انحراف (الانسان، العالم، الحاكم) عن بوصلة الإسلام ورسالته الإنسانية الى غياهب الانانية التي تتحكم فيها المصالح الشيطانية الخاصة والشهوة المادية الانية، فيجتمع اهل الانحراف ليحكموا الانسان باسم الدين، وهو منهم براء، وفق مصالحهم واهوائهم لا وفق مصلحة الانسان الذي كرمه الله.. الأديان السماوية تقوم على...

في معرض رده على من لا يعرف معنى وهدف الإسلام، او من يحاول ان يكيل التهم له من دون بينة او دليل، يصف المرجع السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) الإسلام كدين للحرية والعدالة الاجتماعية وينزهه عن كل شائبة تصفه بخلاف ذلك بقوله: "لا دكتاتورية في الإسلام، لا في الحكم ولا في المرجعية الدينية، ولا في الأحزاب والحركات والتنظيمات، فالإسلام دين الحريات والعدالة الاجتماعية"، ومع هذا يقف البعض حائراً بين امرين متناقضين في واقعهما خلال البحث عن حقيقة الامر هما:

1. بين واقع مزر تمثله أنظمة وحكومات وغيرها ممن تدعي انتمائها للإسلام كعقيدة ومنهاج وهي تعيش قمة التخلف والدكتاتورية والاستبداد.

2. بين ما يطرح من نظريات وأفكار وكتابات تصف الإسلام كدين للحريات والعدالة الاجتماعية والشورى واللاعنف والاستشارية ونبذ الاستبداد والعنصرية...الخ.

ان الحقيقة، كما يراها السيد الشيرازي، تكمن في انحراف (الانسان، العالم، الحاكم) عن بوصلة الإسلام ورسالته الإنسانية الى غياهب الانانية التي تتحكم فيها المصالح الشيطانية الخاصة والشهوة المادية الانية، فيجتمع اهل الانحراف ليحكموا الانسان باسم الدين، وهو منهم براء، وفق مصالحهم واهوائهم لا وفق مصلحة الانسان الذي كرمه الله (عز وجل)، فالإمام الشيرازي يعتقد جازماً ان الأديان السماوية تقوم على "مصلحة الإنسان، لذلك فإن للأديان وخصوصاً الإسلام القدرة على اقتلاع جذور الأفكار الضيقة المبنية على مصلحة القوم أو الفئة أو العرق أو اللغة أو الجغرافية، وبالدين تكونت أمم عامرة وقامت حضارات زاهرة".

ان الهدف الأسمى الذي جاء ليحققه الإسلام هو تحرير الانسان من قيود العبودية والتبعية للأخر باي صورة كانت واي ثوب ارتدى: "لقد جاء الإسلام ليخرج عباد الله من عبادة الناس إلى عبادة الله، فالإسلام دين الحرية والتحرر"، ولا يتحقق هذا المعنى الا من خلال "الإسلام الواردة أحكامه في الكتاب والسنة وحده هو القادر على دفع المسلمين إلى الأمام وتحرير أراضيهم لا الإسلام الذي يتخذه الحكام ذريعة لاستبدادهم"، لذلك فالسيد الشيرازي يسجل حقيقة مهمة للتاريخ مفادها "أن الإسلام ليس بهذا القدر الذي يعمل به المسلمون اليوم، وإنما هو أوسع وأشمل"، فالإسلام الذي يقصده الامام الشيرازي ما يطلق عليه "الإسلام بمعناه القرآني" الذي يقصده بقوله: "الإسلام بمعناه القرآني الذي طبقه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وسار على نهجه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يهدف لإنقاذ الإنسان من براثن العبودية والظلم والجهل والاستغلال والفقر والمرض والجشع والفوضى"، وانما يؤكد السيد الشيرازي على الإسلام بمعناه القرآني لأنه الوحيد القادر على ضمان مصلحة الانسان من خلال:

1. مناهج الإسلام وقوانينه توفر الأجواء الحرة لكي ينال كل إنسان القدر الممكن من العلم، ومن الحكم، ومن المال.

2. ضمن الإسلام لكل الناس حرياتهم المشروعة.

3. يهدف الإسلام لإنقاذ الإنسان من براثن العبودية والظلم والجهل والاستغلال والفقر والمرض والجشع والفوضى.

4. وفر الإسلام الإنسانية والتعاون والخدمة والرفاه والثقة المتبادلة والاطمئنان والحياة السعيدة والاكتفاء الذاتي ورخص الأسعار والحوائج الجسدية والنفسية، وبهذه كلها شيد المسلمون حضارة إسلامية إنسانية كاملة.

5. ان الإسلام يعتبر "حضارة قائمة لا في المبادئ فحسب، بل في الممارسات العملية لغير الحكم".

6. الإسلام دين المحبة والألفة والطيبة، ودين الروابط الحسنة، والعلاقات الإنسانية الصادقة، ودين الإخوة بما للكلمة من معنى، اذ "يرى الإسلام أن كل المسلمين، وجميع المؤمنين إخوة مهما اختلفت أصولهم ولغاتهم، وصورهم وألوانهم".

7. لم يكن الإسلام خاصاً بأمة من الأمم، كما أنه لم يكن لفترة معينة من الزمن بل هو لكل الأمم ولكل الأزمنة، وقد بين علاج أي مشكلة يمكن أن تحدث في عصر من العصور، حاضراً ومستقبلاً، كما أنه تدارك حدوث المشكلات قبل تحققها بوضع الطرق الوقائية السليمة للحيلولة دون وقوعها.

8. شعار الإسلام هو السلام، وليست الحرب والمقاطعة.

9. اهتم الإسلام كثيراً بالرأي العام لما له من أثر في استقرار وضع المجتمع ومتطلباته واستعداداته في مختلف الجوانب.

10. الإسلام قائم على مبدأ الشورى، اذ "ينبغي أن يكون الأمر شورى، فلكل فرد رأي يؤخذ به، لكيلا يكون استغلال ينتهي إلى التشتت والاضمحلال، أما أن يقول أحد: إني أكثر فهماً فلي حق القرار، أو يقول: أني أعمق في الرؤية المستقبلية، ولي حق أخذ القرار في هذا الموضوع أو ذاك، فهذا هو الاستغلال بعينه.

لقد بين الله (سبحانه وتعالى) ان الهدف هو تحرير الانسان من العبودية والتبعية لغير الله (عز وجل) ورفع القيود والاغلال المصطنعة التي كبل بها الانسان نفسه والعودة الى الفطرة الإنسانية السليمة، كما في قوله تعالى: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) الأعراف: 157، وبذلك يتحقق المرجو من سعادة الانسان وابصاره لنور الحقيقة، كما في قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) البقرة: 257، ان عدم استيعاب هذا المعنى والهدف الذي يسعى الإسلام وباقي الأديان السماوية الى تطبيقه بين المجتمعات الإنسانية هو ما أوقع الاخرين في جملة من الإشكالات التي لم تفرق بين "الإسلام بمعناه القرآني" وإسلام المستبدين الذي أراد الحكام والديكتاتوريون ومن معهم على خداع الناس من خلاله لحكمهم واستعبادهم من اجل تحقيق مصالحهم الخاصة فقط.

ولمعرفة أصل المشكلة، وتحديداً في بلاد المسلمين، وكيف انحدر الواقع الى ما نحن عليه اليوم من ظلم واستبداد وقمع للحريات وتكميم للأفواه والاستخدام المفرط للعنف وانعدام العدالة الاجتماعية والتخلف والجهل والفساد والفقر، يحدد الامام الشيرازي سبيين رئيسين لذلك بقوله "المشكلة في بلادنا تكمن في أمرين":

اولاً/ مشكلة الحكام وحكوماتهم الظالمة: (لقد فشل كثير من الحركات والأحزاب الإسلامية في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي بسبب عدم التزامها بأخلاقيات العمل والسلام):

الصنمية هي المشكلة الرئيسة في تشكيل الحكومات الظالمة والحكام المستبدين، فالحاكم او الحزب هو الأساس الذي يدور حوله الحق، وما عداه فهو باطل ولا يجوز الاخذ به " كثيراً ما يصبح التنظيم صنماً ويكون هو المحور، لا الحق، وهذا أخطر ما يقع فيه التنظيم الإسلامي، لأنه إذا صار التنظيم صنماً فلا يكون إسلامياً، لأن الحق يجب أن يتبع، والتنظيم يجب أن يكون آلةً لتطبيق الحق لا أن يكون معياراً فيبتعد عن الحق"، لذلك "ينبغي ألا يجعل من التنظيم -الحزبي أو الحركي- صنماً ويكون معياراً في الأخذ والعطاء والرد والقبول، وإنما يكون وسيلة إلى إقامة ونشر العدل وتوسيع رقعة الإسلام وإنقاذ المسلمين من المستغلين، بل وإنقاذ غير المسلمين"، كما "يلزم أن تكون الأحزاب والتجمعات والهيئات وأصحاب المؤسسات العامة، وكذلك جميع المفكرين والمثقفين أحراراً مستقلين للاستفادة من آرائهم وأفكارهم وخبراتهم".

ان الشورى هي وحدها الكفيلة بالقضاء على أي انفراد او استبداد بالحكم، وكما يحدد السيد الشيرازي مكامن الخلل وراء ظهور الاستبداد بقوله: "من أسباب ظهور الديكتاتوريات الموجودة (اليوم) في بلدان المسلمين عدم تطبيق قانون الشورى في الحياة اليومية، الفردية والعائلية"، فانه ينصح الجميع بتقديمها في كل تعاملاتهم لغلق باب الدكتاتورية وما تجره من ويلات وظلم: "ينبغي على العاملين في سبيل الله اعتماد الشورى في كل صغيرة وكبيرة ترتبط بالبلاد والعباد، وتحكيم علقة الأخوة بين أفراد المجتمع، والمساواة أمام القانون، وتوفير الحريات بين الناس، وجعل ميزان التفاضل هو التقوى والفضيلة، وتعميم العطف والرحمة، والتعاون والخدمة، واحترام العقل والعقلاء والفكر والمنطق".

ثانياً/ مشكلة غياب الوعي والثقافة عن الأمة:(ترسم الثقافة اتجاه الإنسان، إن خيراً فخير، أو شراً فشر، وإن التغيير الثقافي يفتح نافذة واسعة على التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي):

يرى الامام الشيرازي ان "البداية من الثقافة"، وهي حقيقة توضح جوهر الإسلام الذي لم يبن على التنجيم او الجهل او تغييب العقل، بل على الثقافة والعلم والقراءة والتفكر في خلق السماوات والأرض، وكلما انحدر المستوى الثقافي للامة غاب وعيها عن الادراك الجاد والشعور بالمسؤولية التاريخية والعكس صحيح، لذلك يؤكد الامام الشيرازي على ان: " الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع، وهي التي تعين مستقبل الأمة، فالثقافة الإسلامية الأصيلة تجعل الأمة تسير سيراً متميزاً في الحياة، فكرياً، وعملياً، ونظرياً، وسلوكياً، والمسلمون في الصدر الأول تحلوا بهذه الثقافة فحرروا نصف الكرة الأرضية بعد أقل من ثلث قرن من بداية جهادهم المقدس في السنة الأولى للهجرة، وإن التثقيف أمر بالغ الأهمية، إذ أنه سبب التغيير إلى الأحسن أو الأسوأ، وقد أغفل المسلمون أهمية التثقيف وتناسوه في الوقت الذي أدرك –الآخرون– أهميته، وراحوا يعملون بكل طاقاتهم في هذا السبيل".

كما نصح بضرورة: "السعي الجاد لرفع المستوى الثقافي والوعي الديني لدى المجتمع الإسلامي، وذلك من خلال استخدام وسائل الإعلام العامة، بدءاً من الأقمار الصناعية ووكالات الأنباء، وانتهاء بالكتب والمجلات والصحف وأشرطة الكاسيت وما إلى ذلك، وأقل ما ينبغي توزيعه ونشره من الكتب التوعوية هو ما يقرب من ملياري نسخة كتاب يعني ما يساوي عدد المسلمين اليوم في العالم الإسلامي".

والخلاصة فان سعادة الانسان تكمن في تخلصه من القيود المصطنعة التي قيد بها نفسه اولاً او التي فرضها الاخرون عليه، لكي يعيش بسعادة ويزن الأمور بميزان الحقيقة لا ميزان الباطل، ويضع كل شيء في نصابه الواقعي، فاذا استطاع الانسان كسر قيود التبعية والاستعباد والتخلف والجهل عاش حياة الحرية والكرامة والتحرر، وخرج من الظلمات الى النور، وبخلاف ذلك سيبقى في قعر البئر الى ما شاء الله.

والإسلام بمعانيه العظيمة، وأهدافه السامية، جاء ليخلص الفرد من قيود الاستعباد الى الحرية، ومن الجهل الى العلم، ومن الظلمات الى النور، ومن الاستبداد الى الشورى، وقد ازدهرت الحضارة الإسلامية عندما اكتسبت الامة هذا الوعي من الثقافة الإسلامية، وسارت بالأخذ بأسباب التطور والرقي، لكنها انحدرت الى أدنى مستوياتها الثقافية والابداعية عندما ابتعدت عن هذا المسار.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2020Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق