موسوعة الفقه الاستدلالي ذات المائة والخمسين جزءًا للإمام السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي أثبتت أنه لم يكن الأمر بحاجة إلى تجديد الخطاب الديني ولا التنقيح ولا الإصلاح، كما أنّ شموليته واتساعه في مختلف المجالات قد لبَّت كل متطلبات العصر، وإضافة إلى ذلك فإنَّ بلاغته...
بين الفينة والأُخرى تتطرق إلى مسامعنا نداءات بضرورة ما يسمّى بـ "تجديد الخطاب الديني" أو "الإصلاح الديني" أو "تنقيح النصوص الدينية" أو مصطلحات من هذا القبيل، وغالبًا ما تطرح تلك الأصوات من قِبل التيارات الدينية أو الحداثة الدينية، والهدف منها هو إظهار الدين بصورة وتناسب عقليات من لا يؤمن بالدين، أو تماشيًا مع الأطراف التي ترى الدين لا يواكب متطلبات هذا العصر.
أمّا التيار اللاديني أو (العلماني) -إن صح التعبير- فإنَّه يدعو صراحة إلى إلغاء الدين وحذف كل ما يمت إليه بصِلة، مستهزئًا بالنصوص الدينية وساخرًا بالمؤمنين بها من خلال انتقاء بعض النصوص وتأويلها حسب الأهواء. وغالبًا ما تكون العلة من وراء ذلك؛ هو عدم استيعاب المفاهيم الدينية، حيث إن هؤلاء لو فهموها لكان يثبت لهم بوضوح أنها لا تنافي متطلبات العصر ولا تعارض العلم ولا تحارب الحضارة أو الحداثة.
ولربما أنّ البعض منهم قد فهمها فعلًا إلا أنَّ الرغبات السياسية أو بعض المصالح الأُخرى ألزمته أن يطعن في الدين ظلمًا وطمعًا، وبالمثل هنالك منهم من رأى بعض الممارسات الخاطئة من قبل بعض المحسوبين على التيار الديني فأخذ جهلًا يشكك في أصل الدين.
من هنا وبناءًا على هذه المقدَّمة؛ فإنَّ موسوعة الفقه الاستدلالي ذات المائة والخمسين جزءًا للإمام السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي أثبتت أنه لم يكن الأمر بحاجة إلى تجديد الخطاب الديني ولا التنقيح ولا الإصلاح، كما أنّ شموليته واتساعه في مختلف المجالات قد لبَّت كل متطلبات العصر، وإضافة إلى ذلك فإنَّ بلاغته وسهولة بيانه رغم عمق مواضيعه قد جعلتها قابلة للفهم والاستيعاب مخاطبة الناس على قدر عقولهم، حيث رغم فكره التقدّمي، إلا أنه أصيلًا في مشربه الفقهي، وعميقًا في الفكر العقائدي.
وفي هذا الصدد يقول الشيخ شاكر الناصر: "جاءت موسوعة الفقه واضحة في عباراتها متينة في تراكيبها، وهذه طبيعة في سماحته توجد في كل كتبه، إنه يكتب ناظرًا إلى مستوى من يقرأ له، لا إلى مستوى نفسه وكذا ينبغي أن يكون كل كاتب، ولا يظنن أحد أنه ليس بمقدور السيد أن يخرج عن ذلك ويصنف كتبًا يستخدم فيها أسلوبًا لا يتيسر فهمه للكثيرين إلا بمدرس يشرح لهم العبارة كما هو الحال في كفاية الآخوند الخراساني مثلًا، إذ لو أراد سماحته أن يجري في هذا المضمار لما بزّه أحد فيه وكتابه الأصول (مباحث الألفاظ) يشهد له بذلك، إذ أن من يقارن بينه وبين أحد أجزاء موسوعة (الفقه) يرى الفرق بيّنًا". (١)
ومع أنَّ هذه الموسوعة الفريدة جاءت في باب الفقه وهوما يرتبط بفروع الدين من عبادات ومعاملات، إلا أنه لم يغفل عن الجوانب الاجتماعية والسياسية ودراسة الظروف التي أدّت إلى إصدار الحكم والحكمة منها.
وفي هذه العجالة نذكر بعض النماذج والتي منها؛ هنالك رواية معروفة تحثّ على عدم التزويج من الأكراد على داعي أنّهم من الجن، وقد اختلط فهم هذا المعنى عند الكثيرين منهم بعض المراجع والعلماء والمثقفين، فكان منهم من صرّح بكراهية الزواج من القومية الكردية المعروفة، ومنهم من ضعَّف هذه الرواية وطعن فيها، ومنهم من استهزأ بها بشكل خاص وبالشريعة بشكل عام.
إلا انَّ للإمام الشيرازي رأي يطابق الحقيقة حيث يقول: "إنَّ المراد بالرواية غير ما يتبادر بدويًا من ظاهرها، فإنَّ الأكراد من (كرد) وهو الذاهب إلى الجبل، فالمراد به أهل الجبال، حيث إنهم مثل الأعراب الذين قال سبحانه فيهم: الأعراب أشدُّ كفرًا ونفاقًا، فإنَّ طبيعة أهل الجبال الابتعاد عن الحضارة الدينية والمدنية، فالمراد الجفاة، كما أن المراد بالأعراب أهل البوادي الذين هم أهل جفاء وغلظة، فيشمل كل أهل بادية، عربًا كان أو غير عرب، كما أنَّ المراد بالأكراد على هذا كل أهل جبل، كرديًا كان أو غيره، بل الظاهر أن الأكراد إنما سموا أكرادًا لذهابهم إلى الجبال، فلا يشمل الحديث العنصر الكردي المعروف." (٢)
أما النموذج الثاني؛ فمحاولة التيارات المذكورة سلفًا بالتشنيع والطعن ببعض الأحكام الإسلامية كـ موضوع جواز التمتع بالصغيرة قبل البلوغ، وقد وقع في شَرَك هذا الموضوع من لا علم له بحيثياته فصاروا في دوامة بين النفي والضعف والطعن، في حين إنَّ الإمام الشيرازي قد وضّح بداية أنَّ هذا التشريع جاء في ظروف تاريخية معيّنة وفي زمن كان أمر القاصرات من الإماء بيد التجار والنخّاسين، أي أن هذه الأحكام وضعت أصلًا في باب الإماء و العبيد لا في باب النكاح المتعارف، ومنه يتبين أن الاسلام أراد أن يحفظ حقوق المرأة وإن كانت أمة أو قاصرة، بداية بحرمة الدخول قبل البلوغ ثم كراهية مطلق التمتع قبل البلوغ، (٣) ثم الإقلاع التام، كـ التدرّج في حرمة الخمر أو كـ الدعوة إلى تحرير العبيد الذي كان للوعي والمجتمع أثره في تركه بعد أن حثّ الإسلام على العتق بطرق مختلفة في باب الكفارات والاستحباب وغيرهما مما أدى إلى انتهاء العبودية في المجتمع الإسلامي.
وفي هذا الصدد يقول الإمام الشيرازي: "تعارف تلك الأزمنة وطي الجواري الصغار، حيث تتداولهنّ الأيدي من آسر إلى نخاس إلى تاجر إلى غيرهم، فإذا اشتراها إنسان وقد أزيلت بكارتها عندهم أوفي بلاد الكفر لعدم اهتمامهم بغشاوة البكارة كما هو المتعارف الآن عند شيوعي الشرق وكفار الغرب، ولذا ينقل ذهاب بكارة كثير من الصبايا بإخلائهن أو ما أشبه". (٤)
ويؤيد هذا القول ما جاء في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يقع في أيدي النخّاسين شيء إلا أفسدوه". (٥)
وبما أنَّ الموضوع ليس محل ابتلاء كمسألة الإماء والعبيد التي انقرضت فإنَّ التمتع بالرضيعة أيضًا قد انقرض ولذلك لا يتعرّض لهذه المسألة أكثر مما ينبغي. (٦) ولا أثر عملي لمثل هذا الحكم في زماننا هذا سوى إلقاء هذه النظرية؛ أنَّ الفقه الإسلامي لم يترك ثغرة إلا وسدّها وذلك للحفاظ على جميع فئات ومكونات وطبقات المجتمع، فللإسلام نظام إجتماعي رصين قد تفتقده سائر الملل والنحل؛ فهو ينظر إلى الزواج مثلًا على أنه جاء للتأطير لا للإباحية، وما أمر قيمومية الرجل للمرأة إلا من باب رعايتها وإعطاء حقوقها، ولا السيطرة والحكومة عليها، ولذلك فإنَّه بمجرد أن يعقد الرجل على المرأة فإنَّ الولاية تنتقل من والدها إلى زوجها.
وقد يطرح هذا التساؤل؛ لماذا لم يصل أمر الإماء والعبيد للحرمة المطلقة كحرمة الخمر؟، وفي مقام الإجابة يمكن القول؛ أنَّ نظرة الإسلام هي نظرة بعيدة المدى فهو دين صالح لكل زمان ومكان، فلحكمة يعرفها الشارع سواء كانت سابقًا أوقد تقع في المستقبل، فإنَّ أحكام ذلك لا تزال محفوظة سواءًا الأحكام المبتلى بها أو التي ليست محل ابتلاء على حد سواء.
يقول الإمام السجاد علي بن الحسين عليهما السلام: "إنَّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة، ولايُصاب إلا بالتسليم، فمن سلَّم لنا سلم، ومن اقتدى بنا هدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئًا مما نقول أو نقضي به حرجًا كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهولا يعلم". (٧)
ومن هذه النقطة تتفرّع نقطة أُخرى؛ فنعرج إلى نموذج في أمر الاسترقاق وذلك في حالة الحرب؛ حيث يرى الإمام الشيرازي أنَّ مسئلة استرقاق أسير الحرب جاء من أجل الحفاظ على حياة الأسير أولًا، ثم لدرأ الخطر عن المجتمع، ومن ثم اندماجه داخل المجتمع الإسلامي؛ "ذلك لأن حرية الأسير تتزاحم مع أمن المجتمع لكونه عدوًا يتحين الفرصة للعودة إلى الإضرار، وأمن مجتمع أهم من حرية فرد أو مجموعة كما هو واضح، وأن خيارات القائد في التعامل مع الأسير خمسة: ١. العفو بمقابل (الفداء)، ٢.العفو دون مقابل (المن)، ٣.السجن، ٤. القتل، ٥. الإسترقاق."(٨)
فاسترقاق الحاكم لأسير الحرب واجب تخييري ليس حتمي، وخيار الحاكم مع الأسرى يكون وفق المعايير التالية: "فمن لا حول له ولا طول ولا إمكانية له مَن عليه وأطلقه مجانًا، ومن له إمكانية ولا يخشى منه أخذ منه الفداء، ومن يخشى منه بقدر سُجن حتى اذا استتب الأمر وذهب الخوف من تآمره أطلق سراحه بعد مدة من السجن، ومن كان متآمرًا لا يصلح بقاؤه بأية صورة قُتل، ومن لا يكون من تلك الطوائف ويُخشى تآمره إذا أطلق سراحه مما يصلحه إذا كان تحت نظر إنسان أُعطي للمسلمين ليكونوا مشرفين على نشاطاته وفي عين الحال يكون مطلق السراح في البيع والشراء والعمل ويكون بذلك مستعبدًا". (٩)
من هنا وبناءًا على ما سبق؛ فإنَّ ما يطرحه بعض الجهات تحت عناوين "الحداثة" و"التنوير" و"تهذيب" النصوص، إنما هو ناشئ عن قصور في الفهم - سواءًا بقصد أم غير قصد-، مع أن التراث الإسلامي لا يعارض الحداثة والأسلوب المتجدد، وموسوعة الفقه الاستدلالية آية على ذلك حيث صدرت من قِبل من له درك عميق في معاني النصوص.
يقول الشيخ مرتضى معاش: "لابد من تعميق روح التأصل الواعي وتجديد الثقة بالذات وبحضارتنا.. ولا شك فإنَّ طرح تراثنا بأسلوب متعقل ومتجدد يمكن أن يعيد الكثير من الثقة لأبنائنا ويعرفهم بحقيقة حضارتهم وكنوزهم المخفية، مع ضرورة التوفيق بين التراث والحداثة لإيجاد قوة في أفكارنا قادرة على التوافق مع التقدم الزمني والعلمي". (١٠)
من هنا يتضح أن الدين والعلم وجهان لعملة واحدة لأن الشارع هو الخالق وهو أحكم الحاكمين، وعليه يمكن القول: إنَّ الدين الإسلامي علماني بمعنى انه قائم على العلم، إذ العلمانية بمعناها الصحيح تنطبق على الإسلام، أما العلمانية الغربية بما أنها جاءت كرد فعل على الكنيسة التي كانت تدين بالعنف وتتخذ أساليب غير علمية، فلذلك اتهم مسمى الدين بشكل عام بمخالفته للعلم. (١١)
اضف تعليق