعركة باستغلال العنف المضاد لكسب الشرعية في تدمير غزة ولبنان، لذلك فإن العنف هو معركة خاسرة في كل الاحوال ومهما كانت التبريرات.

الى جانب هذا وذاك فان العنف في طبيعته يهدم المبادئ والقيم العليا، لان العنف يتضمن في متلازماته وتداعياته الظلم، فهل يمكن ان يتم ضمان استخدام العنف دون ان يؤدي الى ظلم الآخرين من انتهاكات وتكاليف وتبعات تؤدي الى الاضرار بالضحايا والابرياء، ففي كل الاحوال العنف معركة خاسرة ولن يؤدي الى تحقيق نتيجة، فالعنف يتغذى على الباطل، وحتى الذي ينتصر بالعنف فهو خاسر لانه يفتح مسيرة جديدة من العنف المضاد المستمر، فكل من رسخ دولته ونظامه باستخدام العنف وإن نجح لفترة معينة لكننا شهدنا سقوط جميع تلك الأنظمة وبنفس الأساليب التي مارسوها ضد الناس، بينما اللاعنف في مضامينه الانسانية الفطرية ينتصر لانه يؤدي الى انتصار المبادئ والحقيقة والفضيلة، وانتصار العقل على الغريزة، وانتصار الصبر على الانفعالات، فاللاعنف هو شجاعة التحمل والبقاء متصلدا في ان لا يمارس القوة الغاشمة تجاه الآخرين.

فالآيات القرآنية تشير الى المعنى العميق في انتصار اللاعنف (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران159، بما تحمله من تأكيدات على نبذ العنف والغلطة وسلوك منهج الرحمة واللين والعفو.

وهذا يؤكد على اصالة منهج اللاعنف واهميته في عملية الهداية التي تقود الامة والانسان نحو الصلاح والفلاح والاستقرار والامان.

لذلك فإن الشعوب في الفترة الاخيرة خسرت كثيرا بسبب انفراد مجموعات بقرارات الامة التي لاتحمل شرعية لانه لم تستشر في قرار الحرب وممارسات العنف. وبالاضافة الى القتلى والشهداء الذين ضحية حرب وعنف لا نتيجة فيها، ماذا عن الآثار غير المادية من تحطم نفسي وعقائدي تحمله الاجيال لعقود مديدة، حيث يفقد الناس ثقتهم وايمانهم.

في الختام اذكر لكم رواية من نهج البلاغة عن امير المؤمنين علي (ع): (الْزَمُوا الْأَرْضَ وَاصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ وَلَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَوَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَاسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَقَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُدَّةً وَأَجَلًا).

فلاتأخذنا الانفعالات والشعارات الثورية ونستعجل بالحركة في تحصيل الاهداف والمكاسب، فالدين قائم على الصبر في المدة الطويلة البعيدة المدى حتى يهتدي الناس ويتم بناء الامة بناء معرفيا.

الحرب واتساع ظاهرة الالحاد

- الدكتور لطيف القصاب، إعلامي وباحث اكاديمي:

الانسان كائن متوحش، هذه ما يعتقده العديد من علماء الاجتماع الغربيين، الذين يستمدون قناعاتهم من تاريخ الامم القديمة والحديثة، التي ترى في نفس البشرية جانبها المظلم والمتوحش، وهذا ما فنده السيد الشيرازي رحمه الله في اطروحته القائمة على علم الاجتماع الاسلامي.

بالتالي فان منظور الحرب يشكل علامة فارقة في تخريب علاقة الانسان بخالقه، ولولا ذلك لما اتسعت ظاهرة الالحاد على اثر الحربين العالميتين، عندها كانت الشبهات حاضرا في وجود الرب، بفعل ما خلفته تلك الحروب من ضحايا واضرار انسانية ضخمة جدا، عندها كان موقف السيد الشيرازي رحمه الله يمثل نقطة تحول في تاريخ الحضارة الاسلامية وحتى الانسانية، الذي سلط الضوء على حالة علم الاجتماع الاسلامي المغيب عن الساحة الثقافية والاكاديمية والحضارية.

بالنتيجة ان اللاعنف لا يعني في حقيقة الامر الاستسلام او الضعف، بل يكاد ان يكون قوة وعافية واطمئنان وسكينة.

ثنائية اللاعنف والشورى

- علي حسين عبيد، كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:

تحدث بإسهاب عن شخصية الامام الشيرازي رحمه الله، التي درسها ولأكثر من عقد ونصف من الزمن، تلك الشخصية تعد من كبار الشخصيات الانسانية على مستوى التاريخ البشرة، وهذه ليس استنتاج بل هي قراءة واعية لاهم نتاجات ومؤلفات السيد الشيرازي والتي ترجمها فيما بعد الى سلسلة رؤى وافكار للأمام الشيرازي رحمه الله.

هذه الشخصية تكاد تكون مختلفة عن اقرانها لأنها تمتاز بالواقعية وخيالية وطموحة، بل اينما تحل تلك الشخصية تنتج لنا الخير وتنتج لنا الحركة الفعلية، اضف الى ذلك ان فكر الامام الشيرازي رحمه الله يرتكز على ثنائية اللاعنف والشورى، وهذه الثنائية تكاد ان تستقطب كل مفاصل الحياة العامة والخاصة، لتلخق لنا مجتمعا مثاليا.

نظرية اللاعنف والحاجة الى بيئة حاضنة

- الاستاذ باسم الزيدي، مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:

تطرق الى اهم نظريات وافكار الامام الشيرازي رحمه الله، الذي كان ولا زال يبهر الناس بكتاباته ونظرياته، لاسيما وان نظرية اللاعنف التي جاءت في كتابه اللاعنف في الاسلام، بالإضافة الى اصداراته الاخرى المتنوعة، التي تناولها فيها العديد من المسائل ومن بينها مسالة اللاعنف، الامام الشيرازي رحمه الله كان من ابرز مراجع الشيعة الذي اصل لهذه الفكرة الجوهرية.

خصوصا وان مسارات ذلك الفهم جاء بسبب ما يطرح من استفسارات واسئلة تخص هذا النوع من الاشكال، لذلك من يتابع اصدارات الامام الشيرازي رحمه الله وبتمعن يجدها في غاية الروعة، خاصة عندما يضع نصب عينيه شريطين اساسيين لتطبيق أي نظرية او أي فكرة، هذان الشرطان يقومان على الوعي الجماهيري والقيادة الحكيمة، لذلك دائما ما يكرر مفردة ان مشكلة الامة هي قلة الوعي والاستبداد.

بالتالي ان نظرية اللاعنف تحتاج الى بيئة حاضنة يتوفر فيها هذين العنصرين او هذين الشرطين، اللذان كانا متوفرين في صدر الاسلام وفي شخص رسول الله(ص)، لذلك فان رؤية الامام الشيرازي لفكرة اللاعنف تتمحور حول اربعة امور رئيسية لخصها في كتابه، العامل الاول هو النص الوحياني او القرآني، العامل الثاني هي القوة الايجابية، اما بالنسبة للعامل الثالث فيتشكل من كون اللاعنف مبدأ يتوافق مع السلم العالمي ومع الضمير العالي، اما بخصوص الفاعل الرابع ان اللاعنف لا يمثل الاستسلام او التراجع. 

ختاما ان الامام الشيرازي رحمه الله كان يدعو الى التنظيم، لأنه من اهم اسس الحياة وقوامها، لذلك نرى الضابط القراني دائما ما يدور في فلك الركون الى السلم والى السلام والي السكينة بمعناها الاعم والاشمل ورفض الاعتداء والظلم.

المسؤول عن صناعة اللاعنف

- عبد الصاحب الكيشوان، مؤسسة مصباح الحسين (ع):

يستفسر عن الجهة التي تضطلع بدور صناعة اللاعنف عند الناس وعند المجتمع، هل هو دور الحاكم، ام دور النخب الثقافية، ام دور المؤسسات الدينية او غيرها، لاسيما اذا ما استعرضنا تفاصيل عهد امير المؤمنين (ع) لمالك الاشتر، نخص بالذكر منها..(واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فانهم صنفان:إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه).

من هنا نستشف ان قضية حضور العدل والصفح عند الرئيس اتجاه المرؤوس حالة مهمة واساسية، لنشر العدل والانصاف في كل مؤسسات تلك الدولة. 

الثقافات المهووسة بالقتل والقتال

- محمد علاء الصافي، باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:

نظرية اللاعنف التي آمن بها السيد الشيرازي رحمه الله وتحدث عنها، هي في الاساس ذات نهج متطابق مع السيرة المحمدية الكريمة، وهو بمثابة انقلاب صريح وواضح على كل معتقدات وثقافة العرب قبل الاسلام وما بعده، لاسيما ونحن نعيش اجواء تلك الثقافات المهووسة بالقتل والقتال واغتصاب الحقوق، التي لولاها لما شهد عالمنا العربي هذا الفيض من الثورات والانتفاضات الشعبية والجماهيرية التي قادتها الشعوب المقهورة.

بمعنى آخر ان مفهوم المصالحة والمصارحة ما بين القيادة والجماهير كان غائبا او مغيبا او مفقودا تماما، وهذا ان دل على شيء فيدل على ان نظرية العنف متجذرة في هوية الانسان العربي والشرقي، بالنتيجة ونحن في العام (2025) حينما يطرح اليوم مفهوم العفو في مجلس النواب العراقي، نجد صدى تلك الاصوات الرافضة للعفو تملأ اركان ذلك المجلس.

 بالتالي ان مفهوم العفو غير موجود، ناهيك عن عدم تقبل فكرة الاحتجاج والمعارضة، التي تحتاج للتأصيل والنضوج في نفس من يمتلك زمام السلطة في العراق او في غير العراق. 

تعميم فكرة السلم والامان عند الاطفال

- الكاتب حسين علي عبيد، باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

ان الآية الكريمة.. (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ هي خير شاهد على نظرية اللاعنف، والادلة بهذا الخصوص تكاد لا تعدى ولا تحصى، فعلى سبيل المثل لو اتينا بطفل صغير ووفرنا له بيئة صحيحة وسليمة، سيكون على استعداد تام على مصافحة أي انسان وتقبيله، ولن يكون عدائيا بالمرة، والسبب لانه لا يعرف الكره والضغينة، وهذا نابع من الفطرة السليمة التي تميل للسلام.

بالتالي ان تعميم فكرة السلم والامان عند الاطفال ستوفر لنا بيئة صالحة وامنة، الى جانب ذلك فان تكاليف ونفقات مبدئ العنف باهظة جدا، لذلك ان مستلزمات الاستعانة بالعنف من عدمه مرهونة بالعديد من العوامل والمؤثرات المحسوسة والملموسة، وما يترتب عليها من نتائج منظورة او غير منظورة. 

مثلث نظرية اللاعنف

- حيدر الاجودي، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

ان السيد الشيرازي رحمه الله استمد نظرية اللاعنف من القيم الانسانية عموما والاسلامية على وجه الدقة والتحديد، الى جانب ذلك ان من اهم مقومات وجود تلك النظرية، هو ذلك الارتباط الروحي مع الرسالة المحمدية، ومع القران الكريم، ومن امير المؤمنين عليه السلام.

 لذلك فان قوام وجود نظرية اللاعنف يتطلب ثلاثة مراحل.. اولا تحتاج الى وعي جماهيري ناهض ويميل للقبول بالاخر، ثانيا تحتاج الى قيادة حكيمة تؤمن باللاعنف ايمان حقيقي وراسخ، ثالثا تحتاج تلك النظرية الى بعد استراتيجي والى الصبر.

بالنتيجة اذا ما اردنا تطبيق هذا المفهوم وهذا النهج علينا ان نبدأ اولا بأنفسنا ومن ثم محيطنا الاسري والاجتماعي، وعند اكتمال هذا المثلث من البديهي جدا ان يترسخ لدينا منهج اللاعنف في حياتنا وفي عالمنا المعاصر. 

العنف والعنف المضاد في الحركات الثورية

- محمد علي جواد تقي، اعلامي وكاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:

ان فكرة اللاعنف هي مصطلح ثقافي، وان قضية الحرب هي سياسية بامتياز، وهذا ما اتوصل اليه السيد الشيرازي رحمه الله في ثمانينيات القرن الماضي عندما طرح فكرة اللاعنف، في تلك الايام تشكلت العديد من حركات التحرر في ايران، والتي كانت تميل لفكرة استعمال العنف واستعمال القوة كخيار اولي، بالتالي جاء هذا المفهوم منسجما مع تعاليم ديننا الحنيف والسنة النبوية الشريفة ومع معالجة هذا التوقيت الفكري والثقافي.

لذلك كان الامام الراحل رحمه الله يذكر الحركات الثورية بحقيقة ان استعمال العنف والعنف المضاد، لا يولد الا انعكاسات مضرة وخطيرة تهدد السلم الاجتماعي والثقافي، بمعنى ان ادوات التغيير والاصطلاح لا بد ان تكون سليمة وصحيحة، الامر الاخر ان الوعي الشيعي وعلى طول الخط يحمل راية السلم والسلام والتدين ونشر الوعي.

 وهذا ما لمسناه حرفيا في اهم الحركات الشيعية، في مقابل ذلك هناك تيارات اخرى فكرية جهادية دينية، تحمل على عاتقها مسؤولية الايمان بالقتل والقتال ونحر الناس وتعذيبهم، بالتالي هناك بون شاسع ما بين النظريتين وما بين تلك الثقافتين، ثقافة تؤمن بالسلم والسلام، واخرى تؤمن بالقتل والقتال، من هنا قد يسئل سائل كيف يتم المزواجة ما بين هذين النقيضين.

رؤية الإمام الشيرازي لبناء مستقبل أكثر إنسانية

- الأستاذ أنور الجاف:

إن الحروب تحمل تكاليف إنسانية واقتصادية واجتماعية باهظة لا يمكن تبريرها أمام النتائج التي غالباً ما تقتصر على الخسارة والدمار، والعنف يعمق الكراهية ويمهد الطريق لصراعات مستقبلية مما يجعل تكلفته تفوق أي مكاسب مؤقتة.

 الحروب لا تُنهِي الصراعات بل تُعيد تشكيلها بأشكال أشد قسوة، الحلول السلمية المستندة إلى الحوار والتفاهم تظل البديل الأنجع لضمان الاستقرار والازدهار بعيداً عن الحروب، ولتحقيق مجتمع أكثر إنسانية وعدلاً.

الانتصار باللاعنف في رؤية الإمام الشيرازي يعتمد على المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي تجعل الحوار والتفاهم أساساً لتجاوز الخلافات، بدلاً من اللجوء إلى العنف الذي يترك آثاراً مدمرة، فقد يُنظر إلى هذا النهج أحياناً كتصور طوباوي لكن التجارب التاريخية أثبتت عكس ذلك، حيث نجحت حركات سلمية مسالمة مثل الماهاتما غاندي في الهند ومانديلا في جنوب أفريقيا في إحداث تغييرات جذرية بالاعتماد على اللاعنف.

 واللاعنف ليس مجرد خيار مثالي، بل أداة عملية تحتاج إلى إرادة سياسية ومجتمعية واعية وإلى إيمان عميق بأن السلام والعدالة يمكن تحقيقهما دون إراقة الدماء.

 رؤية الإمام الشيرازي تضع أسساً متينة لبناء مستقبل أكثر إنسانية واستقراراً بعيداً عن دوامة العنف التي لا تنتهي.

التاريخ لا يعترف بالثوار والمقاتلين

- الأستاذ حسن كاظم السباعي:

العنف مهما كان ضئيلا وقليلا فإنه كالنار التي تضرم في الهشيم لتتسع بلا حدود، حتى ولو كان هذا العنف على مستوى الكلام والشجار اللفظي "وإن الحرب أولها الكلام"، فما بالك إن كانت بدايتها من الأساس الحروب والمعارك وبأعلى مستوياتها، هذه التكاليف الباهظة الناتجة عن العنف تولد مضاعفات أخرى كاعصار يحرق الأخضر واليابس متعدية لكل حدود الإنسانية والأخلاق، وممارِسة كل أنواع الفجور في الخصومة، ومنتهكة لكل الحرمات اللامشروعة، لا يسلم منها لا الميت السابق ولا الجيل اللاحق، حيث يبرز أسوأ ما في الطبيعة إلى الظهور، فأي قيمة تبقى لهذه التكاليف وأي فائدة أو نفع؟

 وعلى العكس من ذلك؛ إن كان اللاعنف سيد الموقف فإنه يُبرز أفضل ما لدى الطبيعة البشرية إلى الظهور، من عفو وسماحة وعزة وقوة وهو النصر الحقيقي الذي يُركع الخصم، ويمكن ذكر مثال تلك المرأة التي فقدت ولدها في أفريقيا الجنوبية حيث راح ضحية سلطة التمييز العنصري ضد السود، وحينما تمثل قاتل ولدها أمامها قالت له: "إنني عفوت عنك، ذلك لأنه أشفى لغليلي وأشد عقوبة لك.."، مما لا يماثله أي ثأر او انتقام آخر.

 وبناء على هذا الأساس؛ فالانتصار بالعنف -إن سمي انتصارا-هو الأمر الخيالي المستحيل الذي لن يتحقق، لا العكس؛ حيث الانتصار باللاعنف هو المستدام والمعترف به بقوة ومن قبل جميع الأطراف.

 من هنا يرى الإمام الشيرازي أن العالم يتجه نحو منحنى التخلي عن العنف والتوجه نحو العقلنة، ذلك لأنه لا يصح إلا الصحيح حيث يقول: "لو ضغط الرأي العام العالمي على أن يبدل الرؤساء، آلة الحرب والهدم بآلة السلم والبناء، لكان للعالم اليوم وجه آخر وصورة أخرى تخلو إلى حد كبير من الفقر، والجهل، والمرض، والفوضى، والبطالة و...، وقد لا يصدِّق أحد: أن يتخلى العالم عن ترساناته العسكرية والنووية في الوقت الحاضر، لكن العقل يحكم بذلك في السنوات القادمة.. فإذا صار العقل سيد الموقف، انهارت تلك المؤسسات العسكرية، ونشأت مكانها المؤسسات العمرانية والاقتصادية التي نحن اليوم في أمس الحاجة إليها".

وهذا ليس من ضرب الخيال أو المثالية أو الطوباوية، وإنما تجربة خاضتها كل الأمم، فكم من حركات هادئة قد خُلِّدت، وكم من صراعات ثورية وعنيفة قد اضمحلَّت ولا أثر لها في التاريخ الغابر وحتى المعاصر، فالتاريخ لا يعترف بالثوار والمقاتلين كاعترافه بالمصلحين والمفكرين، ولم يضعهم يوما في قائمة العظماء، وأيام الثائر أو المقاتل لا تتعدى أيام حياته مهما كان في صدارة الأحداث والأخبار، أما المصلح الذي يعمل بهدوء يتجاوز حدود عمره ويبقى الملهم عبر الأجيال.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق